ثنائية الحضور والغياب

« دفوف رابعة العدوية} لعبد الستار البيضاني

ثنائية الحضور والغياب
TT

ثنائية الحضور والغياب

ثنائية الحضور والغياب

في رواية «دفوف رابعة العدوية» للروائي عبد الستار البيضاني والصادرة عام 2022، ثمة همّ مركزي يهيمن على الرواية هو البحث عن الحقيقة الغائبة، أو بالأحرى عن جملة من الحقائق والوقائع الخلافية الملتبسة التي خلقها التاريخ الرسمي والمدون. فالرواية، احتكاماً إلى عنوانها «دفوف رابعة العدوية» هي عملية بحث واستقصاء، ربما على طريقة الصحافة الاستقصائية عن المتصوفة الإسلامية رابعة العدوية البصرية المولودة في البصرة نحو سنة 100 للهجرة والمتوفاة سنة 185 للهجرة، كما يذهب إلى ذلك أغلب المؤرخين. وحياة رابعة العدوية مليئة بالتناقضات والأضداد؛ مما جعلها تقع فريسة سوء تأويل وقراءة من قِبل المؤرخين والفقهاء. فهي تجمع في آن واحد بين الغناء، وهو في الغالب غناء صوفي، لكنه لا يخلو من بعد حسي، وبين الانصراف كلياً إلى عبادة الله. لذا؛ تجد من يرفعها إلى مرتبة القداسة بوصفها شهيدة العشق الإلهي، وهناك من يتهمها بالفسوق والتحلل والكفر.
ويمكن أن نعد رواية «دفوف رابعة العدوية» هذه محاولة جديدة، على مستوى السرد الافتراضي، لإعادة الاعتبار للجوهر الإنساني والروحي معاً لشخصية رابعة العدوية. ويحق للناقد أن يشير إلى هيمنة ثنائية الغياب والحضور في الفعل الروائي. فثمة صراع جدلي محتدم بين ما هو غيابي، وما هو حضوري. ويمكن القول، إن نص حياة رابعة العدوية وسيرتها يمثلان النص الغائب والموازي معاً للنص الروائي المكتوب، وهما يتحكمان إلى حد كبير في مسار الحبكة الروائية وتعرجاتها. كما يمكن النظر إلى نص حياة بطلة الرواية «قبس» بوصفها تمثل العناصر الحضورية الحية والمباشرة التي يتلقاها القارئ. لكن هذا القارئ يشعر بوجود نص باطني أو بنية تحتية deep structure تختفي تحت البنية السطحية surface structure للنص الروائي.
وكان الروائي موفقاً إلى حد كبير في التقريب التدريجي بين هذين النصين، حيث يلتحم نص «قبس» الحضوري الحي المباشر، بنص «رابعة العدوية» الغيابي الروحي، والموازي، وربما المتحكم في حركة الأحداث الروائية. ويلتحم النصان في نهاية الرواية: نص رابعة العدوية بدفوفها الروحية والصوفية ونص «قبس» بسنطورها وجسدها وجمال عينيها، في ضربة ذكية من الروائي بالانحياز إلى الجانب الحسي والجسدي، على الجانب الروحي المحض الذي تختتم به الرواية.
كما تمثل الرواية عملية بحث عن السر الذي يربط رابعة العدوية ودفوفها وبين المرأة التي أحبها «قبس» وسنطورها. وتمثل الرواية، من جهة أخرى، عملية بحث عن الهوية من خلال رحلة البطل إلى البصرة بحثاً عن وثيقة للرعوية العراقية لأسرته تؤكد عراقيتها.
إذْ يخبرنا الراوي المركزي وبطلها، أنه «معتقل في رأس امرأة، وتحديداً في حجرة عينيها». (ص5) ويمكن القول، إن الرواية هي أيضاً نضال البطل للتحرر من هذا المعتقل ومواجهة حبيبته (قبس) وجهاً لوجه، وهو فعلاً ما تحقق في نهاية الرواية عندما انحلت الثنائية الضدية: الغياب والحضور بانتصار الجانب الحسي والدنيوي في الدمج بين دفوف (رابعة العدوية) وسنطور (قبس)، حيث اكتشف البطل وحدة الأضداد في شخصية حبيبته الواقعية التي غمرته بالحب والروحانية معاً. إذْ يشعر لأول مرة أنه قد تحرر من معتقل عينيها:
«سرت قشعريرة في جسدي وقواي». (ص 168)، وبأنه، «كما حدست (قبس) بأنه من خلال هذا اللقاء الحسي والجسدي بينهما قد وصل إلى رابعة العدوية، بلحمها، ودمها، ومعانيها». (ص 176).
ومن الجدير بالذكر، أن معظم الكتابات الصوفية تنطوي على عناصر حضورية تتمثل في اللغة والبناء والتشكيل وعناصر غيابية تتمثل في المعنى والترميز، وهو ما سبق وأن أكده تودوروف، وهو ليس بعيداً عما قاله فرديناند دوسوسور، بأن الدال يمثل العناصر الحضورية، بينما يحيلنا المدلول إلى العناصر الغيابية. وسبق للصوفي المعروف محيي الدين بن عربي أن قدم تحديداً لمفهومي الحضور والغياب في الخطاب الصوفي، قريباً من هذا التصور. وهذه الرواية، وأعني بها «دفوف رابعة العدوية»، تحفل بمظاهر هذه الثنائية بوجهيها الصوفي، العرفاني، والحسي الدنيوي معاً؛ وهو ما يشجع القارئ والناقد معاً على تفكيك شفرات هذا النص الروائي، والوصول إلى مكامن العناصر الغيابية في السرد الروائي ورموزه. ومن اللافت للنظر، أن الروائي قد حاول مراراً الاحتكام إلى القارئ، وربما إلى المروي له أيضاً، للمشاركة في حل بعض أسرار السرد. فمنذ الصفحة الأولى يشير إلى القارئ وإلى المروي narratee له معاً:
«لا أريد أن أشغل أحداً معي في البحث عن الإجابة، فلدي الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى أن أحسم إجاباتها بالمزيد من التأمل والتفسير». (ص 5)
ويبدو لي، وكأنه وهو يروي كيفية تعرفه على «هذه المرأة» وكأنه يخاطب هذا القارئ أو المروي له:
«منذ سنوات طويلة أعرف هذه المرأة، أستطيع القول أنّا من أصدقاء العمر،... ومعنى اسمها قبس». (ص 6)
ومن الناحية السردية، نلاحظ أن بطل الرواية هو الراوي المركزي والمهيمن على حبكتها وحركة أحداثها جغرافياً وتاريخياً، أفقياً وعمودياً. كما أن هذا الراوي المركزي يمنح بعض الشخصيات الفرصة لالتقاط خيط السرد، مثلما يفعل عادة مع حبيبته «قبس» التي يشجعها على الحكي ورواية جوانب من سيرتها وحياتها وسر تعلقها برابعة العدوية وبالسنطور معاً، للوصول إلى ذرى روحية من الحلول الصوفي بالذات الإلهية. ولذا؛ فقد جاء سرد «قبس» في الدرجة الثانية بعد سرد البطل، بوصفه الراوي المركزي الذي يوزع الأدوار على الرواة الأخرى، مثلما يفعل «المايسترو» مع الفرقة السمفونية، كما فعل عندما منح عدداً من الرواة الثانويين فرصاً للتعبير عن وجهات نظرهم منهم «عبيد الخربطلي» الذي ساعده عند الإدلاء بشهادة تؤكد عراقية «رعوية» أسرته ذات الأصول البصرية العريقة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الرواية فضلاً عن كونها رواية «بوليفونية»، تنطوي على تعدد صوتي، فإنها تكشف عن عناصر ميتا سردية من خلال الإشارة إلى احتمالية كتابة سيرة روائية عن تجربة البطل ورحلته البحثية إلى البصرة. ففي حوار بين البطل وصديقه علي حسين العلي، أشار صديقه إلى أنه لو كان مكانه لكتب رواية:
«لو كنت مكانك لكتبت رواية جديدة عنها». (ص 172) وعندما لم يجد صديقه استجابة جادة على مقترحه بادره بالقول:
«أنا إذن سأكتب الرواية، أو سأرويها لزملائي، أصحاب محال بيع الإطارات الذين يجمعهم الحديث عن رابعة العدوية كل يوم في محلي». (ص 172)
لقد حققت رواية «دفوف رابعة العدوية» مجموعة كبيرة من المعطيات والنتائج المباشرة وغير المباشرة، فضلاً عن تقديم الكثير من الرسائل والشفرات التي أطلقتها أمام القراء والنقاد والمؤرخين. إذ استطاعت الرواية أن تقدم تاريخاً افتراضياً جديداً لسيرة رابعة العدوية الروحية، وتربطها بجذر حسي ودنيوي يتعلق بتماهي شخصية «قبس» معها في الكثير من الجوانب الحياتية، فكلتاهما عصاميتان، واجهتا الحياة منذ الطفولة بشجاعة وثقة؛ فقد اضطلعت رابعة العدوية بنت الماضي بعد وفاة والدها، بقيادة الزورق الذي تركه لها أبوها والذي كان مصدر رزق العائلة، لكي تستكمل المشوار وتقوم بنقل الركاب بين ضفتي نهر البصرة آنذاك لتكون قادرة على إعالة شقيقاتها الثلاث. وفعلت «قبس» بنت الحاضر، فعلاً مماثلاً عندما تحملت، وهي صغيرة، مسؤولية إعالة شقيقاتها الصغيرات بعد وفاة أبويها. ولم تقتصر الرواية على تقديم تاريخ بديل، بل قدمت سلسلة من الطقوس والعادات الاجتماعية والأنثربولوجية التي كانت شائعة في المجتمع البصري آنذاك. ونزلت إلى القاع الاجتماعي للمدينة عند الاطلاع على أزقة البصرة وأسواقها ومحالها، وبشكل خاص زيارة منطقة «الحكاكة» المكتظة بصور الجمال الحسي والروحي معاً. فضلاً عن ذلك فقد أعادت الرواية رسم تضاريس خريطة مدينة البصرة القديمة وجغرافيتها وصولاً إلى منطقة الزبير ومقبرة الصوفي الحسن البصري، حيث التقت تخييلياً رابعة العدوية التي تخيلتها وهي بين اليقظة والمنام تجلس على حافة قبرها وهي تمد رجليها في الهواء. ليس هذا فحسب، بل إنها قدمت لها الدف الذي اشترته من أسواق البصرة هدية، ونجحت في النهاية في تثبيت ما أسماه بول ريكور بالهوية السردية narrative identity لمدينة البصرة؛ ولذا يمكن أن تنطبق مقولة السرد الثقافي cultural narrative والتي يترجمها معجم مصطلحات النقد الثقافي الذي أعده الدكتور سمير الخليل بالرواية الثقافية أيضاً على رواية «دفوف رابعة العدوية». فالرواية هي متحف كامل للعادات والطقوس الاجتماعية وللمأثورات والمعالم الأنثربولوجية التي كانت تشيع في مدينة البصرة في تلك الفترة التاريخية الدقيقة من تأريخ تأسيسها وصيرورتها المدنية. وكما أشرنا في مناسبة سابقة؛ فالفضل يعود إلى الدكتور سمير الخليل الذي انتزع هذا المصطلح من ذخيرة النقد الثقافي وطبّقه بشكل ذكي في كتابه النقدي الموسوم «الرواية سرداً ثقافياً: سيسيولوجيا الثقافة وأرخنتها وتسييسها»، كما قدم الدكتور سمير الخليل في معجمه «دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي» تحديداً واضحاً لمفهوم السرد الثقافي جاء فيه، أن «الرواية الثقافية هي قصة ترتبط بالعادات والسلوكيات لمجتمع ما، وقد تكون القصة محكية أو مقروءة أو متخيلة، وقد يكون للقصة الواحدة أكثر من زاوية نظر تمثل كل أو بعض منظورات شخوص القصة. كما أن السرد الثقافي يقترن إلى حد كبير بالمكان، حيث إن ثقافة المكان هي التي تتشكل بفعل ماهية السرد».
وبذا؛ يمكن القول، إن رواية «دفوف رابعة العدوية» ثرية بمعطياتها ومعالجاتها السردية ومزاوجتها بين التاريخي واليومي وبين الواقعي والفنتازي؛ مما يجعلها واحدة من الروايات المميزة التي صدرت حديثاً.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.