خلال فترة التوقف الدولية التي شهدت جولات متتالية من مباريات دوري الأمم الأوروبية، وهي فكرة جيدة لكنها تراجعت بسبب الظروف الحالية، حيث يحاول المشجعون والصحافيون المرهقون استحضار العزيمة والإرادة للاهتمام باللاعبين المرهقين الذين يشاركون مع منتخباتهم بعد موسم طويل مع فرقهم، لكن العديد من المدربين يرى أنها فرصة للاستعداد لنهائيات كأس العالم.
في المنتخب الإنجليزي يبدو أن محاولة المدير الفني غاريث ساوثغيت تجربة مجموعة جديدة من اللاعبين لم تؤتِ ثمارها وخرج بنتائج مخيبة في دوري الأمم، حيث لم يستطع إحراز فوز واحد خلال أربع مباريات هزم في اثنتين وتعادل في مثلهما. والواضح أنه عجز مثلاً عن استدعاء الطاقة للاعتناء بمن قد يكون الخيار الثالث في مركز الظهير الأيمن للمنتخب. كما كشفت هذه الجولات عن ضرورة مشاهدة إعادات أخرى لتقنية «الفار» مثل ما حدث من تداخل بالأقدام بين اثنين من اللاعبين في هذه البطولة.
لقد أصبح الأمر سيئاً للغاية للدرجة التي جعلت حتى الحديث عن العمر الكبير لقلبي دفاع المنتخب البلجيكي قد بدأ يفقد بريقه! ولم يعد الأمر يقتصر على أن ضغط المباريات بسبب تداعيات تفشي فيروس كورونا وتغيير موعد كأس العالم لتقام في نوفمبر (تشرين الثاني) والجشع، قد تسبب في إرهاق الجميع، بل أصبح دوري الأمم الأوروبية يستهلك أروع وقت في السنة، وهو فترة الانتقالات.
في الحقيقة، يعد الهوس الشديد بالحديث عن انتقالات اللاعبين شيئاً مثيراً للحيرة، لكن ما أصبح واضحاً للغاية، هو أن قسماً فرعياً مهماً من ثقافة كرة القدم - الصحافيون والمشجعون وربما المديرون الفنيون أيضاً - أصبح يفضل سوق انتقالات اللاعبين على اللعبة نفسها على ما يبدو. ففي بداية شهري سبتمبر (أيلول) وفبراير (شباط) من كل عام، تكون هناك نقاشات محمومة حول من «فاز بفترة الانتقالات»، كما لو كان شراء اللاعبين هو غاية في حد ذاته، وليس وسيلة للفوز بالمباريات.
ومثلما تبدو لحظة إجراء القرعة وكأنها أفضل جزء من البطولة، لأننا نتخيل فيها المواجهات بين أقوى الفرق بعيداً عن الإصابات أو تراجع المستوى، كذلك يكون اللاعب في أفضل حالاته عندما يوقع على عقد انتقاله إلى نادٍ جديد.
إننا نتخيل كيف سينجح هذا المهاجم الجديد، وهو في أفضل حالاته في التعاون مع زملائه في الفريق، قبل أن يتضح لنا أنه لم يتعافَ أبداً من الإصابة التي تعرض لها في ربلة الساق مثلاً، أو أنه لا يجيد اللعب في مركز الظهير الأيسر، أو أن مركز الجناح الأيمن ليس مناسباً له تماماً، أو أن طريقته في اللعب لا تتناسب مع فلسفة المدير الفني الجديد، أو أن شراكته مع صانع الألعاب مع ناديه السابق كانت هي السبب وراء تألقه وظهوره بشكل جيد.
وهناك أيضاً شعور بالمكانة: إذا قام النادي بشراء لاعبين كبار بمقابل مادي كبير، فهذا يعني أنه يجب أن يكون نادياً كبيراً!... لقد أصبحت الصفقات هدفاً في حد ذاتها، وأصبحت انتقالات تحدث من أجل الانتقالات نفسها. ربما يكون هذا مرتبطاً بالمتعة التي يبدو أن الكثيرين يشعرون بها عند الشراء والتسوق، فالكل يريد أن يعبر عن الطموح من خلال الإنفاق؛ والكل يريد المزيد من الأموال والمزيد من المشتريات، لكن قليلين فقط هم من يتوقفون للسؤال من أين تأتي هذه الأموال!. في المجتمع الحديث، يصبح الاستحواذ بحد ذاته سعياً ذا مغزى، وإذا كنت مليارديراً فربما يتجاوز الأمر ذلك، فقد يتفاخر ملياردير بأنه إذا كان لدى ملياردير آخر يخت أكبر، فإن لديه أغلى لاعب خط وسط في العالم!.
وبالنسبة لتلك الأندية التي لديها مصادر خارجية ضخمة للإيرادات، والتي لا تعتمد على عائدات البث التلفزيوني وعائدات بيع تذاكر المباريات، فإن التعاقدات الكبيرة لها تداعيات إضافية تتمثل في تضخيم السوق وزيادة أسعار اللاعبين بشكل مبالغ فيه، وانتقال أفضل اللاعبين من مجموعة الأندية التي تعتمد على الطرق التقليدية في التمويل.
لكن هناك شيئاً غريباً هنا، فرغم أن الأندية الأكثر ثراءً هي الأندية الأكثر نجاحاً، فإن أكبر الصفقات والتعاقدات نادراً ما تنجح، وهناك قائمة طويلة بأغلى الصفقات في تاريخ كرة القدم والتي لم تحقق النجاح المتوقع.
ومن بين أغلى عشرين صفقة، كم عدد اللاعبين الذين يمكن القول إنهم حققوا نجاحاً واضحاً داخل المستطيل الأخضر؟ لا يزال البعض، مثل البرتغالي جواو فيليكس، والإنجليزيين جاك غريليش وجادون سانشو صغاراً في السن، وقد يحققون النجاح بعد ذلك، لكن بعض اللاعبين الآخرين كانت قصتهم معقدة للغاية، مثل الويلزي غاريث بيل. صحيح أنه فاز بدوري أبطال أوروبا خمس مرات مع ريال مدريد وقدم بعض العروض الرائعة، لكن السنوات الثلاث الأخيرة له مع النادي الملكي كانت صعبة للغاية، وتقريباً لا يكاد يفارق مقاعد البدلاء، أو كان يخرج من قائمة المباراة تماماً. وهناك ثلاث صفقات فقط - كريستيانو رونالدو إلى ريال مدريد، وفيرغيل فان دايك إلى ليفربول، ولويس سواريز إلى برشلونة - هي التي حققت نجاحات حاسمة.
قد يكون البرازيلي نيمار أو الفرنسي كيليان مبابي، وهما أغلى انتقالين في التاريخ، قد ساعدا في الترويج للعلامة التجارية لباريس سان جيرمان، الذي يعد جزءاً كبيراً من المشروع القطري، ومن المؤكد أنهما ساهما في تسريع وتيرة تضخم أسعار اللاعبين بشكل كبير، لكنهما لم ينجحا في قيادة النادي الباريسي للحصول على لقب دوري أبطال أوروبا، الذي بات يعتبر الطريقة الوحيدة التي يمكن للنادي من خلالها الحكم حقاً على مدى نجاحه على المستوى الرياضي، نظراً لأنه يحصل على لقب الدوري الفرنسي الممتاز بسهولة ودون منافسة تذكر من الأندية الأخرى.
لقد أدى انتقال نيمار إلى باريس سان جيرمان إلى أن يبرم برشلونة أغلى ثالث صفقة في التاريخ بتعاقده مع اللاعب البرازيلي فيليب كوتينيو، وكان المستفيد الأكبر من ذلك هو نادي ليفربول، الذي استخدم عائدات هذه الصفقة في التعاقد مع الهولندي فيرغيل فان دايك والحارس البرازيلي أليسون بيكر. لقد كانت أكثر مباراة لا تُنسى لكوتينيو أثناء تعاقده مع برشلونة هي التي سجل فيها هدفين في مرمى الفريق الكتالوني نفسه عندما كان يلعب على سبيل الإعارة لنادي بايرن ميونيخ، وهي المباراة التي خسرها برشلونة بشكل مهين بنتيجة ثمانية أهداف مقابل هدفين. وعلاوة على ذلك، فإن برشلونة، الذي كان سجله في الانتقالات مؤخراً سيئاً مثل أي ناد آخر، مسؤول أيضاً عن إبرام أغلى خامس صفقة وأغلى ثامن صفقة في التاريخ بالتعاقد مع الفرنسي أنطوان غريزمان، الذي تخلص منه برشلونة بخسارة مالية كبيرة ولو على سبيل الاعارة. أما الفرنسي الآخر عثمان دمبيلي، الذي انضم لبرشلونة برقم قياسي يتخطى 100 مليون يورو، فقد أصبح على وشك الرحيل بعد انتهاء عقده مع النادي الكتالوني بنهاية الموسم الحالي.
ويمثل المهاجم البلجيكي روميلو لوكاكو ثلاثة من أغلى 21 عملية انتقال في تاريخ كرة القدم. وكانت الصفقة الأقل تكلفة من بين انتقالاته الثلاثة هي انتقاله من مانشستر يونايتد إلى إنتر ميلان، وهي الخطوة الوحيدة الناجحة بالنسبة للمهاجم البلجيكي. كما لم يكن انتقاله من إيفرتون إلى مانشستر يونايتد سيئاً، حيث باعه الأخير بخسارة صغيرة بعدما قضى عامين في «أولد ترافورد» لم يحقق خلالهما النجاح المتوقع، لكن انتقاله إلى تشيلسي من إنتر ميلان الصيف الماضي مقابل 97.5 مليون جنيه إسترليني كان بمثابة فشل ذريع ومثير للحيرة والتساؤلات. وكانت المقابلة الصحافية التي أجراها المهاجم البلجيكي في فترة أعياد الميلاد والتي انتقد فيها الخطط التكتيكية التي يعتمد عليها الألماني توماس توخيل المدير الفني لتشيلسي قد تسببت في انهيار العلاقة بين الطرفين على ما يبدو. بالإضافة إلى ذلك، هناك لاعب خط الوسط الفرنسي بول بوغبا، الذي يبدو أن دوره الأساسي بات هو التنقل بين مدينتي مانشستر وتورينو بتكلفة كبيرة للغاية على مانشستر يونايتد!.
وبعد مسيرة ناجحة للجناح البلجيكي إدين هازارد مع تشيلسي، جاء انتقاله إلى ريال مدريد في عام 2019 بمبلغ يقدر بنحو 160 مليون يورو مليون يورو على أنه صفقة رابحة للنادي الملكي الإسباني، لكن اللاعب البلجيكي عانى من ثلاث سنوات مخيّبة في العاصمة الإسبانية سواء من تراجع المستوى أو الإصابات المتلاحقة. ولعب هازارد ثماني دقائق فقط في مباراتي الدور الـ16 من دوري أبطال أوروبا ضد باريس سان جيرمان الفرنسي، فيما بقي على مقاعد البدلاء في الخسارة برباعية نظيفة في الكلاسيكو ضد الضيف برشلونة في الليغا ولم يشارك في نهائي دوري الأبطال أمام ليفربول. ويمتد عقد ابن الـ31 عاماً مع الريال حتى 2024 لكن بطل إسبانيا يفكر في التخلي عن خدماته الصيف المقبل مع احتمال عودته إلى الدوري الإنجليزي. ويبدو أن ريال مدريد كما برشلونة محور للصفقات الكبيرة المثيرة وآخرها إعلان ضمه لاعب وسط موناكو الفرنسي الدولي الشاب أوريليان تشواميني مقابل مبلغ يصل إلى نحو 90 مليون يورو. وبات تشواميني (22 عاماً) ثاني لاعب ينضم إلى النادي الملكي بعد المدافع الألماني أنطونيو روديغر القادم من تشيلسي مجاناً لانتهاء عقده.
وتفجّرت موهبة تشواميني مع موناكو بعد انتقاله إلى صفوفه مقابل 20 مليون يورو في يناير (كانون الثاني) 2020 قادماً من بوردو، ومع المنتخب الفرنسي الذي خاض معه 11 مباراة وسجل هدفاً، لكن وصوله إلى ريال مدريد يعني الانتقال للمنافسة على مستويات أخرى ستكشف إلى أي مدى نجاح هذه الصفقة.
ومن بين أغلى 20 صفقة في تاريخ كرة القدم، يمكن تصنيف ثمانية صفقات على أنها حققت فشلاً واضحاً من منظور كرة القدم. فما الذي يعنيه ذلك بالضبط؟ هذا لا يعني بالتأكيد أن الأموال غير مهمة أو أن الانتقالات الكبيرة محكوم عليها بالفشل دائماً، لكن هذا يعني أنه من الأفضل أن تُنفق هذه الأموال على النجوم الصاعدة الذين يناسبون فلسفة النادي بدلاً من شراء المشاهير وأصحاب الأسماء الكبيرة، واللاعبين الذين يعانون من أجل التكيف مع بيئة جديدة.
يعني هذا أيضاً أنه يتم إنفاق الكثير من الأموال الآن لأغراض تجارية بقدر ما يتم إنفاقها لأسباب تتعلق بكرة القدم، لكن أكبر الصفقات والانتقالات نادراً ما تحقق النجاح المتوقع على أرض الملعب.