النرجسية مرض العصر والنرجسي لا يرى سوى وجهه في المرايا

ويندي بيهاري تبحث في أسبابها وعوارضها والنظريات المتعلقة بها

النرجسية مرض العصر والنرجسي لا يرى سوى وجهه في المرايا
TT

النرجسية مرض العصر والنرجسي لا يرى سوى وجهه في المرايا

النرجسية مرض العصر والنرجسي لا يرى سوى وجهه في المرايا

أعترف بداية أن ما دفعني إلى قراءة كتاب ويندي بيهاري «تعرية النرجسي»، لم يكن اسم مؤلفته التي لم أكن قد سمعت بها من قبل، بل هو عنوانه المميز الذي ينتزع جاذبيته من تصديه لواحد من أكثر أمراض العصر شيوعاً، وبخاصة في عالم الكتّاب والفنانين، الذين تتحول النرجسية عندهم إلى معادل موضوعي لعملية الخلق والإبداع. كما أن عصرنا الراهن لا ينفك من جهة أخرى عن إنتاج أشكال متمادية من النرجسيات، ناجمة عن التوحش الرأسمالي واستشراء العنف وتفاقم البطالة والفقر، في سائر بلدان العالم وأصقاعه. وهو أمر لا تنحصر آثاره وتبعاته في المصابين بهذه الآفة وحدهم، بل إن المقيمين مع الأشخاص النرجسيين، من الأزواج والزوجات وأفراد العائلة والأصدقاء، هم الذين يدفعون أبهظ الأثمان وأكثرها كلفة وفداحة.
تحرص بيهاري، في إطار السؤال الذي تطرحه على نفسها «ما هو النرجسي؟»، أن تنظر في أصل التسمية نفسها، فتعود إلى التذكير بأن كلمة النرجسية مأخوذة من قصة نرسيس، ومعادلها العربي نرجس، الذي حكمت عليه الآلهة في الميثولوجيا اليونانية، بالوقوع إلى الأبد في حب صورته المنعكسة على سطح بحيرة جبلية. وكان ذلك عقاباً له على رفضه حب إيكو، حورية الجبل الشابة. ونظراً لأن نرجس لم يكن ليظفر إلا بانعكاس الصورة، من دون القدرة على امتلاكها، فقد غرق في العزلة التامة إلى حد التحول في نهاية المطاف إلى زهرة جميلة.
على أن بيهاري، وهي الاختصاصية في علم النفس السريري والعلاج الإدراكي، لا تتأخر في استتباع التعريف بالقول إن الدرس الأخلاقي الذي تهدف هذه الأسطورة المأساوية إلى تعليمنا إياه، مفاده أن الجمال الحقيقي والجاذبية المحببة يبدآن عندما ينتهي حب الذات المسرف والمفرط. فالنرجسيون، وفق المؤلفة، ينغمسون إلى أبعد الحدود في حب ذواتهم، وينشغلون بالحاجة إلى بلوغ الصورة المثالية التي ينتزعون من خلالها تقدير الآخرين، وصولاً إلى إثارة غيرتهم وحسدهم. لكنهم في المقابل لا يُظهرون أي اهتمام بهؤلاء الآخرين ولا يتفهمون حاجاتهم، أو ربما يعجزون لفرط افتتانهم بأنفسهم عن رؤيتهم وتحسس آلامهم. ولعل أفضل تعبير عن الاستغراق في الذات، أو عن علاقة النرجسي بمحيطه، هو وصف الشاعر العباسي ابن حمديس لأحدهم بالقول...
كأنما العالم مرآتُهُ فلا يرى فيها سوى شخصهِ
ولأن النرجسي، وفق المؤلفة، لا يسمع أي صوت سوى صوته الشخصي، فإنه حين يدخل في جدال لا يهتم بما يقوله الآخر، محصناً نفسه ضد ما يمكن أن يحمله على الاقتناع والتسليم بالحجج الدامغة لمنافسه، وهو بالتالي لا يفعل شيئاً سوى انتظار دوره في النقاش؛ حيث ينبغي لآرائه ووجهات نظره أن تكون حاسمة ويقينية وطاردة للشكوك. وفي تلخيص مكثف لتجاربها العيادية مع النرجسيين، تذهب بيهاري إلى القول إن هؤلاء لا يعترفون على الإطلاق بمشكلتهم، ولا يتقبلون فكرة الاستعانة باختصاصي أو طبيب معالج، بل إنهم يظنون أنهم «قادرون على سحب البساط من تحتك بلمح البصر، مثيرين فيك شعوراً بالقلق أو الرغبة بالبكاء أو الملل أو الاشمئزاز». وهي إذ تحرص على نقل كتابها من إطاره النظري البحت إلى إطار عملي وتفاعلي مع القراء، تختار لهؤلاء قائمة من الأعراض المتصلة بمواصفات الأشخاص النرجسيين وسلوكياتهم، طالبة منهم مقارنتها مع سلوكيات الأشخاص الذين يشاطرونهم المنزل أو العلاقة أو مكان العمل، بغية البحث عن الحلول الملائمة لهذه المعضلة، ودرجة مقبوليتها أو استفحالها. وفي هذه القائمة تحضر مواصفات متباينة، كالتنمر، والمكابرة، والتسلط، والغرور، والقسوة، وتبلد المشاعر، وازدراء الآخر، والتشكيك بنواياه، والتصرفات المتناقضة، واستدراج المديح، والإدمان على ارتكاب الأخطاء.
وفي إطار بحثها عن الأسباب المكونة للشخصية النرجسية، تعرض بيهاري للنظريات المتعلقة بهذه النزعة، ومن بينها نظرية الطفل المدلل، وهو الذي يتربى على أبوين يكرران على مسامعه فكرة التفوق على الآخرين، والتمتع بامتيازات خاصة لا تتاح لسواه. وفي منزل كهذا قلما نجد قيوداً على الطفل أو عواقب متناسبة مع حماقاته وأخطائه. وهو ما يدفعه فيما بعد إلى أن يصوغ بنفسه قوانينه وأعرافه الخاصة. وتشير نظرية أخرى إلى الطفل الاتكالي الذي يعمد ذووه إلى إعفائه من جميع مهماته والنيابة عنه في كل شيء، بدلاً من تشجيعه على تطوير مهاراته بنفسه.
الأمر الذي يُفقده الإحساس بالكفاءة الشخصية ومنحه شعوراً بالتبعية والعجز. وهو ما يعطي لنرجسيته طابع التعويض الرمزي عن عقد النقص وخيبات الأمل. أما النظرية الأكثر شيوعاً في هذا الشأن فهي نظرية الطفل الوحيد والمحروم، وبخاصة ذلك الذي ينشأ في جو من الحب المشروط؛ حيث يغرس أبواه في داخله أن حبهما له مرهون بقدرته على التفوق والنجاح، وأنه من غير ذلك لن يُمنح سوى التجاهل والازدراء. الأمر الذي يخلق لدى الطفل في وقت لاحق شعوراً بالثأر لحرمانه العاطفي، سواء عبر المكابرة والتفرد بالرأي، تحت شعار «أنا لست بحاجة لأحد»، أو عبر استجماع ما يتسنى له من دفاعات لإخماد الألم المرتبط بما يحصل في حياته.
يسعى الشخص النرجسي، من جهة أخرى، إلى احتلال المركز الأول في سياق المنافسة مع الآخرين. كما يعمل أغلب الأحيان على تسويق نفسه كشخص مستقيم وكفؤ ومؤهل للفوز في السباقات التي يخوضها، أو المهام المسندة إليه. ولكنه يكف عن الإصغاء حين يحين دورك في الكلام. وهو يختفي أو «يتبخر» بشكل مفاجئ حين تحتاجه، أو تبوح أمامه بمعاناتك وحاجاتك، مختلقاً أعذاراً واهية لا تنطلي على أحد.
كما يُخفي النرجسي انعدام شعوره بالأمان، كي لا يتمكن أحد من أذيته أو تخييب أمله، بحيث يؤدي ذلك إلى تفويته كثيراً من الفرص الممتعة، كالمآدب والحفلات وأعياد الميلاد، وما سوى ذلك. على أن الأقنعة المختلفة التي يستخدمها تسهم في استدامة المشاعر التي يحاول إخفاءها. فهو في سعيه لتجنب الإحساس بالسماجة، على سبيل المثال، يبالغ عبر خطبة عصماء في شكواه من الملل الذي يعانيه، بما يجعله يبدو أمام مجالسيه بغيضاً ومملاً، وشديد السماجة في الآن ذاته!
وإذ تشير بيهاري إلى أن الإصابة بالنرجسية لا تقتصر على الرجال وحدهم، بل تشمل الجنسين معاً، فإن منسوبها لدى الرجال يفوق بمرتين مثيله عند النساء. وغالباً ما تلجأ المرأة النرجسية إلى التذمر والشكوى من كل شيء، معتبرة نفسها معينة الجميع، التي لا تجد من يعينها أو يقدّر تضحياتها. وبوصفها «شهيدة» دائماً، فهي لا تسمح لمن تحبه أو تشاطره الحياة بأن يخالفها الرأي. ولو حدث ذلك فهي تعمد إلى العبوس، والنحيب، أو التهديد بالهجر، أو إيذاء نفسها على طريقة شمشون، تحت شعار «عليّ وعلى أعدائي يا رب». ولا يفوت المؤلفة أن تذكّر بأن النساء النرجسيات يركزن على مظهرهن الخارجي أكثر من الرجال، ويتباهين بمؤهلاتهن الجسدية التي يسهم وقوفهن الطويل أمام المرآة في صقلها وتنميتها. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي تغذي لديهن هذا النزوع، وتفاقمه بشكل مطرد.
ومع أن الشفاء الكامل من «الآفة»، التي يزيدها عصرنا الراهن تفاقماً وشيوعاً، هو أمر مستبعد تماماً، فإن المؤلفة تضع مقترحات وخرائط طرق عدة، للتخفيف من حدتها لدى المصابين بها، ومن وطأتها على الذين يشاطرون النرجسيين العمل أو المسكن أو الحياة.ومن بينها العلاج الإدراكي الذي يقوم على سبر أغوار النواحي المعقدة في نظم المعتقدات العاطفية والعقلية للمصابين، التي يقوم الشخص النرجسي خلالها بتطوير ذخيرة من الأفكار والتوقعات، مستبدلاً الأفكار المحرفة المغروسة في عقله، بأخرى متوازنة وأكثر نجاعة وصوابية. إضافة إلى العلاج التخطيطي الذي أسّسه جيفري يونغ صاحب كتاب «إعادة اختراع الحياة»، الذي اقترح 18 مخططاً من سوء التكيف الاجتماعي، ومما يسميه «مصائد الحياة» التي تدخل في إطارها مشكلات القلق والخنوع والكبت وسوء الظن والشعور بالنقص أو بالعظمة والحرمان العاطفي، منوهاً بأن المعالجة تتطلب كثيراً من الصبر والتروي والمتابعة الدؤوبة وإظهار التعاطف، بعيداً عن تقريع المصاب أو إبداء الضيق منه واليأس من شفائه.
ويندي بيهاري لا تتوانى في نهاية الأمر عن الإقرار بأن ثمة حالات نرجسية يتعذر إصلاحها، وأن ثمة حالات أخرى يتعرض فيها المقيمون مع النرجسيين إلى كثير من المخاطر النفسية والجسدية. وهي لا تجد غضاضة تبعاً لذلك، في حثّ هؤلاء على الفرار من واقعهم المأساوي، والبحث عن سبل للنجاة وسوانح بديلة للعيش، قبل فوات الأوان.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.