راغب عيّاد... استلهم جماليات الموضوع الشعبي ومزجه بثقافة المدينة

يسعى الناقد الفني أحمد عبد الفتاح في كتابه «الفنان راغب عياد... رائد التعبيرية الاجتماعية» لتوثيق مسيرة أحد رواد الفن التشكيلي المصري المعاصر، ويكتسب أهميته كونه الأول في هذا المسعى، خاصة أن كبار الفنانين المصريين لم يعكفوا على تسجيل السيرة الذاتية لهم، ولم تهتم الجهات المعنية بذلك، وجمع ما كتب عنه بأقلام النقاد وإصداره في كتاب يليق بعطاء هذا الفنان الرائد.
الكتاب صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة «ذاكرة الفنون» ويقع في 104 صفحات من القطع المتوسط، وهو مزود بملحق لأهم لوحات الفنان.
يذكر المؤلف، أن لراغب عياد (1892 - 1983) السبق في استلهام جماليات الموضوع الشعبي الجمعي وفنون الرسم في الحضارة المصرية القديمة ومزجها بعناصر من المخزون العميق لثقافة القرية والمدينة، والخروج بمركب جمالي متصالح مع اتجاهات الحداثة العالمية وموازٍ لها عبر حس حضاري أصيل دون اللهاث لمحاكاة الاتجاهات الأوروبية التي تسيدت العصر في ذلك العصر.
والمعروف، أن التعبيرية أكثر المذهب الفنية التصاقاً بالذات، بشكل مفرط غالباً، حيث ينصبّ الاهتمام على معاناة الفنان الداخلية، وأثر ما يتعرض له من معاناة وضغوط من واقعه المعيش. وتأتي القيمة الكبيرة التي تنطوي عليها أعمال عياد في أنه استطاع أن ينفض عن التعبيرية ذاتيتها لتصبح تعبيرية اجتماعية، وفناً قومياً يتميز عن الأنماط التي سادت أوروبا في ذلك الوقت، وهو الأمر الذي كان يشغل ذهن الجيل الأول من خريجي مدرسة الفنون الجميلة وهو أن يجدوا أنماطاً جديدة من التعبير يتميزون بها.
عبّرت لوحات عياد، كما يقول المؤلف، عن المعاناة الجماعية للطبقات الشعبية المهمشة من فلاحين وعمال ليكشف بذلك عن عمق انتمائه إلى البيئة التي خرج منها وقدرته الخلاقة للتعبير عنها. يقول الشاعر والكاتب الفرنسي إيميه آزار في كتابه عن التصوير الحديث في مصر، إن «راغب عياد بفكره اللاذع والميل إلى الكوميديا المطلقة وهو يزيل الستار على حد قول بودلير عن مفترق الفوارق الاجتماعية كان واحداً من أوائل المصريين القادرين على إضفاء الطابع المحلي على أعماله». غير أن هذا الأسلوب الذي تميز به راغب عياد لم يأت مرة واحدة أو عن طريق الصدفة، بل كان يميل منذ اللحظة الأولى لدخوله مدرسة الفنون إلى أن يشق لنفسه طريقاً أخرى مختلفة عما يلقيه عليه أساتذته من تعاليم، فما أن انتهى من فترة إعداده الأكاديمي حتى ألقى وراء ظهره كل ما تعلمه، فشرع في ابتداع الأسلوب الخاص به في حرية دون قيد، فكانت الخطى الأولى نحو الموضوعات الشعبية بداية من العام 1920، ومنذ تلك اللحظة لم يقف حائلاً بينه وبين موضوعاته الشعبية سوى البعثة التي أرسل إليها عام 1925 في إيطاليا، ولكن سرعان ما يعود ليستكمل ما بدأه قبل السفر.
أما عياد نفسه، فيكتب عن بداياته الأولى في كتابه «أحاديث في الفنون الجميلة» قائلاً: بدأت دراستي الفنية بمعهد الفنون الجميلة الأول عام 1908، وإني أصارحكم بأني مدة دراستي لم أكن طالباً نموذجياً ولا ممتازاً ولا شيئاً على الإطلاق بل طالباً عادياً، ولم أحظَ برضا أساتذتي، ولم أنل تقديرهم أو تشجيعهم لأني كنت من الثائرين على الكلاسيكية والقواعد الفنية الضيقة المقيدة، كما كنت أكره بطبيعتي الدراسات الأكاديمية البحتة كالرسم عن التماثيل الصامتة؛ لأنها كانت في نظري مجردة من الحياة، كما كنت أكره الاستماع إلى النظريات والأساليب المدرسية المحدودة الضيقة وكل ما يحتم اتباعه من أصول وقواعد موضوعة للفن لا يمكن التحول عنها بأي حال. وبدأت دراستي المنشودة عن الحياة الريفية معتمداً على جهدي الشخصي وانفعالاتي الوجدانية وسعيي وراء البحث والتحصيل».
بهذا التعبير الشعبي يصور عياد أبطال لوحاته لتظهر بماهي عليه في جوهرها من بساطة وعدم تكلف لتتمتع بروح الألفة والرحابة. ولم تقف أعماله عند حد النقد الاجتماعي وحسب، بل أراد لها أن تسجل تلك المسحة من المرح والسعادة التي تنتاب الإنسان وهو يؤدي عمله، سواء في الحقل أم في موقع مشروع أو سوق شعبية، أو وهو يرعى ماشيته. وتعد لوحة «الزراعة» من الأعمال المهمة للفنان والتي أنجزها عام 1958، وهي ليست مجرد عمل يصور الفلاحين وهم يزرعون الحقل ويرعون الماشية ويخبزون، بل في حقيقة الأمر نحن أمام صراع جدلي بين الإنسان والأرض، بحسب المؤلف. هناك أيضاً لوحة «سد أسوان»، حيث شهد عام 1964 احتشاداً ضخماً للعديد من الفنانين حول المشروع القومي للسد العالي متمثلاً في تسجيل مراحل العمل في السد ومنطقة قرى النوبة.
ونقرأ في الكتاب، أن عياد كان من أوائل الفنانين المنتسبين إلى مدرسة الفنون الجميلة عند إنشائها لأول مرة، قبل أن تصبح كلية، كما أنه صاحب أول مبادرة تعاون لاستكمال الدراسة بالخارج مع زميله يوسف كامل، وهو أيضاً أول من طالب أثناء دراسته في إيطاليا بإنشاء أكاديمية مصرية في روما للفنون الجميلة.
كانت أكاديميات الفنون الموجودة بروما موضع إعجاب كبير من أعضاء البعثة المصرية وتمنوا أن يصبح لمصر واحدة مثلها؛ مما دفع عياد إلى أن يرسل خطاباً بتاريخ 24 يونيو (حزيران) 1924 باسمه وبالنيابة عن جميع زملائه إلى أحمد ذو الفقار باشا وزير مصر المفوض بروما تقريراً مطولاً يعرض عليه الفكرة، معللاً جدواها بالعديد من الأسباب، منها حاجة الفن المصري إلى الدعم من قِبل الحكومة حتى يستعيد مجده وريادته المفقودة. وفي ختام حديثه، طلب من الوزير المفوض أن يتوسط لدى الحكومة المصرية ويقنعها بالشروع في تأسيس المعهد الذي سيعود بالنفع على الفنانين ومن ثم على الفن المصري والحركة الفنية بوجه عام. ووافقت الحكومة المصرية حينها على إنشاء الأكاديمية.