في عصر ما بعد الآيديولوجيا... ما الآيديولوجيا؟

كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)
كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)
TT

في عصر ما بعد الآيديولوجيا... ما الآيديولوجيا؟

كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)
كتب تُرمى على دبابة كجزء من تركيب فني تفاعلي بعنوان «الثقافة فقط يمكنها إيقاف الحرب» في ساحة «ريال» بميلانو في 23 أبريل (أ.ف.ب)

كثيرة هي الدراسات والأبحاث التي تناولت الآيديولوجيا بتعريفاتها وأنواعها المختلفة، والتحليلات التي حللت طبيعتها المرجعية والسلطوية والغائية؛ خصوصاً بعد سقوط عدد من الآيديولوجيات التي سادت القرن المنصرم مع انهيار السرديات الكبرى وسقوطها في مأزق الحداثة. وهذا جعل الآيديولوجيا مفهوماً مستهلكاً وقديماً، وساهم في ظهور ما يُسمى بالسرديات الصغرى، التي يُزعَم أنها تتمحور حول الفرد ولا تحمل طابعاً شمولياً، وفي التحوّل نحو مفهوم الهوية والخصوصية الثقافية.
غير أنه عبر النظر في صراعات القرن العشرين الآيديولوجية يجد المرء أنها لم تخلُ من سرديات صغرى وصراعات حول الهوية، وعبر النظر في صراعات الهوية بمكوناتها الثقافية المختلفة اليوم يجد المرء أنها لا تخلو من آيديولوجيات «فاقعة» وسرديات كبرى أيضاً، بل إنها تستند أيضاً إليها. وعليه، يكون الفصل الحاد بين مفهومي الآيديولوجيا والهوية مضلّلاً، ويكون الحسم في انهيار السرديات الكبرى عارياً تماماً من الصحة.
لقد غلب الطابع التحليلي على معظم الدراسات والنظريات التي تناولت مفهوم الآيديولوجيا في محاولة لتفكيكها والكشف عن زيفها، فراحت الدراسات تصنّف الآيديولوجيا إلى أنواع، وتحلّل كل نوع على حِدة، بين آيديولوجيات احتوائية وأخرى إقصائية، ووجودية وأخرى سياسية ثقافية، ومركزية وأخرى هامشية، وركّزت عموماً على سلطة المعاني التي يتضمنها الخطاب وعلاقة اللغة بالواقع، وكذلك على سلطة نظام المعنى الذي ترتكز إليه الآيديولوجيا، أي المعايير الضمنية السائدة التي تُحدّد ما هو خيّر وصحيح وما هو غير ذلك. غير أن هذه النظريات والدراسات، على أهميتها البالِغة، لم تُحقّق الغاية المرجوة منها والمتمثّلة في محاولة إيقاف الآلة الآيديولوجية أو إحباطها، وإن كان ذلك على مستوى الوعي فحسب. والسبب غياب السؤال الأهم عن هذه النظريات المعنية بفهم الآيديولوجيا؛ كيف تفعل الآيديولوجيا فَعلتها؟ كيف تسيطر على الذات فتقع الذات في قبضتها؟ كيف تعتمل في النفس بعد استبطانها من الخارج؟ وفي محاولة للإجابة عن أسئلة كهذه، لا يُكتفى بالتحليل الثقافي السياسي للآيديولوجيا، بل ينبغي دراستها كظاهرة والتطرق إلى التحليل النفسي السياسي، وهو الذي يتناول البُعد السياسي الأصيل من النفس، قبل تَجَسُّد هذا البُعد في الواقع في شكل سياسة وعلوم وتحليلات وصراعات سياسية. وعليه، سنقف سريعاً وباقتضاب على بعض المحدِّدات النفسية الأساسية للآيديولوجيا التي تشرح بدرجة معيّنة آلية عملها.
تسعى الذات عموماً، وخصوصاً في حالات الفوضى الشديدة، إلى شيء من القانون والتنظيم لتخفيف حدة الفوضى والتمزق اللذين قد يخترقان نسيجاً اجتماعياً معيناً، أو تسعى الذات، في مجتمعات يسودها القمع والتهديد والسيطرة، إلى الثورة والحرية والعدالة للخروج من حالة الخضوع والاستعباد. وما يدفع هذا السعي إلى الأمام في المستوى النفسي، بمعزل عن الحاجة الحقيقية والصادقة للخروج من الفوضى والقمع، هو خيال معين، هو صورة معينة عن الذات والمجتمع تطمح الذات إلى بلوغها، وتكون هذه الصورة كاملة لا تشوبها شائبة.
ينبثق الخطاب السياسي الآيديولوجي مستخدماً هذه الكلمات التي تتوق إليها الذات، دون أن يعرّف هذه الكلمات، فهي في الأساس غير مؤطّرة المعنى، تماماً بسبب طبيعة اللغة نفسها، أي أنها «دوال بلا مدلولات»، فيراهن الخطاب على النفس وقدرتها على تعبئة الكلمات وإكمال النقص في الصورة المتخيّلة. هنا تماماً؛ حيث تُخفق الذات في إدراك الطبيعة الهشّة وغير الثابتة لهذه الصورة المتخيَّلة الوضعية، وفي إدراك أن الخطاب يَستخدم دوالاً بلا مدلولات، تكمنُ اللحظة الآيديولوجية النقية التي تُعرَّف بأنها تلك اللحظة التي تقع الذات فيها في شباك وهم «الإغلاق» الذي لا يكون إلا إيمان الذات بوجود حلّ مكتمل، مغلق من الجوانب كافة، فتنغلق الذات على هذا الحلّ مصدّقة به ومصادقة عليه.
غير أن الآيديولوجيا لم تعد تعمل في عصر ما بعد الآيديولوجيا كما كانت سابقاً. فالصورة التي ترسمها اليوم للعالم ليست مثالية أو وردية، بل إن المثالية هنا تكمن في تصوير العالم بوصفه غير مثالي، وبتقديم حلول تعيد إنتاجه بصورة جديدة، إلا أن هذه الصورة تكون غير مختلفة كثيراً عن الصورة الحالية. بكلمات أخرى، بينما كانت الآيديولوجيا تعمل كعملية إيجابية تبعث الأمل في النفس، أصبحت تعمل اليوم كعملية سلبية تنتزع الأمل. يقول الفيلسوف الفرنسي آلان باديو: «إن وظيفة الآيديولوجيا اليوم هي قتل الأمل وإقناعنا بأن العالم سيئ». فالفرد نفسه لم يعد يؤمن بوجود حقيقة واحدة موضوعية، وهنا تكمن المشكلة، فرفض وجود حقيقة موضوعية يُبقي العقل في حالة من التذبذب وينفي عنه قدرته على التفكير والحكم. ولعلّ أولى آيديولوجيات عصر ما بعد الآيديولوجيا التي تعمل بالسلب هي الزعم بأن العصر الذي نعيشه هو عصر بعد آيديولوجي. فعبر هذا الزعم، لا يُجرَّد المرء من الأمل النفسي فحسب، بل أيضاً من أدواته المعرفية التي تساعده على إدراك الآيديولوجيا، وبالتالي رفضها.
وعلى عكس ما يُعتقد حول تماهي المرء مع الآيديولوجيا، فما يتماهى المرء معه في الخطاب الآيديولوجي هو الضعف وليس القوة، النقص وليس المثال، ويعدّ هذا التماهي القانون الأول لعملية الأدلجة. ما تبحث عنه الذات في الآيديولوجيا، في البدء، ليس صورة بطل، وليس مثالاً تستمد منه قوة أو قدرة، بل تبحث عن ضعفها الذي تشرّع من خلاله وجودها وتكتسب قواماً وكثافة. ولعلّ المثال الأفصح هو الخطاب الشعبوي الذي لا يني يهزأ بالقوة والعقل والمنطق والتحليل، حتى بالتعلّم والتعليم، ويستخدم المقاربات التبسيطية لإخماد العقل وتنشيط «حسّ سليم» غير سليم، لدى العامة، وتفعيل التماهي مع الخطاب الآيديولوجي، والحصول على الموافقة والقبول.
وفي محاولة للتفريق بين الآيديولوجيا الكلاسيكية والآيديولوجيا في عصر ما بعد الآيديولوجيا، تجدر الإشارة إلى أن الآيديولوجيا لم تعد تدلّ على غياب الوعي أو زيفه كما كان يُعتقد سابقاً حين سُمّيت بـ«الوعي الزائف». ليست مشكلة الآيديولوجيا الحديثة في الوعي، فغالباً ما يكون الوعي والمنطق حاضرَين بقوة وقادرَين على تمييز الصواب من الخطأ، بل تكمن في فجوة معينة تفصل بين الوعي والفعل، ما يجعلنا نتساءل؛ ما الذي يجعل شخصاً أخلاقياً واعياً (أي مثلاً غير عنصري أو غير طائفي في وعيه) يتصرّف بطريقة مؤدلجة عنصرية أو طائفية؟ تأخذنا محاولة الإجابة إلى فجوة أعمق بين الفكرة الواعية التي يقتنع بها المرء ويتبناها والرغبات الداخلية اللاواعية ذات المنشأ الثقافي - اللغوي، بحيث يصبح لدينا، كما يرى الفيلسوف النمساوي روبرت بفالر «رغبات لاواعية (فجوة) فكرة واعية (فجوة) فعل»، وتصبح الفكرة الواعية مجرد عائق يحول دون تأثير الرغبات اللاواعية على الأفعال بشكل مباشر، فيحلّ الفعل محلّ الدافع اللاواعي المكبوت تالياً ويصبح قهرياً مفعِّلاً للآيديولوجيا. ما يحاول بفالر قوله أن الأدلجة لا تنشأ عن الأفكار الواعية التي يحملها المرء، بل قد لا تتدخل الأفكار الواعية إطلاقاً في عملية تنشيط الآيديولوجيا حتى إحباطها، وما يستحق الانتباه له والتنقيب فيه هو الرغبات غير الواعية التي ترسَّخت بفعل ما يُسمى في التحليل النفسي بالنظام الرمزي، أي الخطابات الأخرى السابقة على الخطاب الآيديولوجي.
إن الدراسات السياسية أو دراسات الخطاب لم تعد كافية لدراسة خطاب آيديولوجي معين أو الكشف عن تأثيره. فالمشكلة لا تكمن في نظام المعاني الذي ينطوي عليه الخطاب فحسب، بل في الذات السياسية بقدر ما هي في الخطاب نفسه. والمنطق الذي تبنّته هذه الدراسات إنما عمل في مستوى الوعي، فلم يتمكن إلا من تخفيف شدة قبضة الآيديولوجيا. غير أن التصدي الفعلي لهذه القبضة يتطلب النظر في الثقافة التي قد تكون شخصية فردية أو جماعية مشتركة، والتي تشكّل التهويمات Fanatsies الضمنية للمرء في مستوى اللاوعي. ويتطلب أيضاً محاولة تحديد ما يسمّيه الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، الموضوعات السامية Sublime Objects غير السياسية المقبولة والموجودة في ثقافة المرء. هذه الموضوعات تشبه الأفكار العليا أو القيم (هوية، أمة، حرية، فردية، أسلوب حياة، حب، إيمان، إلخ)، لكنها ليست هي تماماً، وهي تجعل المرء يقع في شراك التهويمات، فيُسقط المرء على العالم خصائص هذه الموضوعات، ويتماهى مع هذه الإسقاطات التي تحقق له المتعة، فتتحقق الأدلجة. بكلمات أخرى، للتصدي لقبضة الآيديولوجيا، لا يكفي النظر في العلاقات الاجتماعية أو الخطابات السياسية فحسب، بل ينبغي النظر في العلاقات اللاواعية بين الذات وهذه الموضوعات السامية، فهذه العلاقات هي الأعمق وهي المسؤولة عن تشكيل علاقاتنا الاجتماعية السياسية، السليمة منها وغير السليمة، كما في العنصرية والذكورية والطائفية وغيرها.
* كاتبة ومترجمة سورية



فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
TT

فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)

لعلّه من المغري لكل جيل أن يظن أنه يعيش تغيّراً حادّاً، وأنه يقف عند نقطة تحول في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فإن قول ذلك اليوم هو بالتأكيد أكثر صحة من أي وقت مضى. والدليل -لا جدال فيه- أن أبناء جيلي (جيل طفرة المواليد) في فترة ما بعد الحرب العالمية يعيشون تجربة غير عادية؛ لقد وُلدوا في عالم واحد، بين الدول الأوروبية والأميركية، وسوف يختفون في عالم آخر، معولم، لا مركزي، ومن دون أي حدود مكانية.

في لغة العلاقات الدولية يعني ذلك تحولاً وحشياً وانتقالاً غير منضبط من نظام مشترك بين الدول ومهيمن، عمره نحو 4 قرون، إلى عولمة متكاملة لم يعد لها مركز، ولا قيادة واضحة أو حاسمة، التي تتشكّل من خلال عدد من الجهات الفاعلة التي تخضع لأوضاع مختلفة (سياسية، واقتصادية، ودينية... إلخ) وقبل كل شيء من خلال التواصل المعمم.

من السهل تخمين العوامل التي تقف وراء هذا التمزق. إنها بالتأكيد مسألة التقدم التكنولوجي الذي ألغى المسافات، وزاد بشكل خيالي من التبادلات، ورؤية الجميع للجميع، مثل الأحداث الكبرى، بطرق لم يكن من الممكن تصوّرها في العالم من قبل.

تحوّل جدار برلين إلى رمز لانقسام أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجالَيْن سوفياتي وغربي (أ.ف.ب)

يُضاف إلى ذلك مزيد من الأسباب السياسية: إنهاء الاستعمار شبه الكامل الذي شهد ولادة الجنوب العالمي، بدءاً من الانتصار المنهجي للضعفاء على الأقوياء، وسقوط جدار برلين، الذي كَسر القواعد التي تنظّم التنافس بين القوى القديمة، لقد تم إضفاء الطابع الرسمي عليها في أعقاب عام 1945، وكان البناء التجريبي للعولمة أكثر تعقيداً بكثير من مجرد ازدهار الليبرالية الجديدة التي كانت تُشير بسذاجة إلى «نهاية التاريخ». وتحقيق الهيمنة الأميركية، ولكنه أكثر إثارة للجدل من أي وقت مضى.

لفترة طويلة، لم نرغب في رؤية الآثار الهائلة لمثل هذه الطفرات. كان انتصار المعسكر الغربي على المعسكر السوفياتي بمثابة نهاية للثنائية القطبية، من خلال خلق وهم السلام الأميركي الذي حافظ حتى على وهم نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي.

تم الحفاظ على الـ«ناتو»؛ حيث كان يعتقد أنه لا ينبغي المساس بالفريق الفائز. وكانت خيبة الأمل قوية: فقد هُزمت الولايات المتحدة في الصومال، والعراق، ثم في أفغانستان، وسرعان ما ظهرت الصين باعتبارها المستفيد الأكبر من العولمة التي كانت تُحرر نفسها من المجال الأميركي. كان هذا الإحباط الشديد هو السبب وراء التراجع الترمبي والقومي والهويتي والحمائي، الذي سرعان ما سيطر على أوروبا، التي كان عليها أن تعاني من النكسات التي جلبها العالم الجديد، خصوصاً في أفريقيا.

هذا في الواقع خرق يُبطل القواعد القديمة، ولكنه أيضاً يُبطل ممارسات ورؤى وحتى مفاهيم «جغرافيتنا السياسية» القديمة: لن يتعافى حتى تصبح اللعبة العالمية الجديدة، المكونة من الاعتماد المتبادل والتنقل والديناميكيات الاجتماعية، أكثر كفاءة بشكل لا نهائي.

ثلاثة إخفاقات

من استراتيجيات القوة القديمة هو كتابة تاريخ جديد. أولئك الذين يعرفون كيفية القيام بذلك سوف يفوزون، أما الآخرون، الراسخون في حنينهم، فسيخاطرون بأن يجدوا أنفسهم معزولين ومهمشين بشكل تدريجي. وهكذا شهدت العقود الأولى من هذه الألفية الجديدة ثلاثة إخفاقات على الأقل: إخفاق القوة الكلاسيكية، وإخفاق التحالفات التقليدية، وإخفاق التراجع الوطني. الأمر متروك للجميع لاستخلاص العواقب.

إن فشل القوة يُشير إلى تقادم الاستراتيجية التي استلهمها كلوزفيتز، فلم تعد الحرب قادرة على حل المشكلات التي تخلّت عنها السياسة في السابق، وذلك بسبب افتقارها إلى الفاعلية التي كانت تنسب إليها بالأمس. لم تعد هناك حرب تحمل هذه «المعركة الحاسمة»، التي أشار إليها الاستراتيجي البروسي، التي حدّدت الفائز بوضوح.

وبعيداً عن كونها علامة القوة، فإن الحرب اليوم ترتدي ثياب الضعف: حرب الأقوياء، الذين أصبحوا عاجزين في الصراعات الأفريقية والآسيوية والأوروبية اليوم، حرب الأطراف الذين يذهبون في أغلب الأحيان إلى الصراع، ولم يعودوا في صراعات. باسم السلطة، ولكن تحت تأثير التحلل المؤسسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. لهذه الأسباب تتتابع اتفاقات السلام، ولكن بقدر متزايد من عدم الفاعلية، في حين تستنزف القوى الإقليمية والعالمية نفسها دون أن تكسب شيئاً.

أدى إنهاء الاستعمار إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول (أ.ب)

إن عجز القوة، المرتبط بالعولمة القائمة على الاعتماد المتبادل والشمول المعمم، لا يدمّر فكرة الهيمنة القديمة فحسب، بل أيضاً فكرة التحالف أو الكتلة أو المعسكر. لقد أدى إنهاء الاستعمار، والفرص التي أتاحها مؤتمر باندونغ، ثم سقوط جدار برلين، إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول، التي أدركت تدريجياً أن التأثيرات غير المتوقعة كانت أكثر ربحية بكثير من التحالفات المبرمجة مسبقاً. وعلى هذا، فإن العالم القائم على تحالفات تواجه بعضها بعضاً قد نجح في عالم مجزّأ ومرن؛ حيث أصبحت «التحالفات المتعددة» أو الشراكات المرنة والمتغيرة هي القانون الآن. ويجد العالم الغربي نفسه معزولاً، وهو محاصر في حصن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينضح بجو من الثقة بالنفس يُحافظ على عدم الثقة بأولئك الذين هم خارجه، خصوصاً في الجنوب العالمي.

هناك إغراء كبير لتصفية الحسابات، بإحياء القومية والسيادة والانغلاق على الذات، وغالباً ما يذهب الأمر إلى حدّ الدلالات العنصرية، أو على أي حال هرمية. ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يسفر عن شيء؛ كما قال الفيلسوف تزفيتان تودوروف: «ليس لدى القوميين ما يبيعونه». وهذا التأكيد واضح في عالم تحكمه العولمة؛ حيث يتعيّن علينا أن نتعلّم كيف نعيش في نظام دولي يتسم بالتبادل. وتخاطر الشعبوية الوطنية بتعزيز قوتها تحت تأثير الخوف، في حين تظل عالقة في موقف احتجاجي حصري. إنها علامة من علامات زمن التحولات؛ حيث يبدو خيار الاحتجاج أفضل من تحمُّل مسؤولية الحكم.

* خبير فرنسي في العلاقات الدولية