الكولونيالية والهويات.. على رأس ملتقى القاهرة الدولي للثقافات الأفريقية

بمشاركة مائة باحث من 23 دولة في القارة

في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى  -  شعار المؤتمر
في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى - شعار المؤتمر
TT

الكولونيالية والهويات.. على رأس ملتقى القاهرة الدولي للثقافات الأفريقية

في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى  -  شعار المؤتمر
في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى - شعار المؤتمر

بعد توقف دام أربع سنوات ونصف، وفي ظل ظروف اقتصادية وسياسية ودينية تعصف بالقارة السمراء وبلدانها، انطلقت أول من أمس فعاليات الدورة الثانية لـ«ملتقى القاهرة الدولي لتفاعل الثقافات الأفريقية»، تحت عنوان «الهوية الأفريقية في الفنون والآداب»، بمقر المجلس الأعلى للثقافة بدار الأوبرا المصرية.
يشارك في الملتقى ما يقرب من مائة باحث ومفكر أفريقي من 23 دولة أفريقية هي: ليبيا، وتونس، والمغرب، والجزائر، والسودان، وإثيوبيا، وأوغندا، وبوروندي، وتشاد، وتنزانيا، وجنوب أفريقيا، وجنوب السودان، والسنغال، وغانا، وغينيا، وساحل العاج، والكونغو، ومالاوي، وموريتانيا، وموزمبيق، والنيجر، ونيجيريا، بالإضافة إلى مصر الدولة المنظمة.
وفي افتتاح الملتقى، أعلن وزير الثقافة المصري عبد الواحد النبوي عن تأسيس «وحدة أفريقيا» بوزارة الثقافة تعنى بكل ما يخص دعم العلاقات والتبادل الثقافي بين مصر ودول القارة، على أن يقوم عليها مجموعة من الأدباء والمثقفين والفنانين بعقد أنشطة ثقافية ترسخ الهوية الأفريقية على مدار العام، مشيرا إلى أن الوزارة تدرس تدشين مركز ثقافي أفريقي دولي مقره القاهرة يقدم أنشطته في أنحاء القارة. وقال: «لا يمكن تجاهل الثقافة كجسر تواصل بين شعوبِنا تقوي أواصر العلاقات، وهي لا تقل أهمية عن العناصر الاقتصادية والعسكرية لأي دولة». وطالب الوزير المشاركين بوضع سيناريوهات مستقبلية لتفعيل التبادل الثقافي، مركزا على أهمية السينما والأدب والفنون كعناصر ثقافية فعالة لمخاطبة الشعوب بقضاياها.
ولفت الدكتور محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، في كلمته إلى أن «أهمية انعقاد المؤتمر باعتباره محاولة لاستعادة القوة الناعمة لمصر، وهو يدل على رغبة عارمة في التخلص من الصراعات التي تضرب أرجاء القارة، وعودة للتأكيد على عمق العلاقات بين مصر والدول الأفريقية، التي هي في الأساس تعود لعصور سحيقة، مشيرا إلى أثر الأزهر والكنيسة المصرية في أفريقيا، وكيف قدمت أفريقيا لمصر الكثير من الأدباء والمؤرخين أمثال عبد الرحمن الجبرتي..»، معربا عن سعادته بتفاعل المشاركين ورغبته في أن يكون الملتقى سنويا ولمدة أسبوع.
وألقى الدكتور معلمو سنكورو، من تنزانيا، كلمة المشاركين، مؤكدا فيها على ضرورة وضع الثقافة كأولوية ضمن برامج التنمية الاقتصادية والسياسية في القارة الاهتمام بالهوية الأفريقية، مشددا على أهمية الثقافات الشعبية وتدريسها ضمن المناهج التعليمية، وخاصة أن القارة بها أعلى معدل لنسب الشباب في العالم، مطالبا المثقفين بمزيد من الجهد لمحاولة صوغ تعريفات للهوية الأفريقية في ظل تنوعها وثرائها.
وصرح د. حلمي شعراوي، مقرر الملتقى، بأن «الملتقى يعقد في أقسى ظروف التعصب والإقصاء والعنف الإرهابي، لكن المشاركين في المؤتمر راغبون بقوة في دعم مراكز الثقافة والتوثيق في القارة وربطها ببعضها البعض، فنحن نوجه عبر هذا الملتقى رسالة للمؤسسات الحكومية لخلق إنجاز فعلي للتفاعل الثقافي بين شعوب القارة».
وقالت الكاتبة والصحافية زبيدة جعفر من جنوب أفريقيا، لـ«الشرق الأوسط»: «أعتقد أن الملتقى يلعب دورا هاما في التواصل مع الكتاب الفارقة لأن اللقاء الشخصي والحوار والنقاش ينقل لنا الكثير مما يحدث في مصر وشمال أفريقيا بعد الثورات». وشاركت زبيدة بورقة بحثية أشارت فيها إلى أن الأشكال الفنية والأدبية السائدة في جنوب أفريقيا تدور حول السياق الأوروبي وأنه حتى في حقب ما بعد الاستعمار تدور في إطار أوسع من الهيمنة الأنجلو أوروبية، حيث لا يوجد متسع لاستكشاف التقاليد والعادات القديمة بدرجة تكفي لتكوين سردية مختلفة. وأكدت أنه مع تحول جنوب أفريقيا باتجاه النضج الديمقراطي أصبحت هناك حاجة ماسة إلى التخلص من التعريفات المقيدة واستجلاء التعقيدات التي تمثل نبض الحياة المحلية في بلد ظل تحت الاستعمار أكثر من 3 قرون.
بدأت أولى جلسات المؤتمر بالحديث عن «الهوية الأفريقية بين التفاعل الثقافي والصراع»، وتحدث فيها الباحث السوداني د. حيدر إبراهيم، عن «الشخصية الأفريقية وتصارع الهويات: زمن العولمة ومخاطر التطرف في القبول والرفض»، مشيرا إلى غموض مفهوم الهوية معتبره أقرب إلى الوهم، وأن بحث الهويات الأفريقية عمل عقيم ومضر مع وجود هذا التنوع الثقافي الهائل وقال: «مصطلح (الزنوجة) في الثلاثينات كان محاولة لتحويل عقدة اللون إلى مصدر فخر، لكن اللون لا يمكن أن يكون هوية وهو ما عاتب به د. محمود أمين العالم الشاعر محمد الفيتوري حينما كتب قصيدة عن اللون».
وألقى باللوم على افتخار بعض الأفارقة بـ«البراءة الكاملة»، باعتبار أن الأفارقة لم يقهروا الطبيعة ولم يخترعوا شيئا يغير من حياة البشر وأنها ليست أرضا للحداثة. وأضاف: «تميزت أفريقيا المعاصرة بفشل الدولة وفشل المجتمع، مما جعلها مكشوفة للعولمة والرأسمالية المستوحشة، والتطرف الديني الإرهابي، وعودة القبلية والعنصرية بأشكال متجددة. وتعجز أفريقيا في عملية الولوج في الحداثة، فتقنع بتجديد الاستبداد وبعث التخلف والتبعية في كؤوس جديدة. وهي مثقلة بالفقر، والجوع، والأوبئة، والفساد والقمع. وهذه ظروف تعمل على (حيونة) الإنسان الأفريقي وتحرمه من أوقات الفراغ، ومن الوصول إلى وسائل الثقافة الراقية والجادة».
بينما ذهب «سابيلو جاتشيني» من جنوب أفريقيا، للحديث عن كيفية تفادي صراع الحضارات، في ظل ما كرسه الاستعمار من تراتبية عنصرية طبقا للكثافات الأنطولوجية المغايرة، مشيرا إلى أن غاية الفكر الإمبريالي والعنصرية العلمية إعادة إنتاج الحضارات الأفريقية في صورة أشكال بدائية، محكوم عليها بالموت. وقال إن «أفريقيا لا تزال تخوض (حربا ثقافية) وعليها أن تحدث تحولا ديمقراطيا في الأبستمولوجيا الأوروبية - الأميركية الشمالية التي تنكر وجود المعارف والثقافات الأخرى، والتي عملت على تجريد الشعوب الأفريقية من إنسانيتها».
واتفق معه مواطنه الباحث «سيمفيوي سيسانتي»، قائلا إن «النخب الأفريقية التي يحركها السعي لاحتكار السلطة سعت للحديث عن تاريخ الأوروبيين في أفريقيا حتى تتمكن من التلاعب بالجماهير، لذلك تستغل فقدان الذاكرة الثقافي الذي تعاني منه الشعوب الأفريقية، والذي تسبب فيه الاستعمار لتزعم أن المحكومين تاريخيا وثقافيا يتقبلون بصورة عمياء وغير نقدية كل شيء وأي شيء يمليه عليهم حكامهم».
ودعا العميد السابق لمعهد البحوث والدراسات الأفريقية «السيد فليفل» إلى بلورة رؤية ثقافية واضحة للاتحاد الأفريقي، مطالبا بتأسيس «المفوضية الأفريقية للشؤون الثقافية» لتصحيح صورة الأفارقة في العالم، وطلب من المؤرخين والروائيين والمفكرين والسينمائيين والصحافيين، التركيز على الجوانب الإيجابية للشخصية الأفريقية في أعمالهم حتى يشكل هذا حافزًا على التفاؤل ومقاومة الإحباط ويمنع الأجيال الجديدة من الاستسلام للتخلف والقبول به باعتباره واقعًا لا مناص منه.
وحول دور وسائل إعلام العولمة المؤثرة في الثقافة الأفريقية، تحدث الكاتب الإثيوبي سولومون هايليماريام، عن تأثر الإنسان الأفريقي بوسائل الاتصالات الحديثة، لكن العولمة استطاعت تجريد الشباب من جذورهم الثقافية وأصبحوا يقلدون كل ما هو أوروبي وأميركي متخلين عن أزيائهم وتقاليدهم، مشيرا إلى أن الصورة العامة لأفريقيا لم تتغير في ظل العولمة، بل يعاد تكريسها وفقا لاستراتيجيات الدول الأوروبية الرأسمالية.
بينما تحدث النيجيري «ساليسو بالا» عن «التقاليد والحس التاريخي في الأدب الأفريقي»، مركزا على أهمية الوثائق العربية في كتابة التاريخ الأفريقي التي تحتوي على تراث الماضي الأفريقي في مجالات التاريخ والتنجيم والجغرافيا وعلم النفس، تدحض المقولة الاستعمارية «أفريقيا ليس لها تاريخ قبل قدوم الاستعمار». تلك المخطوطات متاحة في صورة مجلدات ضخمة في مصر ونيجيريا ومالي وشرق أفريقيا وغامبيا السنغالية، لافتا إلى خطورة تناثر المخطوطات الأفريقية بين أيدي الأفراد والعلماء وضرورة حفظها في مكتبات أو مؤسسات عامة، قائلا: «الكثير من المخطوطات غير مصنف أو مفهرس ولم تتم ترجمته إلى لغات أخرى لتمكين الباحثين غير العرب من الاطلاع عليها».
وخصص الملتقى محورا لمناقشة «الآداب الأفريقية»، تحدث فيه الناقد والكاتب شوقي بدر عن «الرواية في أفريقيا»، لافتا إلى أنها تدخل منحنى التحولات في تراكم منجزها، بعد كثير من التهميش، وتناول أعمال النيجيري «وول سونيكا»، ومن جنوب أفريقيا «نادين جورديمير»، و«ج إم كويتزي»، ومن مصر «نجيب محفوظ» والذين وصلت أعمالهم لآفاق عالمية وحصدوا على جائزة نوبل، فضلا عن عدد كبير من الكتاب الأفارقة ذوي الصيت العالمي: شينوا أتشيبي من نيجيريا وعثمان سمبيني من السنغال، ومونجو بيتي من الكاميرون، ونفوجي وأثيونجو من كينيا، وغيرهم.
ولفت بدر إلى أن «الكُتاب ذوي الأصل الأفريقي في أميركا كان لهم الفضل في إنجاز أدبي نبع من جذورهم التي قدموا منها، استطاعوا من خلاله التمرد على العنصرية ومنهم: ريتشارد رايت، وجيمس بولدوين، وأليكس هيل».
وتطرقت أوراق بحثية لتجسيد الأدب الأفريقي للحياة اليومية للإنسان الأفريقي ومعاناته التي تعتبر إرثا يتوارثه من أجداده، إذ إن آثار الاستعمار الغاشمة لا تزال تطارد أجيالا متعاقبة. منها: ما طرحه الأديب منير عتيبة عن قلق الهوية في رواية «خرائط»، للأديب الصومالي نور الدين فراح. كما تطرقت الأديبة المصرية سلوى بكر إلى نصوص من الأدب السوداني لبشرى الفاضل وأمير تاج السر، وغيرهم؛ تعكس تداخل العناصر الثقافية العربية والأفريقية عبر موتيفات سردية منحت الأدب السوداني خصوصية في إمكانيات التلقي والقراءة.



بعيداً عن ضوضاء العالم... عن جدل الفن للفن والفن للحياة

أفلاطون
أفلاطون
TT

بعيداً عن ضوضاء العالم... عن جدل الفن للفن والفن للحياة

أفلاطون
أفلاطون

كنتُ أحسبُ أنّ العبارة الأيقونية الشائعة التي سادتْ في عقود سابقة بصيغة تساؤل: هل الفن للفن أم الفن للحياة؟ قد ماتت وتلاشى ذكرُها في لجج هذا العصر الذي تعاظمت فيه الفردانية بدفعٍ مباشر من المنجزات التقنية غير المسبوقة؛ لكنْ يحصل أحياناً أن تقرأ في بعض وسائل التواصل نقاشات قد تستحيلُ معارك سجالية يبدو أطرافها وكأنّهم لم يغادروا بعدُ أجواء الحرب الثقافية الباردة التي كانت جزءاً فاعلاً في الحرب بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.

ربما من المهم الإشارةُ إلى أنّ مفردة «الفن» في التساؤل الإشكالي تعني كلّ الضروب الإبداعية المتصوّرة من كتابة (تخييلية أو غير تخييلية) وشعر وفنون تشكيلية. أعتقدُ أنّ التساؤل السابق فاسدٌ في أساسه المفاهيمي لأنّه يُخفي رغبة مضمرة في تأكيد قناعة مسبقة سعى المعسكر الاشتراكي إلى ترسيخها ومفادُها أنّ الشيوعية تتناغم مع تطلعات الإنسان على العكس من الرأسمالية التي تعظّم فردانيته وجشعه ونزوعه الشخصي.

التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية

علّمتْنا تجاربُ كثيرة أنّ التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية، ولستُ في حاجة إلى إيراد أمثلة عن أعمال كُتِبت في ظلّ «الواقعية الاشتراكية»، وكانت غاية في السخف والرداءة. ما سأسعى إليه في الفقرات التالية هو محاولة تفكيك الأساس الفلسفي الدافع للإبداع في حقل الأدب على وجه التخصيص رغم أنّ المقايسة يمكن تعميمها على جميع ضروب الإبداع الفني.

إلهاءات تستحيل معها الفلسلفة

الحياة مشقّة رغم كلّ اللذّات الممكنة والمتاحة فيها، وخبراتنا في الحياة لم تعُدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة باتت تتزايد مناسيبها مع تعقّد الحياة وتطوّرها. قارن نفسك مع أفلاطون مثلاً: بوسعك اليوم أن تحوز خبرات تقنية أعظم ممّا عرفها أفلاطون وكلّ فلاسفة الإغريق؛ لكنْ هل بمستطاعنا كتابة «مأدبة» حوارية فلسفية تتناغم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين؟ أشكّ في ذلك كثيراً؛ فهذا جهد أقرب إلى الاستحالة لأنّ الإلهاءات في حياتنا باتت كثيرة، وجعلت ملاحقة القضايا الوجودية الأساسية ووضعها في مقايسة فلسفية مناسبة - مثلما فعل أفلاطون - مهمّة مستعصية.

ربما سيتساءل سائل: ولماذا لا نكبحُ هذه الإلهاءات من حياتنا ونعيش بعيداً عنها لكي نكون قادرين على امتلاك الإحساس الفلسفي اللازم لكتابة أفلاطونية بثياب معاصرة؟ لا يمكننا هذا لأنّه يعني - بالضرورة - العيش في جزيرة مهجورة. دعونا نتذكّر ما كتبه الشاعر اللاهوتي الإنجليزي جون دَنْ (John Donne): «ما مِنْ إنسانٍ جزيرةٌ لوحده». من غير هذه الإلهاءات تبدو الحياة وكأنّها تفكّرٌ طويل لا ينقطع في موضوعات الموت والشيخوخة والمآلات النهائية للوجود البشري المقترن بحسّ مأساوي. لا حياة بشرية تسودها متعة كاملة.

الإلهاءات تتّخذ في العادة شكليْن: شكل اختياري، نحن من يختاره (لعب، مشي، سفر، تجوال ليلي في الشوارع المضاءة...)، وشكل يتخذ صفة المواضعات القانونية (دراسة، عمل...). نفهم من هذا أنّ الإلهاءات مفيدة لأنها تبعدُنا عن الجلوس المستكين والتفكّر في ثنائيات الموت والحياة، والبدايات والنهايات، والطفولة والشيخوخة... إلى جانب تمكيننا من إدامة زخم متطلبات عيشنا اليومي.

أسباب لتفادي الغرق في الإلهاءات

الغوص في لجّة الإلهاءات اليومية حدّ الغرق فيها ليس بالأمر الطيب متى ما صار ممارسة روتينية نفعلها من غير تدبّر أو مساءلة. أظنّ أنّ أسباباً كثيرة تدفعنا لخرق هذه الممارسة أحياناً:

أولاً: الغرق في بحر إلهاءات المعيش اليومي يحيلُنا إلى الشعور البديهي بأنّنا كائناتٌ محلية مآلها الفناء، وقتية الوجود، محكومة بقوانين المحدودية الزمانية والمكانية. قد نكون كذلك في التوصيفات الواقعية؛ لكنّ أحد شروط العيش الطيب هو الطَرْقُ على هذه المحدودية بمطرقة ثقيلة بغية تكسير قشرتها السميكة التي تحيط بنا حتى لو تمّ الأمر في النطاق الذهني. أظنّ أنّ المسعى الغلغامشي في طلب الخلود حاضرٌ في كلّ منّا بقدر صَغُرَ أم كَبُرَ. العيش بغير ملامسة المثال الغلغامشي يبدو عيشاً باعثاً على أعلى أشكال الملل والشعور بخسارة الزمن والعبثية المطلقة لتجربة العيش البشري.

ثانياً: تقترن الإلهاءات اليومية للعيش بمناسيب متصاعدة من الضوضاء حتى بات الكائن البشري يوصف بالكائن الصانع للضوضاء. نتحدثُ اليوم عن بصمة كاربونية لكلّ فرد منّا، وهي مؤشر عن مدى ما يطرحه الواحد منّا في الجو من غازات مؤذية للبيئة. أظنُّ أنّ من المناسب أيضاً الحديث عن بصمة ضوضائية للفرد: كم تعملُ من ضوضاء في محيطك؟

نحنُ كائنات ضوضائية بدافع الحاجة أو التسلية أو الضجر. نصنع الضوضاء بشكل أو بآخر وبمناسيب متفاوتة. ثمة دراسات متخصصة ومعمّقة في علم النفس التطوري تؤكدُ أنّ البصمة الضوضائية يمكنُ أن تكون مقياساً تطورياً للأفراد. كلّما تعاظمت البصمة الضوضائية للفرد كانت قدراته العقلية والتخييلية أدنى من نظرائه ذوي البصمة الضوضائية الأدنى. ربما التسويغ الأقرب لهذه النتيجة أنّ مَنْ يتكلمُ أكثر يفكرُ أقل.

ثالثاً: هذا التسويغ يعتمد مقاربة غريبة توظّفُ ما يسمّى مبرهنة غودل في اللااكتمال، وهي مبرهنة معروفة في علوم الحاسوب والرياضيات، وأقرب إلى أن تكون رؤية فلسفية قابلة للتعميم، وهو ما سأفعله هنا. جوهرُ هذه المبرهنة أنك لن تستطيع البرهنة على صحة نظام شكلي باللجوء إلى عبارات من داخل نطاق النظام دوماً. لا بدّ أن يحصل خطأ ما في مكان ما. يبدو لي التعميم على نطاق العيش اليومي البشري ممكناً: لن تستطيع عيش حياة طيبة إذا ما اكتفيت بالقوانين السائدة والمعروفة للعيش. لا بدّ من نوافذ إضافية تتيحُ لك الارتقاء بنمط عيشك، وهذه النوافذ هي بالضرورة ميتافيزيقية الطابع تتعالى على الواقع اليومي.

رابعاً: العيش اليومي فعالية شهدت نمواً مضطرداً في مناسيب العقلنة حتى لامست تخوم العقلنة الصارمة المحكومة بخوارزميات حاسوبية. العقلنة مطلوبة في الحياة بالتأكيد؛ لكننا نتوق إلى كبح سطوة قوانين هذه العقلنة والتفكير في نطاقات غير معقلنة. اللاعقلنة هنا تعني عدم التأكّد اليقيني المسبق ممّا سيحصل انتظاراً لمكافأة الدهشة والمفاجأة بدلاً من الحدس الرتيب بالإمكانية الوحيدة للتحقق.

خامساً: العيش اليومي يقترن في العادة مع مناسيب عالية من المأزومية العقلية والنفسية. عندما لا تعيش بحكم الضرورة وحدك فأنت تتفاعل مع آخرين، وهذا التفاعل قد يكون هادئاً أو مشحوناً بقدر من الصراع الوجودي. لا ترياق لهذا النمط الصراعي المحتوم إلّا بكتابته وتحويله إلى مغذيات إبداعية أولية للكاتب. تحدّث كثيرٌ من الكتّاب عن أنّ الكتابة أضحت لهم مثل تناول حبة الضغط اليومية اللازمة لعلاج ارتفاع الضغط الدموي لديهم. إنّهم صادقون تماماً. من غير الكتابة يصبحون أقرب لكائنات شيزوفرينية يكاد يقتلها الألم والعذاب.

يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة

الأدب الجيّد مفتاحاً للتوازن

الأدب الجيّد بكلّ تلاوينه، مثلما كلّ فعالية إبداعية أخرى، ترياقٌ ناجع للتعامل مع الإفرازات السيئة المتلازمة مع وجودنا البشري. يخرجُنا الفن المبدع غير المأسور بمحدّدات الآيديولوجيا من محليتنا الضيقة ومحدّدات الزمان والمكان، ويؤجج جذوة المسعى الغلغامشي فينا طلباً لخلود افتراضي نعرف أنه لن يتحقق، ويكبح سطوة الإلهاءات في حياتنا ولو إلى أمد محدود كلّ يوم، مثلما يكبحُ مفاعيل الضوضاء البشرية فينا ويجعلنا نصغي بشهوة وتلذّذ إلى أصوات أعماقنا التي تقمعها الانشغالات البديهية والروتينية، ويفتح أمامنا نوافذ ميتافيزيقية تتيحُ لنا رؤية عوالم تخييلية ليس بمستطاعنا بلوغها من غير معونة الإبداع الفني.

بعد كل هذا يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة.

تترتب على هذه المقايسات نتائج مدهشة أحياناً وغير متوقعة، يمكن أن تجيب عن بعض تساؤلاتنا الممضّة. منها مثلاً: لماذا تمتلك الأعمال الأدبية والفلسفية الإغريقية خاصية الراهنية والاستمرارية في التأثير والتفوق على كثير من نظيراتها المعاصرة؟ يبدو لي أنّ الفلاسفة والأدباء الإغريق كانوا عرضة لتشتت أقلّ من حيث طبيعة وحجم الإلهاءات؛ لذا جاءت مقارباتهم أقرب للتناغم مع تطلعات الإنسان وقلقه الوجودي؛ في حين تغرق الأعمال المعاصرة في التفاصيل الجزئية ذات الطبيعة التقنية، وهي في عمومها تقدّمُ المعرفة التقنية في فرعيات دقيقة عوضاً عن التأكيد على الرؤية الإنسانية الشاملة.

أظنها متعة كبيرة لو دقّقنا في الأعمال الأدبية العظيمة، ورأينا كم تتفق سياقاتها مع معايير الوظيفة الإبداعية كما ذكرتها أعلاه. أظننا سنكتشف أنّ هذه الأعمال لم تكن مستعبدة لنسق آيديولوجي باستثناء إذا أردنا وضع الإنسان في مرتبة الاهتمام الآيديولوجي الأعلى مقاماً من كلّ ما سواه. ثمّ إنها أبعدتنا عن الإلهاءات اليومية الروتينية، وفتحت لنا نافذة في قشرة الوجود البشري الصلبة، وأنقذتنا من تسونامي الصراعات اليومية.

الفن للفرد الذي يعرف كيف يجعل الفن وسيلة للارتقاء بمعيشه اليومي، ومن ثمّ تحويله لخبرة جمعية منتجة. ربما قد يكون حاسوبٌ، وكوبُ شاي أو قهوة، وشيءٌ من طعام بسيط في مكان بعيد عن ضوضاء العالم لبعض الوقت الذي نستقطعه من زحمة انشغالاتنا اليومية هو كلّ ما نحتاجه لنصنع أدباً جيداً، وقبل هذا لنعيش حياة طيبة يبدو أنّ كثيرين يغادرون هذه الحياة وهم لم يتذوّقوا ولو القليل من لذّتها الكبرى.