في عصر ما بعد الآيديولوجيا... ما الآيديولوجيا؟

كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)
كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)
TT

في عصر ما بعد الآيديولوجيا... ما الآيديولوجيا؟

كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)
كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)

كثيرة هي الدراسات والأبحاث التي تناولت الآيديولوجيا بتعريفاتها وأنواعها المختلفة، والتحليلات التي حللت طبيعتها المرجعية والسلطوية والغائية؛ خصوصاً بعد سقوط عدد من الآيديولوجيات التي سادت القرن المنصرم مع انهيار السرديات الكبرى وسقوطها في مأزق الحداثة. وهذا جعل الآيديولوجيا مفهوماً مستهلكاً وقديماً، وساهم في ظهور ما يُسمى بالسرديات الصغرى، التي يُزعَم أنها تتمحور حول الفرد ولا تحمل طابعاً شمولياً، وفي التحوّل نحو مفهوم الهوية والخصوصية الثقافية.
غير أنه عبر النظر في صراعات القرن العشرين الآيديولوجية يجد المرء أنها لم تخلُ من سرديات صغرى وصراعات حول الهوية، وعبر النظر في صراعات الهوية بمكوناتها الثقافية المختلفة اليوم يجد المرء أنها لا تخلو من آيديولوجيات «فاقعة» وسرديات كبرى أيضاً، بل إنها تستند أيضاً إليها. وعليه، يكون الفصل الحاد بين مفهومي الآيديولوجيا والهوية مضلّلاً، ويكون الحسم في انهيار السرديات الكبرى عارياً تماماً من الصحة.
لقد غلب الطابع التحليلي على معظم الدراسات والنظريات التي تناولت مفهوم الآيديولوجيا في محاولة لتفكيكها والكشف عن زيفها، فراحت الدراسات تصنّف الآيديولوجيا إلى أنواع، وتحلّل كل نوع على حِدة، بين آيديولوجيات احتوائية وأخرى إقصائية، ووجودية وأخرى سياسية ثقافية، ومركزية وأخرى هامشية، وركّزت عموماً على سلطة المعاني التي يتضمنها الخطاب وعلاقة اللغة بالواقع، وكذلك على سلطة نظام المعنى الذي ترتكز إليه الآيديولوجيا، أي المعايير الضمنية السائدة التي تُحدّد ما هو خيّر وصحيح وما هو غير ذلك. غير أن هذه النظريات والدراسات، على أهميتها البالِغة، لم تُحقّق الغاية المرجوة منها والمتمثّلة في محاولة إيقاف الآلة الآيديولوجية أو إحباطها، وإن كان ذلك على مستوى الوعي فحسب. والسبب غياب السؤال الأهم عن هذه النظريات المعنية بفهم الآيديولوجيا؛ كيف تفعل الآيديولوجيا فَعلتها؟ كيف تسيطر على الذات فتقع الذات في قبضتها؟ كيف تعتمل في النفس بعد استبطانها من الخارج؟ وفي محاولة للإجابة عن أسئلة كهذه، لا يُكتفى بالتحليل الثقافي السياسي للآيديولوجيا، بل ينبغي دراستها كظاهرة والتطرق إلى التحليل النفسي السياسي، وهو الذي يتناول البُعد السياسي الأصيل من النفس، قبل تَجَسُّد هذا البُعد في الواقع في شكل سياسة وعلوم وتحليلات وصراعات سياسية. وعليه، سنقف سريعاً وباقتضاب على بعض المحدِّدات النفسية الأساسية للآيديولوجيا التي تشرح بدرجة معيّنة آلية عملها.
تسعى الذات عموماً، وخصوصاً في حالات الفوضى الشديدة، إلى شيء من القانون والتنظيم لتخفيف حدة الفوضى والتمزق اللذين قد يخترقان نسيجاً اجتماعياً معيناً، أو تسعى الذات، في مجتمعات يسودها القمع والتهديد والسيطرة، إلى الثورة والحرية والعدالة للخروج من حالة الخضوع والاستعباد. وما يدفع هذا السعي إلى الأمام في المستوى النفسي، بمعزل عن الحاجة الحقيقية والصادقة للخروج من الفوضى والقمع، هو خيال معين، هو صورة معينة عن الذات والمجتمع تطمح الذات إلى بلوغها، وتكون هذه الصورة كاملة لا تشوبها شائبة.
ينبثق الخطاب السياسي الآيديولوجي مستخدماً هذه الكلمات التي تتوق إليها الذات، دون أن يعرّف هذه الكلمات، فهي في الأساس غير مؤطّرة المعنى، تماماً بسبب طبيعة اللغة نفسها، أي أنها «دوال بلا مدلولات»، فيراهن الخطاب على النفس وقدرتها على تعبئة الكلمات وإكمال النقص في الصورة المتخيّلة. هنا تماماً؛ حيث تُخفق الذات في إدراك الطبيعة الهشّة وغير الثابتة لهذه الصورة المتخيَّلة الوضعية، وفي إدراك أن الخطاب يَستخدم دوالاً بلا مدلولات، تكمنُ اللحظة الآيديولوجية النقية التي تُعرَّف بأنها تلك اللحظة التي تقع الذات فيها في شباك وهم «الإغلاق» الذي لا يكون إلا إيمان الذات بوجود حلّ مكتمل، مغلق من الجوانب كافة، فتنغلق الذات على هذا الحلّ مصدّقة به ومصادقة عليه.
غير أن الآيديولوجيا لم تعد تعمل في عصر ما بعد الآيديولوجيا كما كانت سابقاً. فالصورة التي ترسمها اليوم للعالم ليست مثالية أو وردية، بل إن المثالية هنا تكمن في تصوير العالم بوصفه غير مثالي، وبتقديم حلول تعيد إنتاجه بصورة جديدة، إلا أن هذه الصورة تكون غير مختلفة كثيراً عن الصورة الحالية. بكلمات أخرى، بينما كانت الآيديولوجيا تعمل كعملية إيجابية تبعث الأمل في النفس، أصبحت تعمل اليوم كعملية سلبية تنتزع الأمل. يقول الفيلسوف الفرنسي آلان باديو: «إن وظيفة الآيديولوجيا اليوم هي قتل الأمل وإقناعنا بأن العالم سيئ». فالفرد نفسه لم يعد يؤمن بوجود حقيقة واحدة موضوعية، وهنا تكمن المشكلة، فرفض وجود حقيقة موضوعية يُبقي العقل في حالة من التذبذب وينفي عنه قدرته على التفكير والحكم. ولعلّ أولى آيديولوجيات عصر ما بعد الآيديولوجيا التي تعمل بالسلب هي الزعم بأن العصر الذي نعيشه هو عصر بعد آيديولوجي. فعبر هذا الزعم، لا يُجرَّد المرء من الأمل النفسي فحسب، بل أيضاً من أدواته المعرفية التي تساعده على إدراك الآيديولوجيا، وبالتالي رفضها.
وعلى عكس ما يُعتقد حول تماهي المرء مع الآيديولوجيا، فما يتماهى المرء معه في الخطاب الآيديولوجي هو الضعف وليس القوة، النقص وليس المثال، ويعدّ هذا التماهي القانون الأول لعملية الأدلجة. ما تبحث عنه الذات في الآيديولوجيا، في البدء، ليس صورة بطل، وليس مثالاً تستمد منه قوة أو قدرة، بل تبحث عن ضعفها الذي تشرّع من خلاله وجودها وتكتسب قواماً وكثافة. ولعلّ المثال الأفصح هو الخطاب الشعبوي الذي لا يني يهزأ بالقوة والعقل والمنطق والتحليل، حتى بالتعلّم والتعليم، ويستخدم المقاربات التبسيطية لإخماد العقل وتنشيط «حسّ سليم» غير سليم، لدى العامة، وتفعيل التماهي مع الخطاب الآيديولوجي، والحصول على الموافقة والقبول.
وفي محاولة للتفريق بين الآيديولوجيا الكلاسيكية والآيديولوجيا في عصر ما بعد الآيديولوجيا، تجدر الإشارة إلى أن الآيديولوجيا لم تعد تدلّ على غياب الوعي أو زيفه كما كان يُعتقد سابقاً حين سُمّيت بـ«الوعي الزائف». ليست مشكلة الآيديولوجيا الحديثة في الوعي، فغالباً ما يكون الوعي والمنطق حاضرَين بقوة وقادرَين على تمييز الصواب من الخطأ، بل تكمن في فجوة معينة تفصل بين الوعي والفعل، ما يجعلنا نتساءل؛ ما الذي يجعل شخصاً أخلاقياً واعياً (أي مثلاً غير عنصري أو غير طائفي في وعيه) يتصرّف بطريقة مؤدلجة عنصرية أو طائفية؟ تأخذنا محاولة الإجابة إلى فجوة أعمق بين الفكرة الواعية التي يقتنع بها المرء ويتبناها والرغبات الداخلية اللاواعية ذات المنشأ الثقافي - اللغوي، بحيث يصبح لدينا، كما يرى الفيلسوف النمساوي روبرت بفالر «رغبات لاواعية (فجوة) فكرة واعية (فجوة) فعل»، وتصبح الفكرة الواعية مجرد عائق يحول دون تأثير الرغبات اللاواعية على الأفعال بشكل مباشر، فيحلّ الفعل محلّ الدافع اللاواعي المكبوت تالياً ويصبح قهرياً مفعِّلاً للآيديولوجيا. ما يحاول بفالر قوله أن الأدلجة لا تنشأ عن الأفكار الواعية التي يحملها المرء، بل قد لا تتدخل الأفكار الواعية إطلاقاً في عملية تنشيط الآيديولوجيا حتى إحباطها، وما يستحق الانتباه له والتنقيب فيه هو الرغبات غير الواعية التي ترسَّخت بفعل ما يُسمى في التحليل النفسي بالنظام الرمزي، أي الخطابات الأخرى السابقة على الخطاب الآيديولوجي.
إن الدراسات السياسية أو دراسات الخطاب لم تعد كافية لدراسة خطاب آيديولوجي معين أو الكشف عن تأثيره. فالمشكلة لا تكمن في نظام المعاني الذي ينطوي عليه الخطاب فحسب، بل في الذات السياسية بقدر ما هي في الخطاب نفسه. والمنطق الذي تبنّته هذه الدراسات إنما عمل في مستوى الوعي، فلم يتمكن إلا من تخفيف شدة قبضة الآيديولوجيا. غير أن التصدي الفعلي لهذه القبضة يتطلب النظر في الثقافة التي قد تكون شخصية فردية أو جماعية مشتركة، والتي تشكّل التهويمات Fanatsies الضمنية للمرء في مستوى اللاوعي. ويتطلب أيضاً محاولة تحديد ما يسمّيه الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، الموضوعات السامية Sublime Objects غير السياسية المقبولة والموجودة في ثقافة المرء. هذه الموضوعات تشبه الأفكار العليا أو القيم (هوية، أمة، حرية، فردية، أسلوب حياة، حب، إيمان، إلخ)، لكنها ليست هي تماماً، وهي تجعل المرء يقع في شراك التهويمات، فيُسقط المرء على العالم خصائص هذه الموضوعات، ويتماهى مع هذه الإسقاطات التي تحقق له المتعة، فتتحقق الأدلجة. بكلمات أخرى، للتصدي لقبضة الآيديولوجيا، لا يكفي النظر في العلاقات الاجتماعية أو الخطابات السياسية فحسب، بل ينبغي النظر في العلاقات اللاواعية بين الذات وهذه الموضوعات السامية، فهذه العلاقات هي الأعمق وهي المسؤولة عن تشكيل علاقاتنا الاجتماعية السياسية، السليمة منها وغير السليمة، كما في العنصرية والذكورية والطائفية وغيرها.
* كاتبة ومترجمة سورية



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.