«الدقة المختلطة»... نهج لتسريع العمليات الحسابية

استخدمه علماء «كاوست» لنمذجة مجموعات البيانات الجغرافية المكانية الكبيرة والمعقدة

حاسوب «شاهين» العملاق في جامعة «كاوست»
حاسوب «شاهين» العملاق في جامعة «كاوست»
TT

«الدقة المختلطة»... نهج لتسريع العمليات الحسابية

حاسوب «شاهين» العملاق في جامعة «كاوست»
حاسوب «شاهين» العملاق في جامعة «كاوست»

من خلال نهج «الحسابات مختلطة الدقة»، الذي استخدمه علماء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، سيصبح بمقدورنا تحليل مجموعات كبيرة ومعقدة من البيانات الجغرافية المكانية في وقتٍ قياسي. ويواكب هذا النهج تصاعد أهمية البيانات الجغرافية المكانية في الأنشطة الإحصائية؛ إذ تقول الأمم المتحدة إن تلك البيانات أصبحت لا غنى عنها لفهم موقع الأمكنة التي يعيش ويعمل الناس فيها وسياقها، ولفهم الأشخاص المنوط بالحكومات خدمتهم وصلتهم بمجتمعاتهم، وهو ما يسمح بتحديد جذور المشاكل.
ومع ثورة البيانات وظهور التقنيات المبتكرة اليوم، تمكَّن فريق بحثي دولي تقوده «كاوست»، من تسريع نمذجة مجموعات بيانات جغرافية مكانية كبيرة بشكل كبير، دون فقدان الدقة بشكل كليّ، وذلك من خلال تطبيق حسابات عالية الدقة فقط عندما تشتد إليها الحاجة. وتشير كلمة «الدقة» Precision إلى المستوى التفصيلي في القياس، وترتبط بعملية موازنة جهاز القياس وتقويمه، مثل جهاز قياس كمية المطر.
ويشمل ذلك أيضاً العمليات الحسابية؛ ففي بعض الحسابات اليدوية التي تختلف في درجة الدقة بعدد الأرقام العشرية، كلما ازداد عدد هذه الأرقام ارتفعت نسبة الدقة. وتكون الدقة مطلوبة في كثير من الطرائق الإحصائية عند حساب القيمة الحرجة لمقارنتها مع القيمة الجدولية.
وسيسمح هذا النهج بتحليل مجموعات بيانات أكبر في وقت أقصر، الذي يتم تنفيذه على نظام حوسبة عالي الأداء يعتمد على وحدات معالجة الرسوميات المتوازية بشكل كبير (GPU).
وفي الوقت الذي تمتلك فيه أجهزة الكومبيوتر القدرة على إجراء عمليات حسابية كبيرة جداً، وبسرعة ملحوظة، فإن النتيجة في بعض الأحيان قد تكون أقل دقة من الحسابات اليدوية بسبب محدودية الكيفية التي يتم بها تخزين الأرقام في الأنظمة الرقمية. كما تضم «أرقام الدقة القياسية أو الفردية» من 6 إلى 9 أرقام عشرية من الدقة؛ مما يعني أنه سيتم اقتطاع أي عملية حسابية ينتج عنها تسلسل أطول للأرقام، وبالتالي سيتم فقدان المعلومات.
في حين أن إمكانية استخدام «أرقام الدقة المزدوجة» ما زالت مطروحة، إلا أنها تُضاعِف من كثافة الذاكرة والعمليات الحسابية. أمّا عن استعمالها في مجموعات البيانات الجغرافية المكانية فسيكبّلها حجم مجموعات البيانات التي يمكن حسابها بدقة، حيث يمكن أن يؤدي تراكم مثل هذه الأخطاء في الدقة إلى نتائج نمذجة خاطئة.
وفي هذا الشأن، قام الدكتور سامح عبد الله رفقة زملائه في«كاوست»: الدكتور حاتم لطيف، والبروفسور مارك جنتون، والدكتورة يينغ صن، والبروفسور ديفيد كيز، بالتعاون مع باحثين من جامعة تينيسي، الواقعة في ناشفيل (UTK) في الولايات المتحدة الأميركية، بتطوير حل لهذه المشكلة عن طريق نهج «الدقة المختلطة»، حسب الحاجة.
يُذكر أن الاستخدام الشائع «للحسابات المختلطة الدقة» - أحد أشكال حساب الفاصلة العائمة الذي يستخدم أرقاماً ذات عروض مختلفة في عملية واحدة - هو العمل على أرقام غير دقيقة بعرض صغير وتوسيعها لتمثيل أكبر وأكثر دقة.
يقول عبد الله: «لطالما اعتمدَت نمذجة البيانات البيئية على مدى عقود من الزمن على العمليات الحسابية ذات الدقة المزدوجة للتنبؤ بالبيانات المفقودة». ويردف قائلاً: «لكن اليوم، هناك أجهزة حوسبة ذات أداء عالي يمكنها إجراء عمليات حسابية تتميز بدقة أحادية نصفية مع تسريع يقدر بنحو 16 و32 مرة مقارنة بالحسابات ذات الدقة المزدوجة. ولتحقيق أقصى استفادة من ذلك، نطرح (إطاراً ثلاثي الدقة)، يمكنه استغلال عملية تسريع الدقة المنخفضة مع الحفاظ على الدقة باستخدام عمليات الحساب ذات الدقة المزدوجة للمعلومات الأساسية».
علاوة على ذلك، استخدم الباحثون نظام وقت التشغيل لنظام «بارسيك» PaRSEC الذي طوّرته جامعة تينيسي (UTK)، الذي يسمح بالدقة عند الطلب، وتنسيق المهام وحركة البيانات عبر وحدات معالجة الرسوميات المتوازية المتعددة. وعن طريق هذا النظام استغل الباحثون العلاقات الإحصائية في البيانات لتقليل الدقة للمواقع المكانية ضعيفة الارتباط إلى دقة أحادية نصفية على أساس المسافة. ويرجع السبب في ذلك إلى أن «حسابات الدقة المزدوجة»، يتم تطبيقها فقط على المواقع شديدة الارتباط، التي لها التأثير الأكبر على دقة النموذج.
يقول عبد الله: «إن الهدف الرئيسي من هذا المشروع يكمن في الاستفادة من خوارزميات الجبر الخطي المتوازي الحديثة التي طورها مركز أبحاث الحوسبة الفائقة في (كاوست) لتوسيع نطاق تطبيقات الإحصاء الجغرافي المكاني على البنى الموازية الرائدة».
ويكمل: «لقد أظهرنا أنه بمقدورنا تحقيق تسريع كبير مقارنة بالنمذجة الحسابية التي لديها دقة مزدوجة بشكل كامل مع الحفاظ على تقديرات المعلمات ودقة التنبؤ لتلبية متطلبات التطبيق».
ويوضح قائلاً: «تتمثل الخطوة التالية في دمج التقريبات مع الدقة المختلطة لتقليل أثر الذاكرة بشكل أكبر وتقصير وقت العملية الحسابية».



التنشيط الزائد للجهاز المناعي الفطري قد يسبب السرطان

رسم تصويري للإنترفيرون الذي يفرزه نظام المناعة لمحاربة الفيروسات الدخيلة
رسم تصويري للإنترفيرون الذي يفرزه نظام المناعة لمحاربة الفيروسات الدخيلة
TT

التنشيط الزائد للجهاز المناعي الفطري قد يسبب السرطان

رسم تصويري للإنترفيرون الذي يفرزه نظام المناعة لمحاربة الفيروسات الدخيلة
رسم تصويري للإنترفيرون الذي يفرزه نظام المناعة لمحاربة الفيروسات الدخيلة

تؤكد دراسة أميركية جديدة على الدور المزدوج الذي يلعبه الجهاز المناعي الفطري (الطبيعي)، ليس فقط بوصفه حارساً ضد مسببات الأمراض، ولكن أيضاً، من جهة أخرى، بوصفه مساهماً محتملاً في الإصابة بالسرطان عندما يُنشَّط باستمرار بسبب عدم الاستقرار الجيني.

وتلعب الإشارات المناعية عادة دوراً رئيسياً في الحفاظ على استقرار الجينوم خلال تضاعف «الحمض النووي (دي إن إيه - DNA)».

وجاءت نتائج الدراسة لتضيف رؤى حيوية لفهمنا البيولوجيا البشرية الأساسية، كما أنها قد تلقي أيضاً ضوءاً جديداً على بدايات نشوء الورم الخبيث، وتقدم فرصاً محتملة لعلاجات جديدة.

لقد طورت الكائنات الحية مسارات معقدة لاستشعار الحمض النووي التالف وإرسال الإشارات إليه وإصلاحه. وهناك جوانب جديدة حول دور الجهاز المناعي الفطري في الاستجابة للتعامل مع هذا الضرر، سواء في سياق الإصابة بالسرطان، وفي تعزيز صحة الإنسان بشكل عام.

تنشيط الجهاز المناعي... والسرطان

تكشف الدراسة الجديدة، التي قادها المؤلف الأول الدكتور هيكسياو وانغ، من «برنامج البيولوجيا الجزيئية» في «مركز ميموريال سلون كيترينغ للسرطان» الأميركي في نيويورك، ونُشرت في مجلة «Genes & Development» يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2024، عن وجود صلة بين الإشارات المناعية الفطرية وتطور الورم في أنسجة الثدي.

وتشير البيانات البحثية إلى أنه عندما ينشأ عدم الاستقرار في الجينوم، فإن التنشيط المزمن للجهاز المناعي الفطري يمكن أن يزيد بشكل كبير من احتمالات الإصابة بالسرطان.

وركزت الدراسة على مركب بروتيني معقد يسمى «مركب بروتين إصلاح كسور الحمض النووي (دي إن إيه) مزدوج السلسلة (Double-strand break repair protein Mre11)»، وهو إنزيم يرمَّز في البشر بواسطة الجين «MRE11» الذي يلعب دوراً محورياً في الحفاظ على استقرار الجينوم من خلال استشعار وإصلاح «كسور الحمض النووي مزدوج السلسلة».

طفرة بروتينية وتطور الورم

ولدراسة كيف يمكن أن تؤدي المشكلات المتعلقة بهذا البروتين إلى الإصابة بالسرطان، تلاعب الفريق بنسخ من البروتين في «عضويات الأنسجة الثديية (وهي أعضاء نموذجية مصغرة مزروعة في المختبر)»، وقد زُرعت في فئران المختبر.

* تطور الورم: عندما نُشّطت الجينات السرطانية، طورت الفئران التي تحتوي عضويات تحمل «مركب بروتين إصلاح» متحولة مختبرياً، أوراماً بمعدل أعلى بكثير (نحو 40 في المائه) مقارنة بنحو 5 في المائة فقط لدى الفئران الطبيعية. ويؤكد هذا الاختلاف الصارخ على دور «مركب بروتين الإصلاح» في الحفاظ على الاستقرار الجينومي وقمع تكوّن الورم.

* عدوانية الورم: كانت الأورام التي نشأت لدى الفئران التي تحتوي عضويات تحمل «مركب بروتين إصلاح» متحولة، أكثر عدوانية بشكل ملحوظ من تلك الموجودة لدى نظيراتها الطبيعية. وهذا يشير إلى أن فقدان، أو طفرة، «مركب بروتين الإصلاح» لا يزيدان فقط من احتمالية بدء السرطان، ولكنهما قد يساهمان أيضاً في ظهور نمط سرطاني أكثر توغلاً أو سريع التقدم.

كما توفر هذه النتائج رابطاً واضحاً بين أوجه القصور في «مركب بروتين الإصلاح» وعدم الاستقرار الجيني وارتفاع خطر الإصابة بالسرطان؛ مما يسلط الضوء على الدور الحاسم الذي يلعبه المركب في الحماية من تطور الورم. وقد يساعد فهم هذه العلاقة في إعداد استراتيجيات علاجية محتملة لاستهداف ضغوط التكاثر السرطاني ومسارات تنشيط المناعة في تلك السرطانات المرتبطة بخلل في عمل «مركب بروتين الإصلاح».

نقص البروتين يهدد الجينوم

يعتمد هذا البحث الجديد على دراسة سابقة قادها الدكتور كريستوفر واردلو من «برنامج علم الأحياء الجزيئي» في «مركز ميموريال سلون كيترينغ للسرطان» التي نشرت في مجلة «Nature Communications» يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

وركزت تلك الدراسة على دور «مركب بروتين الإصلاح» في الحفاظ على سلامة الجينوم. ووجدت أنه عندما يكون المركب غير نشط أو ناقصاً فإنه يؤدي إلى تراكم الحمض النووي في سيتوبلازم الخلايا، وتنشيط الإشارات المناعية الفطرية. وكشف هذا الجانب من البحث عن ارتباط مهم بين طفرات «المركب» وتنشيط الاستجابة المناعية.

وأدى «المركب المتحور» إلى زيادة تنشيط الجينات المحفزة بالإنترفيرون (ISGs) وهو ما يشير إلى أنه عندما يكون المركب غير فعال فإن الجهاز المناعي الفطري يُنشَّط بشكل غير طبيعي، حتى في غياب محفز فيروسي أو مسبب للأمراض خارجي نموذجي.

والإنترفيرونات جزيئات إشارات تطلقها الخلايا عادة استجابة للعدوى الفيروسية والتحديات المناعية والضغوط الخلوية، ويشير تنشيطها في سياق طفرات «مركب بروتين الإصلاح» إلى أن الخلية تدرك عدم الاستقرار الجيني بوصفه شكلاً من أشكال الإجهاد يتطلب استجابة مناعية.

إمكانات العلاج

وقد سلطت هاتان الدراستان (وغيرهما) معاً ضوءاً جديداً على كيفية عمل «مركب بروتين الإصلاح» لحماية الجينوم عند تكاثر الخلايا، وكيف أنه يمكن عندما لا يعمل بشكل صحيح أن يحفز الجهاز المناعي الفطري بطرق يمكن أن تعزز السرطان.

وقد يؤدي فهم هذه الآليات إلى استراتيجيات تخفف من «تنشيط المناعة المزمن»، مما قد يمنع تطور الأورام، أو يقدم طرقاً علاجية جديدة، كما يفتح طريقاً واعدة للعلاجات التي قد تمنع سوء التنظيم الجيني، أو تخفف من الاستجابات المناعية الضارة.