لا بد أن اللحظة التي يصفع فيها جان - لوي ترنتنيان زوجته لأنه يحبها من أصعب ما واجهه خلال تصوير فيلم «حب» (L›amour) للمخرج ميشيل هنيكه.
ترنتنيان، الذي توفي عن 91 سنة يوم أول من أمس، كان في الثانية والثمانين عندما مثل هذا الفيلم سنة 2012. كان ظهر على الشاشة 123 مرة منذ فيلمه الأول «لو أن كل رجال العالم» Si tous les gars du monde [إخراج كرستيان - جاك، 1955] وخبر أدواراً عديدة تميز العديد منها بما عكسه، من خلال شخصياته، من موهبة وقدرة على التحكم في الانفعالات.
ما جعل ذلك المشهد صعباً هو أن الصفعة كانت رد فعل غاضبا على شريكة عمره (الراحلة إيمانويل ريڤا) حين رفضت، من دون دراية، أن تأكل الطعام الذي حملها له. هو زوج متفانٍ حيال امرأة تدرك أن نهايتها، بعدما أصيبت بضعف بدني وعقلي، دنت. تتذمر كثيراً وتفقد ذاكرتها مراراً ثم، مع شللها، تصبح انطوائية. وهي خائفة من زوجها جورج (ترنتنيان). خوفها في عينيها حتى من قبل الصفعة. حين يصفعها لا يمكن لنا أن ندرك وقع ذلك في ذاتها كونها مهزومة وغير قادرة على التعبير إلا بخوف صامت. لكننا ندرك ما يجول في بال جورج ودوافعه. إنه الحب ممتزجاً بالشفقة والغضب. لأداء هذه اللحظة يفترض الناقد أن الممثل كان عليه أن يستخرج من ذاته الحب والشفقة والغضب فعلاً.
- حب ممنوع
ولد ترنتنيان في جنوب فرنسا في 11 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1930 واكتشف حبه للتمثيل حين كان في العشرين من العمر. في مطلع الخمسينات ظهر على خشبة المسرح قبل أن يجد فرصة العمل أمام الكاميرا في «لو أن كل رجال العالم»، الذي قام ببطولته ممثلون لم ينجزوا الشهرة ذاتها من بينهم أندريه ڤالمي ومازك كاسو وجان غاڤن. كان الدور صغيراً، لكنه بعد عام تبوأ البطولة لجانب بريجيت باردو في فيلم كلود ليلوش «وخلق الله المرأة». بعد ذلك وجد نفسه في الخدمة العسكرية في الجزائر. حال عودته من هناك (سنة 1959) ظهر في فيلم آخر لروجيه ڤاديم وإن لم يكن دور بطولة. الفيلم هو «علاقات خطرة» التي قادت بطولته جين مورو.
بين هذا الفيلم وفيلمه الثالث تحت إدارة ليلوش وهو «رجل وامرأة» (1966) 19 فيلم آخر بينها فيلمه الأول تحت إدارة كوستا - غافراس وهو «جريمة السيارة النائمة» (The Sleeping Car Murder). فيلمه الثاني مع غافراس كان «زد» سنة 1969 وهو العام الذي مثل فيه بطولة «ليلتي عند مود» لإريك رومير.
هناك لحظات في «ليلتي عند مود» تشبه تلك التي في فيلم «حب». هذه تتجلى في أكثر من مشهد تتنازع العاطفة الشخصية التي يؤديها في الفيلم. فهو يحب فتاة لم يتحدث إليها بعد ويمتنع عن الاستجابة لجاذبية امرأة أخرى تريده. لا شيء (تبعاً لأسلوب رومير) يفصح عن نفسه بسهولة. ليس لأن الفيلم صعب بل لأن ترنتنيان عليه أن يفسر للمشاهد سبب امتناعه على نحو مقنع.
في العام 1970 لعب أحد أهم أدواره. اختاره المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي لكي يقود بطولة «الملتزم» (The Conformist). في هذا الفيلم عكس ترنتنيان شخصية الرجل الذي يعاني من تاريخ شخصي قادته إلى مثلية مكتومة وإلى الدخول في الحزب الفاشي الحاكم (تقع الأحداث قبيل الحرب العالمية الثانية).
كان ترنتنيان ظهر في أفلام إيطالية سابقة، من بينها «صيف عنيف» لڤالريو زورليني (1962) و«قضية فابياني» لأندريه ڤرسيني (1962)، لكن ذلك الدور الخاص في «الملتزم» كان الأكثر انعكاساً لما يستطيع ترنتنيان توفيره لإداء شخصية قلقة وداكنة لكنها في الوقت ذاته قادرة - في المشاهد التي تلي تلقي أمر بقتل مناوئ للفاشية - على أن توحي بالقبول كما لو أنه وجد في مهنته ما يرضيه، بينما التردد كان بدأ يداخله خصوصاً وأن الشخص المطلوب قتله ليس سوى أستاذه السابق قبل سنوات.
النقاد الإيطاليون أصابوا عندما وصفوا تشخيص ترنتنيان في هذا الفيلم بـ«حيرة هاملت» استنتاجاً لما مرت به الشخصية الشكسبيرية الشهيرة (قام ترنتنيان بتمثيلها على المسرح في الخمسينات).
- أفلام وجوائز
ليس أن «الملتزم» كان أول دور مركب. نجده عالج نوعية هذه الأدوار في «الغزلان» (Les Biches) لكلود شابرول (1968) وفي «ترانز يوروب إكسبرس» لألان روب - غرييه (1966) وفي «الرجل الذي يكذب» (لروب - غرييه أيضاً، 1968) كما في «زد»، لكن فيلم برتولوتشي كان ذلك النوع من الأفلام الذي كان سيخلد أي ممثل جيد يقوم ببطولته. ما حصل هو أن ترنتنيان عرف، وهو الذي يجهل اللغة الإيطالية (تم استخدام بديل صوتي له) كيف يوفر ما لاءم الدور المنشود تماماً. بعد ذلك، عرض برتولوتشي على ترنتنيان القيام ببطولة «التانغو الأخير في باريس» لكن الممثل اعتذر لأنه لا يشعر، كما قال حينها، بالراحة حيال «مشاهد العري». بذلك ذهب الدور إلى مارلون براندو (الذي لم يكن لديه ذلك الشعور بطبيعة الحال). استخدمه المخرج الجزائري أحمد راشدي في فيلمه «الأفيون والعصا» (1971) الذي تناول حرب الاستقلال الجزائرية. وهو في السبعينات مثل تحت إدارة بعض أفضل مخرجي السينما الفرنسية مثل فيليب لابرو («بلا دافع مفهوم») ورنيه كليمان («وآمل الموت» (And Hope to Die...) وإيف بواسيه («خطة») وبيير غرانيه - ديفير («القطار»).
في الثمانينات وجد الفرصة للعمل مع الإيطالي إيتوري سكولا في ثلاثة أفلام هي «الشرفة» (1980) و«شغف حب» (1981) و«ليلة في ڤارنيس» (1982). قام ببطولة «سرياً لك» (1983) ومثل تحت إدارة ليلوش في ثلاثة أفلام أخرى في الثمانينات أهمها «رجل وامرأة بعد 20 سنة» (1986) واستعان به البولندي كريستوف كيسلوڤسكي في «ثلاثة ألوان: أحمر».
بعد «حب» لميشيل هنيكه ظهر في فيلم المخرج ذاته «هابي إند» (2017). آخر فيلم له هو «أفضل سنوات حياتنا» لكلود ليلوش (2019) الذي هو بمثابة الجزء الثالث من تلك الثلاثية الشهيرة.
حصد ترنتنيان جوائز عدة من المهرجانات الدولية. بدأت سلسلة فوزه كأفضل ممثل عندما منحه مهرجان برلين، سنة 1968، جائزة أفضل تمثيل رجالي عن دوره في «الرجل الذي يكذب» لألان روب - غرييه. في السنة التالية نال جائزة «كان» كأفضل ممثل عن دوره في «زد». وبعد أن تم ترشيحه ثلاث مرات لجائزة سيزار الفرنسية فاز في المرة الرابعة عن لدوره في «الذين يعرفونني يمكن أن يأخذوا القطار» (باتريس شيرو، 1998. في العام 2012 انتزع جائزة «يوروبيان فيلم أوورد» عن دوره في «حب».