مسرحية «مفروكة» تجاهر بعظمة الصوت النسائي

معاناة المرأة المطلّقة وما لا يُحصى من أصناف المواجهة

الممثلات الثلاث يطلقن صرخة لإنصاف المرأة (الخدمة الإعلانية)
الممثلات الثلاث يطلقن صرخة لإنصاف المرأة (الخدمة الإعلانية)
TT

مسرحية «مفروكة» تجاهر بعظمة الصوت النسائي

الممثلات الثلاث يطلقن صرخة لإنصاف المرأة (الخدمة الإعلانية)
الممثلات الثلاث يطلقن صرخة لإنصاف المرأة (الخدمة الإعلانية)

الإحساس بالتشتّت المرافق لبداية مسرحية «مفروكة»، ينقلب مع سياق العرض إلى تماسك. يتطلّب شعور التماهي مع الموضوع برهة من الوقت، لكن نقطة اللقاء بين الغاية المسرحية وبلوغ عقل المُشاهد، تشكل بهجة تُعانقها غصة؛ فتتصاعد الضحكات داخل «مسرح مونو» البيروتي، مع إدراك جماعي بأسى الواقع. تكتب مروة خليل ووفاء حلاوي مسرحية تعضّ على جراح النساء، وتمثّلانها مع سيرينا الشامي المتنقلة ببراعة على الخشبة. ثلاثية نسائية تمرر رسائل صريحة رفضاً للظلم الاجتماعي وقهر المرأة.
تطرح المسرحية (إخراج رياض شيرازي) بالفم الملآن، قضايا مسكوتاً عنها من القادرين على التشريع والمتحكمين بتعديل القوانين لتواكب العصر. ثلاث نساء هن في الحقيقة امرأة واحدة: مروة خليل، ووفاء حلاوي وسيرينا الشامي؛ يؤدّين دور «أمل» (الاسم دلالة إلى الفرص الثانية الممكنة) المُقدِمة على الطلاق وما لا يُحصى من أصناف المواجهة. بديكور مُكمّل للنص ومُساند له، وسينوغرافيا هي جزء من البطولة النسائية، ناطقة مثلها، شجاعة مثلها، وذات دلالات؛ تسير المسرحية باتجاه واضح بلا خوف عليها من إضاعة الطريق. خطّها لا يعرج يميناً ولا شمالاً، تصدح بما لديها بحنجرة واثقة، بإيماءات مدروسة، وتتعمّد هزّ الأصداء.
النساء الثلاث اللواتي هن امرأة واحدة، وفي آن تكتّل نسائي صلب يواجه الغبن، يحملن في أصواتهن صرخة الحق. هذه مسرحية الكلمة وهي تحاول هزيمة الفعل. فالواقع مزنّر بالبارود والنار حيال كل امرأة تشاء رفع الصوت. تعانده الكلمة، وهي هنا الصرخة التي يريدها صنّاع العمل، وتدخل معه في كباش. النتيجة حتى الآن غير متكافئة رغم مسيرة النضال النبيلة باتجاه العدالة والمساواة. الغلبة للسلطة بتعدد وجوهها.

سيرينا الشامي في أداءٍ بارع على المسرح (الخدمة الإعلانية)

يحفر العرض في الصخر لعلّ ماء عذباً يخترق الجمود. منذ نيلها الطلاق وأمل أمام امتحانات صعبة. أولاً، امتحان الوحدة، وهو قاسٍ في وضعية المرأة المعتادة على ألفة العائلة، فيحدث الانسلاخ ويتورّم القلب. ثانياً، امتحان النظرات الاجتماعية، فترمقها الجارة بعين الإدانة وتمتنع عن إلقاء التحية عليها، لتتهكم أمل وتصف المرأة المطلّقة بـ«فيروس» يخافه الآخرون، وتنادي نفسها باسم «كورونا» كدلالة إلى «خطورتها!».
ثالثاً، إنه امتحان التربية. فالأم التي تعتاد على أسلوبها الخاص في نشأة الولد واكتسابه مفردات من قاموسها، تضع نفسها في موقف التعرّف مجدداً إليه وهو يكتسب مع الأب نمط رعاية مغايراً. تتوالى الامتحانات، منها مصير الأولاد بعد الطلاق، وفي حالة «أمل» (تقريباً أكثرية النساء) لا يبذل الرجل جهداً لسلخ الطفولة من أحضان الأمومة، فذلك تسهّله القوانين ومحاكم الأحوال الشخصية وتكرّسه ذكورية المجتمع.
لا تكفّ المسرحية عن «رشق» الرسائل، كالرذاذ المتطاير. فالمرأة التي أذعنت للرجل وقبلت التخلّي عن وظيفتها، هي نفسها الساعية بعد الطلاق إلى وظيفة ترمم ثقتها بمؤهلاتها. إذن، لا تفعلي كأمل وتصدقي أن الأشياء تستمر على حالها إلى الأبد. ولا تضعي مثلها شهادتك الجامعية تحت السرير. إنها دعوة صريحة لتمكين الذات وعدم التفريط بها، حتى تحت تخدير الحب والوعد بحياة وردية. الزمن دولاب والعلم سلاح.
لا تَسلم المطلقة من نظرات، بعضها يحمل نيات مشبوهة وبعضها يكنّ لها امتعاضاً لا يُفسّر سوى بكونها انتفضت على استحالة التحمّل. حتى الناطور عبدو، ظلّ يطارد أمل حتى وضعت له حداً، ومع ذلك اتُّهمت بـ«خربان بيوت» الرجال! وإن قررت، بعد معاناة، منح نفسها فرصة، طرق نوعان من العرسان بابها: الأول يكبرها سناً ولعله من جيل والدها، لكن لا بأس طالما أنه الرجل ولا يعيبه العمر. والثاني شاب يصغرها سناً، تضطر للاختباء في زاوية المطعم إن شاءت مواعدته تفادياً للهمسات الطافحة بالأحكام. الحلول الوسطى في وضعية نساء منتصف العمر تقريباً شبه معدومة.
للتعرّف إلى رجل، عليها فتح العينين جيداً والسعي إلى جذب الانتباه. ومن كثرة ما فتحت أمل عينيها كادتا تجحظان! هي بشخصياتها الثلاث تصطدم بالخيبة.
تسير الحياة ولا تلتفت للمتوقفة أيامهم على صدمة أو ذكرى. مساعي أمل للتحرر من السجن المنزلي، تقابلها ضريبة باهظة: الحرمان من الأولاد. تلتقيهم في «الويك إند» وتحدّثهم بالفيديو عبر الهاتف. ذلك كله، يجعلها إنسانة «مفروكة»، والمقصود بها «المدعوكة» أي التي عُجنت وخُبزت وتحوّلت من حال إلى حال. لم يبقَ منها شيء كما كان، خصوصاً نظرتها إلى نفسها وإلى حياة بدأت تُظهر اتّساعها، بعد سنوات زُجّت فيها بين الجدران.
يطاردها اللقب ولو بعد حين. هي دائماً «مدام نجار”، وفق كنية زوجٍ أصبح طليقها. ويحدث أن يشعر الآخرون تجاهها بالشفقة لكونها من الآن فصاعداً لم تعد «مدام نجار»! لا مفرّ. وفي الختام، خروج مهين من الصورة. لا تعود الأم جزءاً من الجَمعة العائلية لمناسبة عيد ابنها. تصبح خارج الكادر، فقد استجدّت أولويات، كالمرأة العشيقة في حياة طليقها. سرعان ما يحوّلها المجتمع إلى زوجة سابقة وأم سابقة وربما أنثى سابقة. يجرّدها بفظاعة من مكانتها ودورها. «يفرك» صميمها متلذذاً بمشهد سحقها. لكنها تنهض. المسرحية عزاء للمتألمات.


مقالات ذات صلة

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

يوميات الشرق رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً. فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه.

يوميات الشرق ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

يعتمد الموسيقار المصري هشام خرما طريقة موحّدة لتأليف موسيقاه، تقتضي البحث في تفاصيل الموضوعات للخروج بـ«ثيمات» موسيقية مميزة. وهو يعتزّ بكونه أول موسيقار عربي يضع موسيقى خاصة لبطولة العالم للجمباز، حيث عُزفت مقطوعاته في حفل الافتتاح في القاهرة أخيراً.

محمود الرفاعي (القاهرة)
يوميات الشرق معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

زائرون يشاهدون عرضاً في معرض «أحلام الطبيعة - المناظر الطبيعية التوليدية»، بمتحف «كونستبلاست للفنون»، في دوسلدورف، بألمانيا. وكان الفنان التركي رفيق أنادول قد استخدم إطار التعلم الآلي للسماح للذكاء الصناعي باستخدام 1.3 مليون صورة للحدائق والعجائب الطبيعية لإنشاء مناظر طبيعية جديدة. (أ ب)

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

«نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

ستُطرح رواية غير منشورة للكاتب غابرييل غارسيا ماركيز في الأسواق عام 2024 لمناسبة الذكرى العاشرة لوفاة الروائي الكولومبي الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1982، على ما أعلنت دار النشر «راندوم هاوس» أمس (الجمعة). وأشارت الدار في بيان، إلى أنّ الكتاب الجديد لمؤلف «مائة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا» سيكون مُتاحاً «عام 2024 في أسواق مختلف البلدان الناطقة بالإسبانية باستثناء المكسيك» و«سيشكل نشره بالتأكيد الحدث الأدبي الأهم لسنة 2024».

«الشرق الأوسط» (بوغوتا)

يوناني في الثمانينات من عمره يبدأ الدراسة بعد حياة كادحة

اليوناني فاسيليس بانايوتاروبولوس متعطشاً للمعرفة (موقع بانايوتاروبولوس)
اليوناني فاسيليس بانايوتاروبولوس متعطشاً للمعرفة (موقع بانايوتاروبولوس)
TT

يوناني في الثمانينات من عمره يبدأ الدراسة بعد حياة كادحة

اليوناني فاسيليس بانايوتاروبولوس متعطشاً للمعرفة (موقع بانايوتاروبولوس)
اليوناني فاسيليس بانايوتاروبولوس متعطشاً للمعرفة (موقع بانايوتاروبولوس)

كثيراً ما كان اليوناني فاسيليس بانايوتاروبولوس متعطشاً للمعرفة، لكنه اضطُر لترك التعليم عندما كان في الثانية عشرة من عمره لمساعدة والده في العمل بالحقل.

ويقول بانايوتاروبولوس: «كل شيء أتعلمه مثير للاهتمام، ووجودي هنا أمر ينير العقل».

وفي تمام الساعة 7:45 مساءً، رن الجرس في فصل آخر، وها هو عالَم اليونان الكلاسيكي يستدعي الرجل المتقاعد الذي وضع حقيبته المدرسية وكتبه على مكتب خشبي صغير.

وببدلته الداكنة وحذائه اللامع، لا يبدو بانايوتاروبولوس أنيقاً فحسب في الغرفة التي تزين جدرانها رسومات الجرافيتي، بل هو أيضاً أكبر طالب يحضر في المدرسة الليلية الثانية في وسط أثينا.

فعلى الأقل نصف زملائه في الصف هم في عمر أحفاده، وقد مر ما يقرب من 70 عاماً منذ آخر مرة ذهب فيها الرجل الثمانيني إلى المدرسة.

ويقول التلميذ الكبير وهو يسترجع ذكريات طفولته في إحدى قرى بيلوبونيز: «تركت المدرسة في سن الثانية عشرة لمساعدة والدي في الحقل، لكن كان لدي دائماً في عقلي وروحي رغبة في العودة، وتلك الرغبة لم تتلاشَ قط».

وعندما بلغ الثمانين، أخبر التلميذ الحالي وصاحب المطعم السابق زوجته ماريا، وهي خياطة متقاعدة، بأنه أخيراً سيحقق رغبته، فبعد ما يقرب من 5 عقود من العمل طاهياً وفي إدارة مطعم وعمل شاق وحياة شاقة في العاصمة اليونانية، دخل من بوابات المدرسة الليلية الثانية في العام الماضي.

واليوم هو مُسجَّل في صف من المفترض أن يحضره المراهقون في سن الخامسة عشرة من عمرهم، وهي الفكرة التي جعله يبتسم قبل أن يضحك بشدة ويقول: «آه، لو عاد بي الزمن للخامسة عشرة مرة أخرى، كثيراً ما كان لديَّ هذا الحلم بأن أنهل من نبع المعرفة، لكنني لم أتخيل أن يأتي اليوم الذي أعيش الحلم بالفعل».