تَحضر إلى ذاكرة الفنان مايك ماسي صورتُه طفلاً يهرب إلى الحمّام ما إن يزدحم البيت بالضيوف. يقفل الباب على نفسه ويضع في رأسه دلواً، ثم يبدأ بالغناء و«الرندحة». يفرّ من الضوضاء إلى عزلته الموسيقيّة، يواجه على طريقته ما اكتشف لاحقاً أنها حالة نفسيّة تُعرف بالقلق الاجتماعي (social anxiety).
ذاك الطفل الذي كبر ليصبح مؤلّفاً موسيقياً ومغنياً، رافقته النغمات درعاً واقياً من حالته النفسيّة تلك، ومن عالم رشقَه بالتنمّر حيناً وبأصوات القصف أحياناً. فخلال الحرب اللبنانية، كان يختار مايك لنفسه زاوية في الملجأ ويضع السمّاعات على رأسه ويشغّل الـ«ووكمان»، ليردّ عن أذنيه دويّ القذائف والصواريخ.
مشى مايك ماسي يداً بيَد مع الموسيقى، إلى أن شعر في أحد الأيام بأنها هي يده، لا بل كل كيانه. تَنفّسَها تحت الماء. يخبر «الشرق الأوسط» كيف كان يغطس في بحر قريته أنفة (شمالي لبنان)، يُسكِت صخب الخارج ويغنّي ليشعر بالطمأنينة والأمان.
الصوت قد يخون لكنه لا يكذب
كبر مايك وكبرت الموسيقى معه. يقول إنها، ومنذ أولى سنوات طفولته، شكّلت لغة شفاء بالنسبة إليه، من دون أن يكون واعياً لذلك آنذاك. أما اليوم فهو مُدرِكٌ تماماً أن الموسيقى علاج.
إلى جانب مشروعه الفنيّ، يحترف تدريب الصوت وبات يعرف كيف يُخرج من الأوتار الصوتيّة ما تخبّئه القلوب والنفوس من توتّر ومتاعب. يقول: «قرّبني عملي في التدريب الصوتي من الشقّ العلاجي للموسيقى. الصوت لا يكذب وهو يعبّر عن كل ما عاشه الإنسان على المستوى النفسي. وغالباً ما نشهد في جلسات التدريب تلك، على لحظاتٍ يكتشف فيها المتدرّبون ذواتهم من خلال أصواتهم».
حين كان يُسأل صغيراً: «شو بدّك تصير لمّا تكبر؟»، لم يكن جواب مايك «طبيب أو طيّار أو مدرّس»، «لم أفكّر يوماً بأن أصير سوى موسيقيّ. لا ذكرى في رأسي غير مشروع اللحن والصوت والغناء»، يقول. حتى عندما كانت تعطيه أمّه 2000 ليرة ليشتري «منقوشة» في المدرسة، كان يكدّس مصروفه الصغير ألفاً فوق ألف، ليبتاع بها الألبومات والـCD.
تَداوى مايك ماسي بالموسيقى وهو يحاول أن يداوي بها الآخرين، أكان من خلال ورشات التدريب الصوتي التي يُديرها، أو من خلال أعماله الموسيقية وأغنياته التي تحمل الكثير من الروحانيّة والعمق الإنساني، باعتراف عددٍ من الفنانين المحترفين وأصحاب الاختصاص. يوضح أنه لا يفتعل تلك الموسيقى الروحيّة: «تأتي لا شعورياً، ربما بسبب ما أحمل من موروثٍ موسيقيّ». وقد زخر ألبومه «نسيج» بهذا البُعد الروحي، لِما يضمّ من ألحان وأشعار صوفيّة.
يشعر مايك بالامتنان للموسيقى ويقول: «ليست الموسيقى كياناً منفصلاً عنّي، بل كأنني فُتاتٌ منها». أما إحدى أقصى لحظات الفرح بالنسبة إليه، فهي اكتشافه ردود فعل متابعيه على أغانيه، وقولهم له إنّ لموسيقاه أثراً إيجابياً عليهم. وهنا يكمن البُعد العلاجي الذي لا يتقصّده، إنما يصلُه عبر رسائل مثل: «أغنيتك ساعدتني على تخطّي مشكلة معيّنة كنت أمرّ بها».
وتعليقاً على موضوع العلاج بالموسيقى، يقول ماسي إنّ «لكل إنسان الموسيقى التي تداويه وتُشعره بالراحة. الأمر نسبيّ، فلكلٍ منّا أذواقه. قد يكون الهارد روك مثلاً علاجاً بالنسبة للبعض». أما الموسيقى التي يعدها علاجه الخاص والتي تنقله إلى مكانٍ آخر وتُحيي فيه الشغف والدهشة، فهي الموسيقى الكلاسيكية وتحديداً موسيقى «الباروك baroque» التي سحرته منذ المراهقة.
العلاج بالموسيقى تقنيّة مُعتَرف بها
كان كريم قصيباتي في الثانية من عمره يوم أُصيب بجلطة دماغية أدخلَته غيبوبة طويلة، لم يبدأ الاستفاقة منها إلا في سنته السادسة. مع بدء عودته إلى الحياة محمّلاً بآثارٍ صحية ثقيلة لتلك الجلطة، تعلّق كريم بالموسيقى. تخبر والدته ميّادة «الشرق الأوسط» كيف عشق أغاني «ديزني» واعتاد أن يردّد «Small World» عشرات المرات خلال اليوم الواحد، رغم صعوبة النطق لديه.
لاحظت الوالدة أنّ أكثر ما يُفرح ابنها هو عالم الأغاني، فوجدت في الموسيقى علاجاً له. لم تكتفِ ميّادة برؤيته يشارك في مسرحيات المدرسة ضمن مشاهد موسيقية، فأدخلته إلى معهد يعتمد تلك التقنية العلاجية. بين الاستماع إلى الموسيقى، والغناء، والعزف على الآلات الإيقاعية، تدور حياة كريم الذي تخطّى الـ30 من عمره وهو يتحدّى يومياً وضعه الصحي بالبسمة والنغمة.
«مع مرور الوقت وتَراكُم ساعات العلاج، بدأنا نلاحظ تحسُّناً في ذاكرة كريم وفي مقدرته على الحفظ»، تقول والدته. وتضيف أن ثقته بنفسه ازدادت وهو لم يشعر يوماً بأنه مختلف عن الآخرين: «الموسيقى منحته طاقة إيجابية وجعلته سعيداً رغم المعاناة».
تشرح الدكتورة ريم ديب لـ«الشرق الأوسط»، وهي التي أشرفت على علاج كريم بالموسيقى في الأكاديمية التي تديرها «كيز آند كوردز»، أن «لا شيء يحفّز الدماغ البشري وينشّطه كما تفعل الموسيقى». ديب الأستاذة الجامعية والعازفة والسوبرانو، المتخصصة في العلاج بالموسيقى، توضح أنّ الموسيقى قد تشكّل علاجاً للحالات النفسية والأمراض الجسدية. لكنها تركّز على أهمية التمييز بين دراسة الموسيقى والعلاج بها.
تقول: «للدراسة هدف واحد هو التعلّم، أما العلاج فلا يتطلّب معرفة موسيقية وله أهداف صحية يجب تحقيقها، مثل التخفيف من التوتّر، والمساعدة على التركيز، وتحسين النطق أو الحركة الجسدية، وتحفيز الذاكرة... كل ذلك، مع الحفاظ على الطابع الترفيهي للعلاج الذي يشكّل فرصة للاستمتاع والاستفادة في آنٍ معاً».
علمياً، يُعد العلاج بالموسيقى تقنيّة مُثبتة ومُعترفاً بها للمساعدة في التعامل مع حالاتٍ نفسيّة، تبدأ بالاكتئاب والقلق والتوتّر، وتصل إلى التوحّد، والفصام، واضطراب ما بعد الصدمة، وسواها من الحالات الدقيقة. يُعتمد العلاج بالموسيقى أيضاً للمساعدة في مداواة الجسد والذاكرة: من أمراض القلب وضغط الدم، وصولاً إلى السرطان وألزهايمر. وقد أثبتت أحدث الدراسات أنّ المرضى الذين يستمعون إلى موسيقى يحبّونها بعد خضوعهم لجراحة معيّنة، يتماثلون للشفاء أسرع ممن لا يفعلون ذلك.
تذكّر ديب بأنّ هذه التقنيّة موروثة من الحضارات القديمة كالحضارتين الفرعونيّة واليونانيّة، وهي ارتدت طابعاً رسمياً يوم اعتُمدت عام 1945 في مداواة الجنود الأميركيين العائدين من الحرب العالمية الثانية. أما عن الأساليب المعتمدة في العلاج، فتوضح أنها تتنوّع بين الاستماع إلى الموسيقى، والعزف على الآلات الإيقاعية لا سيّما الـ«درامز» (drums)، مروراً بالغناء، وتأليف اللحن والكلام. مع العلم بأنّ الموسيقى المعتمدة في الجلسات، يمكن أن تتراوح بين الكلاسيكيّة الهادئة والروك الأكثر صخباً، فلكل حالة مزاجها الموسيقي الخاص.
شهد عدد من الدول العربية مؤخراً لجوءاً متزايداً إلى العلاج بالموسيقى، فيما يبدو وعياً إلى فاعليّة هذه التقنيّة، على أن تترافق مع العلاجات الصحية والنفسية الموازية وتكون مكمّلة لها.