إلى حدٍّ ما، قد ينطبق توصيف علاقة القوّة بين روسيا وأوكرانيا على توصيف العلاقة نفسها بين أثينا وجزيرة ميلوس، خلال حرب البيليبونيز التي دارت رحاها بين أثينا وإسبارطة في القرن الخامس قبل الميلاد: «الأقوياء يفعلون ما في وسعهم، ويعاني الضعفاء ما يجب عليهم فعله».
أراد الأثينيّون استغلال الجزيرة في حربهم على إسبارطة، مع أنها تبعد 110 كيلومترات عن الشاطئ اليونانيّ، وذلك رغم حيادها في الحرب. ولم يرد الأثينيّون تضييع وقتهم في تفسير سبب الاحتلال من منظار أخلاقي، فهم اعتبروا أن القوّة هي الحقّ.
في الحرب على أوكرانيا، حُوِّر التاريخ من قِبل الرئيس بوتين. فأوكرانيا ليست موجودة على الخريطة، ولا يملك الرئيس بوتين الوقت الكافي لشرح أخلاقيّات حربه عليها. فإذا انتظر أكثر، فقد يخسر أوكرانيا إلى غير رجعة. فهي تحوّلت نحو الغرب مع جيل لا يعرف مآثر الاتحاد السوفياتي. وكوّنت رابطاً قوميّاً بين جيل الشباب. وإذا خسرها، فقد يؤدّي هذا الأمر إلى تفتّت روسيا على أساس قوميّ، بسبب التراجع الديمغرافي المُخيف.
وهو -أي بوتين- يلوم فلاديمير لينين على منحه أوكرانيا عام 1920 استقلالها، مع أن لينين كان قد منح الاستقلال لأوكرانيا بسبب خوفه من التفتت على أسس إثنيّة، وذلك بُعيد تأسيسه الاتحاد السوفياتي.
فهل يريد الرئيس بوتين دخول التاريخ من باب التشبّه بالقياصرة الذين بنوا أمجاد الإمبراطوريّة الروسيّة؟ فما فعله بطرس الأكبر منذ 350 سنة، يُعتبر بالنسبة له النبراس والقدوة.
يريد بوتين استعمال أوكرانيا في صراعه مع الغرب. فهي على تماس جغرافي مباشر يُقدّر بـ2200 كيلومتر. منها تأتي المخاطر، وفيها ذكريات أليمة، كون كييف كانت ممرّاً للجيش النازي إلى موسكو، خلال الحرب العالميّة الثانيّة.
كما خاض السوفيات حرباً دمويّة ضد الجيش النازي المنسحب من موسكو حول مدينتي أزيوم وخاركيف في عام 1942. وخسر السوفيات هذه المعركة، وتكبّدوا خسائر بشريّة هائلة تُقدّر بـ200 ألف قتيل.
لام خروتشيف ستالين على هذه الكارثة، بسبب عناده وقصر نظره. لكن بالطبع، بعد موت ستالين.
حرب أوكرانيا إلى أين؟
كيف يُقاس النجاح في أوكرانيا؟ متى يعتبر الرئيس بوتين أنه حقّق كل أهدافه؟ كيف يعتبر الرئيس زيلينسكي أنه انتصر؟ بالصمود أو التحرير؟ الصمود الأوكراني يتعلّق بمدى صبر ودعم الغرب. أما التحرير فهو -حسب موازين القوى الحاليّة- يعتبر من سابع المستحيلات.
طلب مستشار الرئيس زيلينسكي دعماً من الغرب لتحقيق التكافؤ والتوازن، وبأسرع وقت ممكن. لكن طلباته مستحيلة التنفيذ، وهي اشتملت على: 500 دبابة، و300 راجمة صواريخ، و1000 مدفع ميداني.
وإذا سلَّمنا جدلاً بأن قرار الموافقة قد أتى من الغرب على هذه الطلبات، فإن العوائق ستتظهّر على الشكل التالي: قرار التنفيذ والتسليم، التدريب على العتاد والتعهد، التدريب على الذخيرة، شحن هذه الأسلحة إلى أوكرانيا، ومن ثمّ إلى الجبهات، استمرار تدفّق التموين بالذخيرة. وهذه أمور تتطلّب وقتاً طويلاً لا تملكه أوكرانيا في وضعها الحالي. هذا عدا احتمال الردّ العسكري الروسي على هذا القرار، سواءً في الداخل الأوكراني أو خارجه.
ماذا بعد دونباس؟
إذا خرج بوتين منهكاً من الحرب في الشرق، فقد يكتفي بضمّ الإقليم إلى روسيا، مع القسم الجنوبي الذي تسيطر عليه روسيا، وذلك على غرار ما فعل مع شبه جزيرة القرم.
وإذا تبقّى لديه من القوّة والاندفاعة، فقد يعمد إلى العودة إلى كييف مرّة أخرى لإخضاعها، حتى من دون الدخول إليها، أو قد يعمد إلى الوصول عسكريّاً إلى نهر الدنيبر لشقّ أوكرانيا إلى قسمين: شرق النهر وغربه، على أن يُشكّل النهر الحاجز الطبيعي الدفاعي للقوات الروسيّة المنهكة والمستنزفة. وبانتظار الانتهاء من إقليم دونباس كله، فإن غداً لناظره قريب.