برحيل الرحالة والأديب والمؤرخ والجغرافي والداعية والفقيه الشيخ محمد بن ناصر العبودي، الذي ودعته بلاده السعودية، أمس، فقدت المكتبة العربية بل والعالمية واحداً من الباحثين، ومؤلفاً موسوعياً في كل المعارف والمجالات، أثرى المكتبة العربية بإنتاج ومؤلفات تجاوزت الـ300، خلال ركض في مضمار الحياة لامس القرن، تاركاً سيرة عطرة من الصعب على الراصد أن يضع وصفاً يليق بصاحبها، نظراً لتعدد أعماله وتنوع مؤلفاته في كل المعارف والعلوم وتباينها، وبكل ذلك حقق التفرد والتميز.
ولعل من اللافت في شخصية الراحل العبودي أنه لم يتخرج من جامعات متخصصة وعريقة، لقد بدأ الراحل دراسته في نظام «الكتاتيب»، وهو النظام الذي كان سائداً للتعليم قبل إقرار التعليم النظامي في بلاده السعودية قبل عشرات العقود، لكن عصاميته وذكاءه وحماسه للتعلم وجلده وصبره وتعدد المواهب في داخله، وكثرة المحطات التي توقف بها، أو عمل في دهاليزها، مكنته من أن يخلق من نفسه شخصية متفردة، ليس من المبالغة أن نقول إنها مقتصرة على العصر الحديث، بل على مر التاريخ، مما أهله لأن يوصف بـ«الجاحظ»، الذي غاص بين الكتب قراءةً وتأليفاً، ومات بسببها عندما سقطت عليه، أو وصفه بـ«ابن بطوطة»، الرحالة الشهير، كما أضيف لهذا الوصف «عميد الرحالة العرب»، كما عرف بالداعية والفقيه بعد أن دخل عالم التأليف فيهما.
عندما تدلف إلى مكتبته لا تكاد تراه، فقد غطت الكتب مكان جلوسه وحاصرته من كل جانب، وعندما تلتقط له صورة خارج وطنه أو داخله تخال أنه رحالة، أو مرشد سياحي، وعندما تتأمل صوراً له في مجاهل الأرض والمناطق البعيدة في مختلف القارات يخيل إليك أنه داعية ورسول محبة وسلام، أو صاحب أعمال إنسانية وخيرية وإغاثية، وكل هذا يستحق أن يطلق عليه شخصية «متفردة ونادرة»، وهو ما يؤهله أن يكون له اسماً في سجل الحاضرين في المشهد.
عاش محمد بن ناصر العبودي، الذي ولد عام 1926م في بريدة حاضرة القصيم وسط الجزيرة العربية، في بيت تطلع إلى العلم وأحب المعرفة، وفي ظروف اجتماعية وثقافية بالغة الصعوبة، وهو الأمر الذي رسم شخصية الطفل الذي درس في الكتاتيب دراسة دينية على يد مشايخ عصره قبل تسعة عقود، هذه البيئة أوصلت الطفل محمد بن ناصر العبودي، إلى ما وصلت إليه في رحلته مع الحياة حتى رحيله أول من أمس، ثم مواراته الثرى، أمس السبت، في العاصمة السعودية (الرياض).
ووفقاً لابنة الشيخ الراحل محمد ناصر العبودي، الدكتورة فاطمة، فإن البيئة الذي عاش بها والدها طفولته كانت مشبعة بحب المعرفة: «كان جدي ناصر العبودي قاصاً من الدرجة الأولى يحفظ الكثير من القصص والروايات ويرويها بطريقة مبهرة»، مضيفة: «وقد تكون طريقة والدي المشوقة واسترساله في رواية مشاهداته وانطباعاته ورثها عن والده. أما جد والدي عبد الرحمن العبودي فقد كان شاعراً عامياً أورد له والدي أبياتاً عديدة كشواهد في كتابه (كلمات قضت) وفي كتب أخرى»، وزادت الدكتورة فاطمة بن محمد العبودي بالقول: «خال أبي وهو جدي لوالدتي عبد الله بن موسى العضيب من بيت علم وأدب، فقد كان يشرع بابه يومياً بعد صلاة المغرب لمن شاء أن يستمع إلى شيخ يستضيفه في منزله، وبعد صلاة العشاء يجمع أهل بيته حتى الأطفال ويقص عليهم خلاصة ما حدث الشيخ به، كان ذلك قبل أكثر من نصف قرن من الزمان»، ومشيرة إلى أنه وفي هذه العائلة نشأت جدتي لأبي وهي قارئة نهمة حتى بعد أن أصبحت عجوزاً، وقد انطبعت صورتها في مخيلتي وهي تجلس القرفصاء في سطح المنزل أو في فنائه تقرأ كتاباً، وقد قربته من عينيها لتستطيع القراءة، وهو أمر نادر الحدوث لامرأة في نجد وفي مثل سنها.
ونجح الناقد الأدبي الدكتور حسن بن فهد الهويمل، في وصف شخصية الراحل العبودي ونهمه في اكتساب المعارف وهمته في الإنتاج المعرفي وتنوع اتجاهاته بقوله: «لم يوجه العبودي اهتمامه لصناعة الأدب، ولم يشأ الاشتغال المنقطع لشيء من فنونه، وإن جودة آلياته النحوية والصرفية واللغوية والبلاغية، فإنما ذلك بوصفها علوم العربية لا بوصفها آليات الأدب. وحفوله بالأدب حفول المتمتع لا المحترف، كما لم تكن له إلمامات أدبية حديثة، بل كان ولم يزل مع التراث ينتقي منه ما يحلو له من الحكايات والأخبار والنوادر ولطائف التفسير»، وأشار الهويمل إلى أن العبودي اهتم في كتاباته تلك «بتدوين المعلومات والملاحظات، دون تكلف أسلوبي أو معاضلة تعبيرية، وما في كتبه من صياغة أدبية فصيحة فإنما هي قدرة ذاتية كسبية؛ فهو عالم بالتراث، ومؤلف معرفي قبل أن يفرغ لأدب الرحلة، والمتابع لكتبه لا يقدر على تصنيفه لا جغرافياً، ولا اجتماعياً، ولا سياسياً. ومن ثم فهو أقرب إلى الموسوعيين؛ لتوفره على القيم العلمية والأدبية، واللغة التي يعتمد عليها».
بدأ الراحل الشيخ العبودي تعليمه في كتاب الشيخ صالح محمد الصقعبي بمدينة بريدة، حيث لم يكن يوجد بها مدارس نظامية، ثم انتقل للتعلم في حلقات العلماء والمشايخ، ثم أنهى العبودي دراسته الابتدائية، وكانت محطته العملية تعيينه قيماً لمكتبة جامع بريدة بترشيح من الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد قاضي بريدة وأحد مشايخه، ومن خلال عمله في المكتبة نهل من الكتب الموجودة في المكتبة، ليتدرج في وظائف التربية والتعليم، فبدأ مدرساً للعلوم الدينية في المدرسة الأولى ببريدة، ثم مديراً لمدرسة المنصورية، ثم مديراً للمعهد العلمي في بريدة عام 1371هـ.
وفي عام 1380ه، ونظراً لما تميز به من جهد في المجال التربوي الإسلامي، فقد نقل إلى وظيفة الأمين العام للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وكان من المؤسسين لها، ثم عين وكيلاً للجامعة لمدة سنة واحدة، ثم عين بعدها عام 1394هـ أميناً عاماً للدعوة الإسلامية برتبة وكيل وزارة، ثم اختير في عام 1413هـ أميناً عاماً مساعداً لرابطة العالم الإسلامي.