من القديح إلى العنود.. رسائل «داعش» الجديدة

العنف الفوضوي يتوسل الطائفية لأهداف سياسية إقليمية.. وولي العهد السعودي للمزايدين: الدولة تبقى دولة

أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى
أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى
TT

من القديح إلى العنود.. رسائل «داعش» الجديدة

أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى
أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى

بملامح صلبة يكسوها تقدير الموقف، وهدوء حازم أنصت الأمير محمد بن نايف ولي العهد السعودي وزير الداخلية، و«عدو الإرهاب الأول»، إلى أحد المتضررين من جريمة القديح الآثمة وهو يتحدث بانفعال عن مأساته. لم يقاطعه رغم حدة كلماته، بل قال له مقدّرًا انفعاله.. لكن يجب أن يفهم الجميع أن «الدولة ستبقى دولة».
هذه الكلمات وجدت صداها في المجالس العامة في السعودية التي اشتعل فيها الجدل والنقاش مجدّدًا حول الطائفية التي تطل بوجهها ليس عبر شاشات التلفزة أو في كتب الردود التراشق المتبادل، بل بلون الدم هذه المرّة وعبر استهداف أماكن للعبادة. هذا تحول نوعي في العقل الإرهابي على أكثر من مستوى، وهو وإن دلّ على وحشية تنظيم «داعش» وعبثيته وعدم تقديره أي من المسلمات الدينية إلا أنه دليل فشل كبير. إن حظهم هذه المرة من المملكة واستقرارها وأمنها كان استهداف المساجد بعدما حيل بينهم وبين أي عمليات نوعية على مستوى استهداف مواقع مهمة. خطة «داعش» في تهشيم مقدرات المنطقة عبر استهداف هيكلية الدولة.. وليس خوض «حرب ضد الصليبيين وأتباعهم» كما كانت «القاعدة» وأخواتها تزعم.
الانزلاق في أوحال التحليل الطائفي والتجاذب المذهبي هو تحقيق لأهداف «داعش»، وما نراه الآن من محاولة الدوران في فلك التحليل الطائفي لن يقدم في فهم النزعة الجديدة لتنظيم داعش الذي يعمل على ثلاث مسارات رئيسية:
المسار الأول، هو جلب مقاتلين أجانب غير عرب لأسباب تتعلق بسهولة تجنيدهم واستخدام أوراقهم الثبوتية وتنقلهم، إضافة إلى أن دخولهم الإسلام أو حتى عودتهم للدين كمحرّك رئيسي لم يكن عبر مصادر تلقي غير الخلايا النائمة في أوروبا، ومن هنا ليسوا بحاجة إلى إقناعهم بالخطاب الداعشي الذي بات مستقلاً على مستوى القراءة أو الممارسة أو حتى التصدير. ومن هنا، فإن إرجاع خطاب «داعش» لتصوّر ديني متشدد أو مدرسة فقهية أو عقائدية، ضرب من التسطيح لظاهرة معقدة تداخل فيها الديني والنفسي والهويّاتي.
المسار الثاني، الذي يعد توجهًا جديدًا لـ«داعش»، هو الاهتمام بالكوادر في الخليج وحضها على عدم «النفير» إلى أرض الشام، بل بتكوين خلايا مستوفزة قادرة على القيام بأعمال انتحارية، وهو أمر عادة ما يرفضه المقاتلون الأوروبيون والأكراد والقوقاز. ثم إن عدم انسجام المجموعات العربية والخليجية في بيئة «داعش»، كما كان الحال في معسكرات «القاعدة»، خلق هذا المسار الجديد بهدف خلق أكبر مناطق فوضى في الدول المستقرة، وإشغالها بحماية الداخل عن محاربة «داعش» في عقر دارها. ومن هنا، يمكن قراءة نشاط «داعش» في مصر والخليج وليبيا، بل ومحاولة إيجاد نسخة جديدة متكاملة في المغرب العربي.. الأقرب لأوروبا وأكثر المناطق شعبية لفكرة «السلفية الجهادية» الذراع الفكري لـ«داعش».
المسار الثالث، استخباراتي - أمني - عسكري، وغالبًا ما ينوء بحمله قيادات عسكرية قادمة من منظومة أخرى كالبعث أو بعض الأحزاب اليسارية الراديكالية التي أعجب قادتها أو ركبوا موجة الإعجاب بـ«داعش» وقدرته على الأرض. وربما كان انضمام قائد «القوات الخاصة» في الشرطة الطاجيكية، الذي تلقى تدريبه في الولايات المتحدة، إلى التنظيم المتطرف ثالثة الأثافي فيما يخص تحول العقل الإرهابي من حدود التصورات الدينية المتشددة إلى رؤية معولمة للعنف وقدرته على تغيير الأوضاع السياسية. ولا شك في أن رسم سياسات هذا المسار يتم مع دول عريقة في الجريمة السياسية كنظام طهران أو حتى نظام الأسد الذي يدين لـ«داعش» ببقائه حتى الآن. ومن هنا، فإن معظم كوادر التنظيم التنفيذية من المقاتلين والشرعيين لا علاقة لهم بهذا المسار، بل جرى تفريغهم تقريبًا للنشاط الفقهي والقضائي داخل حدود «دولة البغدادي» المزعومة، في حين أصبح دور المتعاطفين مع «داعش» خارج مناطق التوتر إلى ضخ الدعاية والتأليب ومقارعة الخصوم، بل وإقناع الفرقاء والمترددين من حشود الإسلام السياسي المستقيل بأن «داعش» هي المستقبل.. إذا ما أرادوا تغيير الأوضاع في المنطقة.
ولدى العودة إلى بيان وزارة الداخلية السعودية حول الحادثة يمكننا استنتاج ارتباط صالح القشعمي (مفجّر القديح) بـ«داعش» عبر المسار الأول الذي تحدثنا عنه وهو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى، فهو كان مرتبطًا بحسب البيان بـ26 كادرًا داعشيًا، وكان خمسة منهم قد تورّطوا بقتل أحد أفراد أمن المنشآت في العاصمة الرياض، بل وأشعلوا النار في جسده. وبحسب ما تم الكشف عنه من أسلحة خفيفة (رشاشان و9 مسدسات ومواد متفجرة في مزرعة) لا تعبر إلا عن إرادة الفوضى كهدف وليس لتحقيق ما هو أبعد من ذلك. ولمعرفة حجم وخطورة «الإرهاب - الفوضى» يمكنك تخيّل ما يمكن أن يعمله شباب معزول في استراحة مع هذه المواد المتفجرة التي أصدر التنظيم عدة كتب ومقاطع فيديو لطرق استخدامها من الصفر.
بقية الخلية، كما قال البيان، توزّعت أدوارهم على جمع الأموال وتجنيد الشباب، وهنا مسألة في غاية الأهمية أبعد من كل المهاترات الطائفية، وهي ما الذي يجعل الشاب العشريني فريسة سهلة لخطاب «داعش»؟
سؤال كهذا بحاجة إلى مراكز أبحاث ودراسات تجمع تخصّصات كثيرة لفهم هذه الحالة المتكرّرة، إلا أن انتشار خطاب «داعش» في منصات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، وقدرة التنظيم على تقديم هذه الوحشية المجانية بقالب دعائي تسويقي يستهدف - كما يقول الخبراء النفسيون في علم الجريمة - «سلّم القيم» لدى الشاب، وهو سلّم يتغير في هذه المرحلة، فتعلو فيه قيم الرجولة والقوة والفتوة وحب الظهور على قيم أخرى كالتسامح والمشاركة.
ومن هنا، فإن كل الدلائل والمؤشرات تؤكد على أن أجيال ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) (2001) تعاني من فراغ قيمي كبير، عادة ما يتم ملؤه بخطابات عنيفة سواء كانت في شكل إرهاب وتشدد ديني، أو حتى ردود فعل اجتماعية غاضبة تبدأ بـ«التفحيط» وشيوع ممارسات «العنف الاجتماعي» اللفظية والعملية، دون أن نلحظ برامج مستدامة لتعبئة هذا الفراغ. وكان آخر المعاقل الآمنة؛ أي الرياضة، قد بلغ فيه مؤشر العنف الاجتماعي مستوى جديدًا، وهو ما يجب ألا نغفل عنه ونحن نقرأ سلوك هذه الفئة العمرية.
إن رسائل «داعش» تسعى إلى إعادة تجريف الصراع الإقليمي لتكون طرفًا فاعلاً فيه عبر إشعال جبهات داخلية يعتقد قادة التنظيم أن ذلك سيساهم في تركهم يتوسّعون في «دولتهم» المزعومة. أضف إلى ذلك تدفق موجات المقاتلين من كل مكان، لا سيما من الدول الإسلامية غير العربية، ليشكلوا وقودًا آيديولوجيًا للتنظيم بسبب الأوضاع المعيشية في بلدانهم الأصلية، ثم ما تقدمه «داعش» من معونات وبرامج إيواء وإعالة (هناك حديث عن هجرة 30 طبيب امتياز من السودان و700 مهندس من دول شرق آسيا).
وعلى المستوى الداخلي، يهدف التنظيم إلى إشغال المجتمع بملف الطائفية على خلفية أن منسوب الطائفية في المنطقة في أعلى مستوياته إلى الحد الذي حدا ببعض المجموعات الإسلامية إلى رفض «داعش» في الداخل مقابل تبرير سلوكه في الخارج. وهذا، بعدما أطلقت إيران ميليشياتها الشيعية المسلحة، وبشعارات دينية صارخة؛ الأمر الذي قرأه قادة «داعش» بذكاء في محاولة تأجيج الملف الطائفي وخلق أداة جديدة للفوضى. ثم إن «داعش» يدرك أن تصريحات قادة طهران وحسن نصر الله والحوثيين حول أي جريمة طائفية من شأنها خلق ردود أفعال مضادّة باعتبار أن خطاب الدولة والمجتمع بكل أطيافه يرفض تدخلات سيادية من هذا النوع.
«داعش» يريد أن ينفرد بـ«دولته» دون حتى مشاركة المجموعات العنفية المنافسة كـ«القاعدة» بفروعها، والمجموعات المحاربة لنظام الأسد كـ«النصرة» وفروعها، وكل منافسي «داعش» من أمثال هؤلاء، يفقدون أسهمهم في سوق الفوضى متى ما نجح «داعش» في تحقيق أهداف أو عمليات أو ضم مناطق جديدة. وحقًا، كانت هناك إشارات في خطابات البغدادي وحتى في «تويتر» من قبل أتباعه إلى أنهم يستهدفون الشيعة في ردودهم على من يتهمهم بخدمة أهداف إيران في المنطقة. وفي خطبة لأنصاره في السعودية، دعا البغدادي منذ ستة أشهر في تسجيل منسوب إليه إلى شن هجمات ضد أهداف شيعية من قبل العائدين من مناطق سيطرة «داعش»، وأغلبهم ممن لم يستطع التأقلم أو لم تنط به أدوار قيادية، وجزء كبير منهم من المتحوّلين من «القاعدة» الذين لا يرون في وحشية «داعش» انضباط المجموعات الجهادية الأخرى التي انضموا إليها.
ورغم موجات الهلع والدهشة من دناءة العمليتين، في القديح ومسجد العنود، ما حدا بمحاولة عدد من العلماء والمشايخ من الطرفين إلى تبادل العزاء ونبذ الطائفية في صور انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي، فإن ملف الطائفية سريع الاشتعال، ومن ثم فهو بحاجة إلى تشريعات صارمة تخرجه من سياقه الصدامي إلى حدود المواطنة كمفهوم مطرد يشمل كل السعوديين. ثم إن الدعوات النشاز بإنشاء جماعات مسلحة مشابهة لـ«الحشد الشعبي» يجب أن تحظى برفض عقلاء الشيعة قبل غيرهم، فهم كما قال ولي العهد السعودي الذي استهدفه الإرهاب في شخصه «أي شخص يحاول لعب دور الدولة سوف يحاسب كائنًا من كان.. لنكن يدًا واحدة مع الدولة».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.