يحيى حقي في «مرايا الاغتراب»

يتناول كتاب «الاغتراب في أدب يحيى حقي» ملمحاً جديداً في المسيرة الأدبية لأحد رواد القصة المصرية القصيرة، مع التطبيق على روايته القصيرة المكثفة «قنديل أم هاشم» التي تعد من أشهر أعماله، وتحولت إلى فيلم من عيون السينما المصرية يحمل العنوان نفسه، إنتاج 1968، من إخراج كمال عطية، بطولة: شكري سرحان، وسميرة أحمد.
الكتاب الصادر عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» هو دراسة أدبية من منظور نفسي، وفيه تقوم الباحثة، الدكتورة عطيات أبو العينين، بتعريف «الاغتراب الإبداعي» باعتباره حالة خاصة من الوعي، يخرج فيها المبدع عن ذاته، ويعبر عن شيء آخر تماماً، كما أن الاغتراب والإبداع ظاهرتان متأصلتان في الوجود الإنساني، ويؤدي ترابطهما معاً إلى ابتكار أعمال مدهشة.
ترسم المؤلفة صورة قلمية شديدة الثراء والحساسية ليحيى حقي، مستعينة بشهادات معاصريه من الأدباء والأصدقاء. ففي بيت صغير متواضع في حي «السيدة زينب» بالقاهرة، كان مولده في يناير (كانون الثاني) 1905، لأسرة تركية مسلمة متوسطة الحال، غنية بثقافتها ومعارفها، هاجرت من الأناضول وأقامت فترة في شبه الجزيرة العربية بالمورة. كان «يحيى» قصير القامة له وجه طفل سمح وردي اللون، وفم لا تفارقه البسمة الخجول الغامضة الودود، في عينيه بريق حاد يجعلهما كعيني صقر، يشع منهما ذكاء فريد نصفه دهاء ونصفه حياء. كان زملاؤه يتندرون عليه بدعوى أنه مؤدب أكثر مما يجب، يستخدم كلمة «أفندم» التركية في كل كبيرة وصغيرة، وكانت هذه الكلمة رمز الأدب وحسن التربية عند الطبقة الوسطى وما فوقها آنذاك. هذه الملامح لم تفارقه حتى بعد أن أصبح أديباً مشهوراً، ظل خجولاً دمثاً يتجنب الضوضاء وصخب الشهرة، ما جعل الناقد علي شلش يصفه بعد ندوة معه بقوله: «راح ينظر إلى الحاضرين في وداعة تارة، ثم ينظر تارة أخرى إلى الأرض، ويده اليسرى تقبض على عصاه القصيرة في قلق ظاهر، كأنما يقول في نفسه: ماذا جنيت حتى يتفرج عليَّ الناس هكذا؟!»، وعندما قال نجيب محفوظ: «كنت أتمنى لو أن جائزة (نوبل) ذهبت إلى يحيى حقي»، رد حقي بعذوبة وتواضع بالغ: «وجدني الأكبر سناً في الوسط الأدبي فأراد أن يجبر بخاطري»!
كان يحيى حقي على رأس المدرسة الحديثة في الأدب التي نشأت في العشرينات، وطالبت أن يكون لمصر أدبها المصري، متفاعلاً بذلك على المستوى الأدبي مع بلورة القومية المصرية التي فجرتها ثورة 1919، كما كان أحد الرواد الأوائل لفن القصة القصيرة منذ ولادتها مع محمد طاهر لاشين والأخوين عيسى وشحاتة عبيد. كان جده لأبيه مباشرة وافداً تركياً جاء من اليونان واستقر في مصر، وكانت السمات التركية واضحة في ملامح وبشرة يحيى حقي؛ لكن عندما كان البعض يذكره مازحاً بأنه من أصول تركية، كان يجيبه بقوله: «لو عصرتم دمي بمعصرة القصب فستجدونني مصرياً حتى آخر قطرة!».
وبحسب الكتاب، تمثل رواية «قنديل أم هاشم» نوعاً من التماهي بين رؤية فكرية تتبلور في واقع متغير، وسياق درامي تتجاذب أبطاله صراعات شتى تصل ذروتها مع شخصية «إسماعيل» بطل الرواية، ذلك الشاب الذي نشأ في بيئة شعبية، وأصر أبوه على إرساله إلى أوروبا لدراسة الطب. يسافر البطل محملاً بتراث الشرق وعاداته، ومتأثراً بحياته البسيطة التي لم تكن تخرج عن الحي والميدان، أقصى نزهته أن يخرج إلى النيل ليسير بجانب النهر أو يقف على الكوبري، وفي محيط يعيش أجواء الأساطير، ويحلِّق في فضاءات عوالم مفارقة من الروحانيات؛ حيث يؤمن الناس بالخرافة، ويجاورون الأضرحة ويستأنسون بها. ومن هذه الخرافات ما يتصورونه من «بركة» يكتسبها زيت القنديل قادرة على شفاء الأمراض، لا سيما ما يتعلق منها بالعيون.
سافر «إسماعيل» إلى لندن تصاحبه وصايا الأب؛ حيث تبدو العلاقة بين المفردات ومدلولاتها علاقة سببية، فالالتزام الأخلاقي شريطة التفوق من وجهة نظر الأب الذي يمثل الشرق بتعاليمه وأنساقه الروحانية. في لندن تصطدم مكونات التسامي الإيماني الظاهري لدى «إسماعيل»، بحضارة الغرب المبهرة ليفاجأ بعالم آخر، تتجلى فيه مظاهر الحضارة الحديثة بكل منجزاتها وماديتها. يصبح في حالة «اغتراب وجودي» مع إرثه الشرقي وماضيه المصري، وينجرف في حب «ماري» التي ترمز هنا إلى حضارة الغرب، «ماري» الجميلة فائقة الحسن تجرفه بعيداً عن ثوابته الإيمانية. ينطلق معها لينهل من رحيق الهوى بلا قيود، لينسلخ من شرقيته؛ لكن مع مرور الوقت تتأجج شحنة الصراع الداخلي بفعل التناقضات الحادة بين روحه اليقظة وواقعه المادي. هنا ينشأ مجال حيوي واسع من التوتر بفعل «ماري»؛ حيث كانت روحه تتأوه وتتلوى تحت ضربات معولها، كان يشعر بكلامها كالسكين يقطع من روابط حية يتغذى منها، واستيقظ ذات يوم فإذا روحه خراب لم يبقَ فيها حجر على حجر! بدت له الروحانيات خرافة لم تُخترع إلا لحكم الجماهير.
تلفت أبو العينين إلى أن بطل «قنديل أم هاشم» خرج من بلاده وهو في سن المراهقة، في فترة يتغير فيها كل شيء فسيولوجياً وجسمياً وفكرياً، علاوة على أنه كان شاباً خجولاً تربى على قيم ومبادئ لم تسمح له بأن يعبر حتى عن مشاعره للفتاة السمراء التي كانت تتردد على مقام «السيدة الطاهرة»، وتدعو الله أن يتوب عليها. خرج «إسماعيل» في مرحلة ليست مرحلة نضوج فكري، وكان يعيش في مجتمع له حدوده وقيمه الأخلاقية، وإن كان هذا المجتمع في ذلك الوقت يخلط بين المعتقدات والخرافات؛ لأنه مجتمع بسيط غير متعلم. يجد «إسماعيل» نفسه في خضم فضاء أوروبي واسع، ليس بمحدودية الحارة والشارع اللذين تربى فيهما. لقد بهرته «ماري» بأفكارها وجدالها، كانت تحدثه في الفن والموسيقى والطبيعة؛ بل في الروح الإنسانية. عندما كان يحدثها عن الزواج تحدثه عن الحب، يحدثها عن المستقبل فتحدثه عن اللحظة الراهنة، كان قبلها يبحث عن شيء خارج نفسه، يتمسك به ويستند إليه بعيداً عن إرثه الشرقي الذي أصبح يرى فيه نوعاً من القيود.
تلقائياً تدور مقارنة ما بين «فاطمة» ابنة عمه وخطيبته وبين «ماري»: «فاطمة» مريضة لا تتكلم، وإذا تكلمت لا تجيد فن الحديث، ولا تعرف سوى أن تنظر إلى «إسماعيل» نظرة إكبار واحترام دون أن تعبر عن هذا الرأي، أما «ماري» فهي تعرف كل شيء؛ بل ربما أكثر منه، وتجيد فن الحديث، وتحدثه في كل شيء. هنا اغترب «إسماعيل» عن مجتمعه ومبادئه وقيمه؛ بل اغترب عن ذاته؛ حيث بدا له أن النفس البشرية لا تجد قوتها ومن ثم سعادتها إلا إذا انفصلت عن الجموع وواجهتها، أما الاندماج مع تلك الجموع ففيه ضعف ونقمة!
مع عودة «إسماعيل» إلى القاهرة يتأجج الصراع في عالمه القديم. عاد طبيب العيون ليجد في انتظاره نوعاً من التحدي؛ حيث أصيبت «فاطمة» ابنة عمه بالرمد، وعولجت بزيت القنديل «المبارك»، فيثور ثورة عارمة، متهماً عائلته بالانسياق وراء الخرافات! يتعهد بعلاجها وفق أنظمة الطب الحديث؛ لكنه يفشل، فتنهار ثقته فيما تلقاه من علم، ليدخل في دوامة صراع وجودي وعزلة، يصل من خلالها إلى اليقين بحتمية اقتران العلم المادي بالروحانيات.
إنها المصالحة التي اختارها يحيى حقي، في رؤية تقول بإمكانية الوصول إلى حل توافقي، لا صدامي.