ملامح الهوية القومية وشخصية الزعيم في الحرب الروسية الأوكرانية

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ف.ب)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ف.ب)
TT
20

ملامح الهوية القومية وشخصية الزعيم في الحرب الروسية الأوكرانية

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ف.ب)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ف.ب)

تستدعي الحرب الدائرة في أوكرانيا الكثير من الكلام والتحليلات التي تطال الجوانب الاستراتيجية بتشعّباتها السياسية والعسكرية والاقتصادية. كما أن النظرة إلى الحرب بعيون الناس في أنحاء العالم تختلف وفق أهوائهم السياسية ومكوّنات شخصياتهم الاجتماعية. فثمة من يرى في فلاديمير بوتين زعيماً توسعياً يطمح إلى السيطرة على جيرانه. ومنهم من يرى فيه قومياً منعزلاً لا يستطيع التفاهم مع الآخرين وبالتالي يتصرف من منطلق خوف غير مبرَّر من التقدم الغربي نحو بلاده، وهناك من يعتبر أنه قائد شجاع يتصدى للقوى التي تريد أن تبقى وحدها في الصدارة. وفي السياق، ثمة من يعتقد أن فولوديمير زيلينسكي مجرد دمية في يد واشنطن التي تستخدمه وتستخدم أرض بلاده لضرب روسيا وعزلها...
في الواقع، لا تكون الحرب صنيعة عوامل اقتصادية وسياسية فحسب، ولا مجرد نتيجة لشخصية زعيم مهما علا شأنه، ولا «تتمة» لفصول وتراكمات تاريخية يحاول أحد ما المحاسبة عليها وتصحيح ما يراه فيها من خلل أدى إلى ظلمه وهضم حقوقه.
لعلّ الحرب هي كل هذا وفيها من كل هذا. إلا أن هناك جانباً مهماً جداً يضطلع بدور حاسم في اتخاذ قرار الحرب: الشخصية التاريخية لدولة ما، أو بالأحرى لأمة ما. وإذا سلّمنا جدلاً بأن أوكرانيا هي مسرح لحرب بين روسيا وخصومها الحقيقيين وليست بالتالي اللاعب الأصيل بل الخاسر الأصيل، فلننظر إلى اللاعب الأصيل الآخر في محاولة لفهمه.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (أ.ب)
*ملامح من الهوية الروسية
قال الكاتب الروسي بيوتر تشاداييف (1794 – 1856) عن بلاده: «نحن لم نتقدم أبدًا مع الشعوب الأخرى. نحن لا نرتبط بأي من العائلات البشرية الكبيرة. لا ننتمي إلى الغرب ولا إلى الشرق، وليس لدينا تقاليد أي منهما... لم نتأثر بالتعلّم الشامل الذي حققته البشرية».
ينقل الكاتب اللورد روبرت سيدلسكي عن المفكر جون غراي، وكلاهما بريطانيّ، قوله إن فلاديمير بوتين يمثل «وجه عالم لا يفهمه العقل الغربي المعاصر. في هذا العالم، تظل الحرب جزءًا دائمًا من التجربة الإنسانية، مع صراعات قاتلة على الأراضي والموارد يمكن أن تندلع في أي وقت، والبشر يقتلون ويُقتلون من أجل رؤى غامضة».
لكن، هل الأمر يتعلق ببوتين وهوسه بالماضي؟ هل هذا ما يحصد آلاف الأرواح ويدمّر أوكرانيا ويهدد مستقبل روسيا؟ أم أن الأخيرة تخوض حرباً لتحقيق ما تراه عدالة تاريخية ولجعل العام 2022 نقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة من تاريخ العالم، تماماً كما حصل مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 أو سقوط جدار برلين عام 1989؟
لا ننسى أن «المكافأة» التي تلقاها الاتحاد السوفياتي بعد الأثمان الباهظة التي دفعها في الحرب العالمية الثانية لم تكن بالمستوى المأمول، فمقابل السيطرة التي فرضها على دول حلف وارسو والنفوذ الذي تمتع به في بعض الدول البعيدة، خاض حرباً باردة طويلة ومكلفة مع المعسكر الغربي، انتهت بسقوطه الاقتصادي المدوّي وتفكك حجارة بنيانه مع تهاوي جدار برلين.
قبل الثورة البولشفية عام 1917 كانت روسيا إمبراطورية، وفي العهد السوفياتي كانت أيضاً أمبراطورية متجلببة بجلباب الشيوعية، على رأسها «قيصر» شيوعي هو الزعيم الذي لا يُردّ له قول ولا أمر.
بعد انتهاء التجربة السوفياتية، لم تعمّر تجربة إنشاء جمهورية ليبرالية طويلاً، فقد فشل بوريس يلتسين فشلاً ذريعاً في تحقيق أحلام الناس... شكّل الرئيس لجنة من العلماء والسياسيين لصَوغ «فكرة قومية» جديدة تجمع الناس حولها. بيد أنه لم يفلح في ترسيخ المُثُل الديمقراطية عبر استنساخ التجارب الغربية، وسرعان ما تحوّلت أجواء التفاؤل التي سادت في البلاد بين 1989 و1991 أثراً بعد عين. ولعل أسوأ ما أنتجته تجربة يلتسين هو اتساع الهوّة بين الغالبية العظمى من الشعب الروسي الواقع في هوّة الفقر، وتلك الطبقة الأوليغارشية التي نشأت على أنقاض العهد السوفياتي وحقق أفرادها ثروات هائلة جعلتهم يعيشون في عالمهم الخاص، فيما الروسي العادي يمر أمام واجهات المتاجر البراقة في موسكو وسان بطرسبرغ ليرى منتجات مستوردة لم تسبق له رؤيتها، من دون أن يستطيع أن يقتني أياً منها إلا في أحلامه...

*القيصر الجديد
على أنقاض الأحلام المحطّمة أتى فلاديمير بوتين ليقبض عملياً على السلطة منذ العام 1999 ويعيد روسيا إلى «مكانها الطبيعي»، دولة كبيرة لا تنسى هواجسها التاريخية ولا تتغاضى عن مخاوفها المستقبلية. وبنى الرجل الآتي من عالم الاستخبارات الذي يرى العالم من حيث لا يراه الناس العاديون، دولة تقوم حول شخصيته القوية، مقتنعاً بأن أخطاراً حقيقية وداهمة تحيط ببلاده على خطوط حدودها الكبيرة.
مرت السنوات صعبة وثقيلة، قبل أن يبتسم القدر لروسيا وزعيمها، فتجود الأرض بالنفط ثم الغاز، وتتدفق الإيرادات التي سمحت بتحقيق نهضة اقتصادية – إنما من دون التخلص من الأوليغارشية والفساد – وتحمّل الأعباء المالية للاحتفاظ بجيش قوي، والتطلع إلى استعادة الدور العالمي نفوذاً وتدخلاً مباشراً وغير مباشر ومشاركة في القرار في مختلف القضايا والشؤون والجغرافيات...
لا غرابة في أن ينظر رجل بعقلية بوتين وشخصيته إلى الغرب نظرة حذر وعدائية، حذر تجاه أوروبا الغربية، وعدائية تجاه الولايات المتحدة. ولا عجب في أن تدق نواقيس الأخطار في ذهنه مع التوسع الهائل لحلف شمال الأطلسي منذ نهاية الحرب الباردة.
ولا مفاجأة في أن تنقض دباباته صيف العام 2008 على جورجيا المتجهة غرباً، وأن يضم شبه جزيرة القرم ويدعم انفصاليي شرق أوكرانيا عام 2014.
لا مجال في واقع كهذا إلا أن يحصل ما حصل في أوكرانيا منذ 24 فبراير (شباط) الماضي، لأن الزعيم - الفرد المجبول من طين التاريخ بعيده وقريبه والمفتون بالقيصر بطرس الأكبر لن يعثر على حلول أو مناورات تدفع به إلى تجنب الحرب لإبعاد الخطر عن بلاده.
جنود أوكرانيون يزرعون ألغاماً مضادة للدبابات في منطقة دونيتسك (أ.ب)
*ماذا فعل الآخرون؟
يتحمّل اللاعبون الآخرون في هذه الحرب قسطاً كبيراً من المسؤولية، وربما غفلوا أو أغفلوا حقيقة من يقف في وجههم.
الأوروبيون الغربيون عاشوا تجربة مختلفة عن التجربة الروسية، فقد انهارت «إمبراطورياتهم» الواحدة تلو الأخرى، وأنتج الواقع الاجتماعي والاقتصادي طبقات بورجوازية مثقفة تسلمت السلطة بالتدريج مرتكزة على مثل ومبادئ تبلورت مع الزمن المثقل بالحروب والآلام.
الأميركيون لم يعرفوا تجربة مماثلة، ويبدو أن المهاجرين الأوروبيين الذين بنوا الولايات المتحدة سقطت من أذهانهم ذكريات العذاب في القارة التي أتوا منها بعد ابتعادهم عنها جغرافياً.
المؤسف أن الطرفين لم يفهما روسيا – التاريخ وبوتين – ابن التاريخ، أو ربما فهما وتظاهرا بعدم الفهم، والأرجح أن أحدهما فهم وترك الآخر يواجه مجدداً أثقال الماضي ليقبض هو على الحاضر والمستقبل.


مقالات ذات صلة

الكرملين يتهم كييف بمحاولة اغتيال بوتين بمسيرتين

العالم الكرملين يتهم كييف بمحاولة اغتيال بوتين بمسيرتين

الكرملين يتهم كييف بمحاولة اغتيال بوتين بمسيرتين

قال الكرملين الأربعاء إنه أسقط طائرتين مسيّرتين أطلقتهما أوكرانيا، واتّهم كييف بمحاولة قتل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وأوضح الكرملين في بيان: «استهدفت مسيّرتان الكرملين... تم تعطيل الجهازين»، واصفاً العملية بأنها «عمل إرهابي ومحاولة اغتيال رئيس روسيا الاتحادية». وقال الكرملين إن العرض العسكري الكبير الذي يُقام في 9 مايو (أيار) للاحتفال بالنصر على ألمانيا النازية في عام 1945 سيُنظم في موسكو رغم الهجوم بمسيَّرات. ونقلت وكالات الأنباء الروسية عن المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف قوله: «العرض سيقام. لا توجد تغييرات في البرنامج».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
شؤون إقليمية تدشين أول مفاعل نووي لتوليد الكهرباء في جنوب تركيا

تدشين أول مفاعل نووي لتوليد الكهرباء في جنوب تركيا

أكّدت تركيا وروسيا عزمهما على تعزيز التعاون بعد نجاح إطلاق أكبر مشروع في تاريخ العلاقات بين البلدين اليوم (الخميس)، وهو محطة «أككويو» النووية لتوليد الكهرباء التي أنشأتها شركة «روسآتوم» الروسية للطاقة النووية في ولاية مرسين جنوبي تركيا. وأعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، خلال مشاركته إلى جانب نظيره الروسي فلاديمير بوتين، عبر تقنية الفيديو الخميس، في حفل تزويد أول مفاعل للمحطة التركية بالوقود النووي، أن تركيا ستصبح من خلال هذا المشروع واحدة من القوى النووية في العالم.

يوميات الشرق محمد بن سلمان وبوتين يبحثان العلاقات

محمد بن سلمان وبوتين يبحثان العلاقات

أجرى الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي اتصالاً هاتفياً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمس. وقدم الرئيس الروسي في بداية الاتصال التهنئة لولي العهد بعيد الفطر المبارك. وجرى خلال الاتصال استعراض العلاقات الثنائية بين السعودية وروسيا وسبل تطويرها في مختلف المجالات.

«الشرق الأوسط» (جدة)
بوتين يقر بـ«صعوبات» في دونباس

بوتين يقر بـ«صعوبات» في دونباس

اعترف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمس الخميس، بالصعوبات التي تواجهها قوات بلاده في إقليم دونباس بشرق أوكرانيا، وطالب بوضع تصورات محددة حول آليات تطوير الحكم الذاتي المحلي في المناطق التي ضمتها روسيا الخريف الماضي. وقال بوتين خلال ترؤسه اجتماعاً لمجلس تطوير الحكم الذاتي المحلي الذي استحدث لتولي الإشراف على دمج المناطق الجديدة، إنه على اتصال دائم مع حاكم دونيتسك دينيس بوشيلين. وخاطب بوشيلين قائلاً: «بالطبع، هناك كثير من المشكلات في الكيانات الجديدة للاتحاد الروسي.

العالم تقرير: المعارضة الروسية مشتتة وتعول على هزيمة في أوكرانيا

تقرير: المعارضة الروسية مشتتة وتعول على هزيمة في أوكرانيا

في روسيا وفي المنفى، أُضعفت المنظمات والمواطنون المناهضون للحرب ولبوتين بسبب القمع وانعدام الوحدة بين صفوفهم، وفق تقرير نشرته الأربعاء صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية. حسب التقرير، يعتبر المعارضون الديمقراطيون الروس أن هزيمة الجيش الروسي أمر مسلَّم به. «انتصار أوكرانيا شرط أساسي للتغيير الديمقراطي في روسيا»، تلخص أولغا بروكوبييفا، المتحدثة باسم جمعية الحريات الروسية، خلال اجتماع نظمه المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري) مع العديد من ممثلي المعارضة الديمقراطية الروسية، وجميعهم في المنفى بأوروبا. يقول المعارضون الروس إنه دون انتصار عسكري أوكراني، لن يكون هناك شيء ممكن، ولا سيما تمرد السكان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

عالم الجيوبوليتيك... بين الترابط والانفصال

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث مع صحافيين على متن الطائرة الرئاسية الأحد (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث مع صحافيين على متن الطائرة الرئاسية الأحد (رويترز)
TT
20

عالم الجيوبوليتيك... بين الترابط والانفصال

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث مع صحافيين على متن الطائرة الرئاسية الأحد (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث مع صحافيين على متن الطائرة الرئاسية الأحد (رويترز)

يشهد عالم اليوم ما يُسمّى «التحوّل النموذجي» (Paradigm Shift)، وفي أبعاد عدّة، منها الاجتماعي والاقتصاديّ، والتكنولوجي وبالطبع الجيوسياسيّ. التحوّل النموذجيّ يعني أن العالم يمرّ بمرحلة الانتقال من منظومة قديمة، كانت لها قواعدها وقوانينها وثقافتها وتوازناتها، إلى مرحلة لم تتّضح فيها الضوابط بعد. تُعدّ هذه المرحلة الانتقالية الأخطر على الأمن والسلم العالميّين.

في تسعينات القرن الماضي، أطاحت العولمة بكل الضوابط والحدود، لكن بطريقة سلميّة. يشهد عالم اليوم الانكماش والتراجع عن الانفتاح. وفي الحالتَيْن، يكون التأثير على التوازنات الجيوسياسيّة في النظام العالمي مختلفاً. في التسعينات، فتحت أميركا نفسها، وانفتحت على العالم بشكل لم يسبق له مثيل.

صورة من فيديو لمناورات صينية بالذخيرة الحية في محيط بحر الصين الشرقي (أرشيفية - رويترز)
صورة من فيديو لمناورات صينية بالذخيرة الحية في محيط بحر الصين الشرقي (أرشيفية - رويترز)

قرّرت أميركا اليوم الانحسار. عندما انفتحت على العالم ثبّتت نفسها بصفتها أولى بين متساوين، حتى الوصول إلى درجة الأحاديّة. تنحسر اليوم أميركا، مع الرئيس ترمب، في شكل لم تتظهّر معالمه وتداعياته الكاملة بعد، على العالم وعلى الداخل الأميركيّ أيضاً. وعليه يمر عالم اليوم بحالة من اللاتوازن. وفي حالة اللاتوازن، تستغلّ عادة القوى العظمى، والكبرى، وضمنها القوى الإقليميّة، هذا الوضع، وهذه الفرصة الجيوسياسيّة، لتحقيق أحلامها وأهدافها، خاصة عبر التوسّع الجغرافي، أو عبر الهروب من التحالفات، والاصطفاف في مكان آخر.

الترابط والانفصال

تفتح روسيا الباب أمام أميركا الآن، لكنها مع الصين في شراكة لا حدود لها. تقاتل الوحدات الخاصة من كوريا الشمالية في روسيا ضدّ أوكرانيا، كما تمدّ كوريا الشمالية روسيا بالذخيرة والصواريخ، علماً بأن ترمب سبق أن هدّد في ولايته الأولى بتدمير كوريا الشمالية، قبل أن يعقد محادثات مع زعيمها كيم جونغ أون. تُصنّف كوريا الشمالية اليوم ضمن مجموعة الدول التي تملك أسلحة نوويّة، وبذلك تشكّل، بسبب قربها الجغرافيّ من الصين، خطراً استراتيجياً على الأمن القومي الصيني، علماً بأن التنين الصيني يحاول حالياً فرض منطقة نفوذ في محيطه تشمل بحر الصين الجنوبي وتايوان وفيتنام وكوريا بشطرَيْها الشمالي والجنوبي.

وزير الدفاع الأميركي الجديد بيت هيغسيث ورئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا في طوكيو 30 مارس 2025 (أ.ف.ب)
وزير الدفاع الأميركي الجديد بيت هيغسيث ورئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا في طوكيو 30 مارس 2025 (أ.ف.ب)

هناك شراكة «دون حدود» بين الصين وروسيا، لكن منطقة نفوذ الصين الحالية في آسيا الوسطى، تهدّد منطقة النفوذ الروسية التاريخيّة. كما أن المشروع الكوني للرئيس الصيني شي جينبينغ، «الحزام والطريق»، يمرّ حكماً في مناطق النفوذ الروسي.

في المقابل، تنشر أميركا في الفلبين صواريخ «تايفون» القادرة على ضرب كل الساحل الصيني الشرقي، كما تعزز القدرات الدفاعية لتايوان. لكن روسيا تشارك الصين في الكثير من المناورات البحريّة على حدود اليابان، الحليف المركزي للعم سام في الشرق الأقصى.

تستعجل الصين التحضير العملانيّ لضم جزيرة تايوان بالقوة، إذا تعثّرت القوة الناعمة عن تحقيق الأهداف. وحسب بعض الخبراء، تعتمد الصين على استراتيجية تجاه تايوان ترتكز على أربعة أسس هي: الإذلال، والإكراه، والعقاب، ومن ثمّ الاجتياح بوصفه حلاً أخيراً. ولذلك تعتمد الصين في محيطها الشرقي، ولتأمين منطقة نفوذها، على استراتيجيّة «الملفوف» (Cabbage)، بدل «السلامي» (Salami Tactic). فما الفارق بين المقاربتَيْن؟ ترتكز مقاربة «السلامي» على القضم المتدرّج للشرائح واحدة بعد الأخرى. لكن ما يربط شرائح «السلامي» بعضها ببعض يبقى هشّاً. أما استراتيجيّة «الملفوف» فهي تقوم على حماية كل إنجاز بإنجاز آخر يحميه ويٌحصّنه، وعلى عدّة مستويات وطبقات (Layers) تلتف حول بعضها، كما تلتف أوراق «الملفوف» على القلب. فإذا ما أراد البعض الوصول إلى القلب، فعليه المرور بطبقات عدة، الأمر الذي يبدو مُكلفاً.

جندي أوكراني يطلق قذيفة مدفعية باتجاه مواقع روسية على الجبهة الأحد (رويترز)
جندي أوكراني يطلق قذيفة مدفعية باتجاه مواقع روسية على الجبهة الأحد (رويترز)

تعاني تايوان من استراتيجيّة الغموض الأميركيّ تجاه مصير الجزيرة؛ فهل سيكون مصيرها مثل مصير أوكرانيا مع الإدارة الجديدة؟ وماذا لو هاجمت الصين الجزيرة واستبقت أي تحضير أميركيّ؟ أتى الردّ الأميركيّ على القلق التايواني بطريقة غير مباشرة؛ ولكن كيف؟

عمّمت وزارة الدفاع الأميركيّة (البنتاغون) مؤخراً مذكّرة تحت اسم «توجيهات سريّة ومؤقّتة» تشرح فيها رؤية الرئيس دونالد ترمب تجاه الصين. تطلب المذكّرة التحضير العسكري للانتصار في أيّ حرب مستقبليّة مع الصين. تعدّ المذكّرة أن الصين تشكّل الخطر الأوحد على الولايات المتحدة، ومن الضروري ردعها كي لا تفرض أمراً واقعاً (Fait Accompli) باحتلال الجزيرة.

وفي هذا الإطار، زار وزير الدفاع الأميركي الجديد، بيت هيغسيث، مؤخراً كلاً من الفلبين واليابان. ولإرضاء ترمب، قررت تايوان وعبر أهم شركة مُصنّعة للشرائح الذكيّة في العالم، استثمار ما يُقارب من 100 مليار دولار في الداخل الأميركي.

في الختام يُنظّر المفكّر والمحاضر في جامعة تكساس، إيونوت بوبيسكو، في كتابه «لا نظراء منافسون» (No Peer Rivals)، أن على الولايات المتحدة، وكي تبقى مهيمنة، وكي تحافظ على نفسها بصفتها القوة العظمى الوحيدة في العالم، أن تعتمد الواقعية الهجوميّة والاستراتيجية الكبرى التالية: «الهيمنة (الأميركية) على المحيط المباشر، ومنع الصين من الهيمنة على محيطها المباشر كي لا تنطلق منه إلى الهيمنة العالمية». فهل تشكّل تايوان مفتاح الهيمنة الصينيّة على محيطها، والباب للهيمنة العالميّة؟ وأين تصبّ سياسة ترمب الخاصة بغرينلاند وكندا وقناة بنما؟ وهل تدخل الحرب التجارية مع العالم في هذا الإطار؟ إن غداً لناظره قريب.