ناشرون مغاربة لـ«الشرق الأوسط»: هناك إقبال على الكتب المترجمة... ونحتاج إلى دعم

ترجمة كتب إلى العربية من لغات أخرى «عبر وسيط» يمكن أن تؤثر على القيمة النهائية للعمل المترجم

سليم كردي وطارق سيليكي ويوسف كرماح
سليم كردي وطارق سيليكي ويوسف كرماح
TT

ناشرون مغاربة لـ«الشرق الأوسط»: هناك إقبال على الكتب المترجمة... ونحتاج إلى دعم

سليم كردي وطارق سيليكي ويوسف كرماح
سليم كردي وطارق سيليكي ويوسف كرماح

ما فتئت الترجمة تثير الأسئلة والقلق. لا يتعلق الأمر، هنا، بنقاش طارئ أو قضية مستجدة، سواء لدى الخوض في العلاقات بين البشر أو عند رصد تلاقح الثقافات الإنسانية.
على المستوى العربي، يكفي أن نستحضر «بيت الحكمة» والدور الذي لعبته هذه «المؤسسة» على مستوى نقل المعارف الأجنبية إلى اللغة العربية، وصولاً إلى الدور المؤثر الذي لعبته الترجمة في التحولات التي عرفتها المنطقة العربية في العصر الحديث.
على المستوى الأدبي، ينظر إلى الترجمة، أحياناً، بعين «الريبة والحذر»، على اعتبار أنها، حتى في أرقى مستوياتها، كما يرى الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو «لا يمكن أن تفي بالنص الأصلي وأن تؤديه تماماً»؛ إذ تأتي «في مرتبة ثانية، في وضع ثانوي، تستمد كيانها من غيرها، بينما يستمد النص كيانه من ذاته». بالنسبة لبول ريكور، فـ«الترجمة لا تطرح فقط عملاً فكرياً، نظرياً أو تطبيقياً، ولكنها تطرح مشكلة أخلاقية تتمثل في تقريب القارئ من الكاتب وتقريب الكاتب من القارئ».
لكن ماذا عن حركة الترجمة، اليوم، في البلدان العربية؟ هل هناك إقبال على الكتب المترجمة أكثر من الموضوعة؟ ما هي الدوافع وراء ذلك؟
هنا، وجهات نظر ثلاث من مسؤولي دور النشر في المغرب، تتضمن تقييمهم ووجهة نظرهم بخصوص واقع الترجمة الأدبية في العالم العربي، بشكل عام، والمغرب، بشكل خاص، مع توقفهم عند ما تتطلبه العملية من جهد، وما تحتاج إليه من دعم.

- كردي: انتظارات القراء وتمكن المترجم
يرى بسام كردي، مسؤول «المركز الثقافي للكتاب» بالدار البيضاء، أن أغلب منشورات المركز هي عربية في أصلها، وأن ما يترجم من الكتابات التي تقوم الدار بإصدارها قليل، بحيث لا تتجاوز نسبته 5 في المائة.
وأوضح كردي، أن ما يصدره المركز من منشورات مترجمة، تحكمه عوامل مرتبطة بالسياق المغربي على مستوى القراءة والتلقي. فعلى مستوى الأعمال الروائية المترجمة، مثلاً، تحدث كردي عن أعمال من الأدب الروسي، الذي تتم ترجمتها من اللغة الروسية مباشرة، وليس عبر لغات أخرى وسيطة، سبق أن تُرجمت إليها.
وشدد كردي على حرص المركز على إصدار كتب مترجمة في الأنثروبولوجيا، مثلاً، بالنظر إلى حاجة سوق القراءة إلى هذه النوعية من الكتابات، مع إشارته إلى أن بعض الناشرين العرب يترجمون الروايات الأجنبية، وهي ترجمات قال، إنها تلقى إقبالاً ضعيفاً في المغرب، مقارنة بما هو عليه الحال في المشرق، وخصوصاً منطقة الخليج.
وبسط كردي تفسيرات لهذا الأمر، بقوله، إن القارئ، عموماً، والمثقف، بشكل خاص، في المغرب تحكمه خلفية ازدواجية اللغة، وبالتالي تجده يفضل قراءة الروايات الفرنسية في لغتها الأصلية، من دون الحاجة إلى قراءتها مترجمة إلى العربية. وعلى العكس من ذلك، فالتمكن من الفرنسية في المشرق يبقى ضعيفاً مقارنة بالمغرب، ومن هنا الحاجة إلى ترجمة مثل هذه الأعمال من لغتها الفرنسية إلى العربية.
وزاد كردي قائلاً، إنهم يفضلون في المركز نشر أعمال موضوعة بالعربية، وحين يستدعي الأمر ترجمة كتابات من لغات أخرى، يتم التوجه، بشكل كبير، إلى مترجمين موثوقين، أكدوا علو كعبهم في الميدان، بحكم تمرسهم مع البحث والكتابة، على غرار فريد الزاهي وسعيد بنكراد وإدريس الملياني.
- سليكي: دعم الترجمة
يرى طارق سليكي، مسؤول دار النشر «سليكي أخوين»، بطنجة، أن الترجمة في العالم العربي تبقى ضعيفة مقارنة بالدول الغربية، ممثلاً لوجهة نظره بمستوى إنتاج الكتب في العالم العربي مجتمعاً، والذي قد لا يعادل ما تنتجه فرنسا وحدها في مختلف أصناف الكتابة.
وهو يعتقد أن الترجمة غير نشطة في العالم العربي، من دون أن ينفي وجود إقبال عليها من طرف عدد من دور النشر العربية، مبرراً وجهة نظره بحديثه عن منح للترجمة تقدمها بلدان معينة في إطار تشجيع منتوجها الثقافي والتعريف به وتقديمه على مستوى ثقافات أخرى.
وأشار سليمي إلى فرنسا التي تدعم ترجمة الكتاب الفرنسي من الفرنسية إلى لغات أخرى، وكذلك الحال مع ألمانيا وبريطانيا؛ ما يعني أن الأمر مرتبط، من وجهة نظره، بإرادة دولة. أما بالنسبة إلى الوطن العربي، يضيف سليكي، فهناك دائماً ترجمة من لغات أخرى إلى العربية، في حين الترجمة من العربية إلى لغات أخرى ضعيفة جداً، إن لم نقل إن أرقامها لا تتجاوز مسألة المجاملات بين الأصدقاء الذين يترجمون لبعضهم بعضاً. لكن سليكي يتساءل، هل هناك مشروع تتبناه دولة عربية ما لدعم ترجمة الإنتاج العربي إلى لغات أخرى؟
يشدد سليكي على أن تكلفة الترجمة تكون، أحياناً، أكبر بكثير مما يمكن أن يربحه ناشر أو كاتب من العمل الذي أنتج في لغته الأم، بحيث إن عملاً من 300 إلى 350 صفحة ربما يُمكّن المترجم من الحصول على 4 آلاف دولار، وبالتالي فالعملية لا يمكن للناشر أن يتحملها إلا في إطار مؤسساتي، عبر دعم توفره جهة ما.
وتطرق سليكي إلى ما وصفه بـ«عقدة الآخر»، التي تستدعي تغييراً في العقليات، مشيراً إلى أن ما ينتجه الآخر، وراء البحر، ينظر إليه البعض على أساس أنه أفضل مما ينتج في العالم العربي؛ ما يعني أن هناك أفكاراً قبلية بخصوص العمل الأدبي والفكري، في حين يستدعي الأمر الاطلاع على العمل قبل الحكم المسبق عليه.
وبعد أن أشار إلى وجود أسماء متمكنة ولها باع طويل في الترجمة مع نوع من الجدية في العمل، تطرق سليكي إلى مسألة لها دورها على مستوى القيمة النهائية للعمل المترجم، والمتمثلة في أن بعض الكتابات لا تترجم أحياناً من اللغة الأولى للكتابة إلى العربية إلا عبر وسيط، أي أنه تتم ترجمة كتاب إلى العربية من الفرنسية التي سبق أن ترجم إليها من الألمانية أو الروسية أو الإنجليزية أو غيرها. وبالتالي، فبما أن الترجمة تقدم عادة كخيانة لنص أصلي، فإنه يبقى لنا أن نقيس حجم الخيانات التي يتعرض لها النص قبل نزوله ضيفاً على لغتنا العربية.
وبخصوص حقوق الترجمة، أشار سليكي إلى أن مسألة الدعم هي التي تسهل العملية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الترجمة مسألة لغوية ودفاع عن ثقافة ما، بنشرها والتعريف بها لدى الآخر، مع إشارته إلى أن تقديم الدعم لنشر لغة وثقافة له، في أغلب الأحيان، أهداف أكبر. وشدد، في هذا الصدد، على أن القيمة التي من المفترض أن تعطى للثقافة واللغة في الوطن العربي لا يتم استشرافها والانتباه إليها بعد، بالشكل المطلوب.
وختم سليكي بالحديث عن تجربتهم الخاصة مع ترجمة أعمال بلغات أخرى إلى العربية، مشدداً على أن الأمر مكلف على مستوى النشر، بالنظر إلى متطلبات تمويل هذه العملية، التي تبقى أمراً صعباً، بالنظر إلى الكلفة التي تتطلبها عملية الجمع بين متطلبات حقوق المؤلف، وحقوق المترجم والطباعة؛ مع إشارته، في سياق حديثه عن الدعم الذي يمكن أن يخصص لهذه العملية، إلى إصدار عناوين لكتاب إسبان ترجمت إلى العربية بدعم من وزارة الثقافة الإسبانية، من منطلق دعمها عملية نقل الكتاب الإسباني إلى لغات أخرى. كما أشار إلى دعم مؤسسات أخرى لنشر كتب مترجمة من الفرنسية إلى العربية.
- كرماح: قيمة مضافة وعائد مادي
وذكر يوسف كرماح، صاحب دار النشر «أكورا»، بطنجة، أن هناك إقبالاً على الترجمة، مشيراً إلى أن الكتب المترجمة تبقى الأكثر مبيعاً. وهنا، يطرح كرماح سؤالاً، «لماذا؟»، ليجيب «لأن القارئ العربي يريد أن يكتشف الآخر. هو يعرف الوضع العربي بمختلف تجلياته؛ لذلك يقبل على الأعمال المترجمة من لغات وثقافات أخرى».
ويشرح كرماح وجهة نظره قائلاً «عندما نجد إقبالاً على كتابات الروائي الياباني هاروكي موراكامي أو الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، مثلاً، فذلك لا يعني، بالضرورة، أن كتاباتهما خارقة للعادة، بل لأن القارئ العربي يجد متعة لقراءة ثقافة أخرى، يكتشفها من خلال هذا العمل أو ذلك».
وزاد كرماح، موضحاً وجهة نظره «إننا حين نقرأ لموراكامي أو لمواطنه يوكيو ميشيما، مثلاً، فإننا نكتشف اليابان بثقافتها وعاداتها وطريقة تفكير أهلها. والشيء نفسه ينطبق على كتاب أميركا اللاتينية أو حتى الكتاب الأميركيين، على غرار تشارلز بوكوفسكي وجون فانتي. وهذا الإقبال لا يعني، كما قلت سابقاً، أن الأمر يتعلق بكتابات خارقة، بل لأن هذه الأعمال، من اليابان إلى أميركا الشمالية واللاتينية، وغيرها، تحيلنا على الثقافة والعادات والتقاليد والتاريخ الخاص بمناطق أخرى في العالم».
وجواباً عن سؤال إذا ما كان الإقبال على الترجمة يعني أن العائد المادي من وراء الكتب المترجمة يكون أكبر مقارنة بالمنشورات الأخرى، قال كرماح «فعلاً، عائدات الكتب المترجمة أعلى؛ لأنها تباع أكثر؛ ليس في المغرب فقط، بل في عموم العالم العربي. الترجمة تحظى بإقبال كبير جداً. وهي لها دوران: دور مادي من جهة أنها تكتفي بذاتها وتحقق أرباحاً، فضلاً عن الجانب الأدبي والإبداعي، من جهة ما توفره من متعة الاكتشاف والتعرف على الثقافات والأعراف وتوسيع المدارك بالنسبة للقارئ العربي».


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة