«قبل النكسة بيوم»... جدل المتن والهامش روائيّاً

إيمان يحيى يوثق للستينيات المصرية بروح «25 يناير»

«قبل النكسة بيوم»... جدل المتن والهامش روائيّاً
TT

«قبل النكسة بيوم»... جدل المتن والهامش روائيّاً

«قبل النكسة بيوم»... جدل المتن والهامش روائيّاً

يقدم الروائي المصري إيمان يحيى في روايته «قبل النكسة بيوم» ما يشبه كشف حساب سردي للزمن بتداعياته ومفارقاته الحادة، وتحديداً في مرحلة الستينيات المصرية التي شهد المجتمع تحت مظلتها تحولات وتحديات سياسية واجتماعية فارقة وصادمة، لا يزال صداها يتردد في الذاكرة والوجدان.
زمنياً تبدأ أحداث الرواية قبل بضع سنوات من هزيمة 1967. المعروفة بـ«النكسة»، والتي كسرت زهوة الحكم الناصري. ويمهد الكاتب لذلك بتصوير حالة الاضطراب الذي حدث في المجتمع على أثر عملية تهجير النوبيين من أسوان بالجنوب جراء بناء السد العالي، وما لحق بهم من شتات وغربة في البلاد. وهو ما ينعكس على أسرة إدريس النوبي، الذي يعمل حارساً لإحدى البنايات التاريخية العتيقة بالقاهرة. تشكل هذه الأسرة بمساراتها ومصائرها المتقلبة عتبة أساس في الرواية، وتكاد تكسبها صفة «رواية أجيال»، فبطلة الرواية «كريمة» ابنة هذه الأسرة تشق طريقها في التعليم حتى تحصل على دبلوم متوسط يؤهلها للعمل في إحدى الشركات، وتكسر وضعها الطبقي المتدني بمواصلة التعليم العالي بأحد معاهد الخدمة الاجتماعية، كما أن بعض أفراد الأسرة طرف في صناعة الأحداث، ومن خلال مراياهم ومعيشتهم الفقيرة في غرفتين على سطح البناية، تنفتح الرواية على أرشيف هذه الحقبة وزمن «ثورة يوليو» بكل اضطراباته وتناقضاته وأحلام الناس بالاشتراكية والعدل والمساواة، وغيرها من الأفكار التي سادت الواقع في تلك الفترة العصيبة المفصلية، وتوثِّق لها من خلال حركة الشخوص وما آلت إليه مصائرهم، ومن منظور بانورامي تمتزج فيه الصور بالأغاني والأفلام بالشعارات والمظاهرات السياسية، إضافة لأسعار السلع والخدمات المعتادة كفواتير التليفون والكهرباء والمياه، ويمتد هذا المنظور حتى ثورة 25 يناير (كانون الثاني)2011 ضد حكم مبارك الذي استمر على مدار 30 عاماً.
تقع الرواية الصادرة حديثاً عن دار «الشروق» بالقاهرة في 305 صفحات، وينهض معمارها الروائي بفصوله التسعة عشر على زاويتين سرديتين، الأولى تمثل متن الحكي، والثانية مجرد هامش مقتضب عليه، وعدا الفصل الأخير من هذه البنية السردية يتعاقب على فصول الرواية «فاصل» صغير. يبدو بمثابة تعليق موثَّق على المشهد الذي يتسع فضاؤه ويتشعب في الفصول، فالمشهد/ المتن ابن حركة الواقع الموَّار بالصدامات والاختلافات والتي تصل أحياناً إلى المطاردة والاعتقال والتعذيب، بينما ترصد الفواصل بإشارات خاطفة وفاضحة، ما جرى من وقائع في دهاليز السلطة. ومن ثم نصبح إزاء رؤيتين يتبادلان الأدوار فيما بينهما، المشهد بعين الواقع وفي الوقت نفسه المشهد بعين السلطة.
تقول كريمة وهي بميدان الفلكي في الطريق لأخذ دورة في معهد القادة بضاحية حلوان في يوم ما بين خريف وشتاء 1960: «قررت أن أمر على فول (القط الدمياطي) بالميدان لأشتري سندوتشي فول وطعمية، من المحل أسفل عمارة الأطباء، دفعت قرشين صاغ ثمن السندوتشين، ومن كشك الصحافة أمامه، اشتريت صحيفة الأهرام بثلاثة (تعريفة) كي أقرأها في القطار». خاضت كريمة الدورة التعليمية ولفتت الأنظار بسؤالها الدائم حول الماهية الملتبسة والشائكة لـ«أعداء الشعب» لتصبح بعد ذلك، أحد الكوادر القيادية النسائية الهامة في منظمة الشباب. تعشق عبد الناصر، وتراه في أحلامها وهو يربت على كتفيها، ويسألها عن أحوالها.
يمثل السرد بضمير المتكلم الحجر الأساس في هذه البنية، حيث يوفر للراوي دائماً مساحة من الحضور في قلب الأحداث والمشاركة في صناعتها، ويشكل في الوقت نفسه، نوعاً من التماهي مع الكاتب نفسه، ويضفي على أنساق السرد شكلاً من الحميمية، توحي بواقعية التجربة وحقيقة الشخصيات النابعة من طينة الواقع نفسه. يعزز ذلك أن الرواية تفصح عن أسماء حقيقية لمثقفين وكتاب وشعراء ونقاد ومعارضين سياسيين، لم يسلموا من بطش السلطة.
ومن ثم، تراوح الرواية بين مشهدين رئيسيين، يشكلان جدل المتن والهامش، تتنقل بينهما بإيقاع مونتاج سينمائي متقطع ولغة سردية سلسة.
تمثل الحقبة الناصرية متن المشهد الأول، بينما تمثل ثورة 25 يناير متن المشهد الثاني. يتحرك المشهدان في غبار حركة الشخوص، أبطال الرواية الثلاثة (كريمة ابنة البواب، وحمزة النادي، حبيبها، المحاسب خريج كلية التجارة، وعبد المعطي سلام، صحافي مخضرم شهير، يعمل مديراً لمكتبة صحيفة كويتية بالقاهرة). تبدو الشخوص دائمة الاستدعاء لأحلامها الذاتية المكبوتة والمجهضة، تبحث عن نقطة توازن بين ما قد كان، وما هو واقع بالفعل وما يمكن أن يكون عليه الحال.
هنا يبرز المكان كرحم احتواء، مقترناً في الحقبة الناصرية بالاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب، ومعهد تخريج القادة في حلوان، يضاف إليها التنظيم الطليعي بسمته السري، وكلها تنظيمات كان الهدف منهما حماية النظام، وتجهيز كوادر شابة مثقفة ومدربة من الشباب والشابات، تدافع عن مكتسبات ثورة يوليو وتحافظ عليها، وتقود المجتمع نحو تحقيق أهدافها.
تتسم الحركة في هذا الحيز المكاني بالنمطية، فكل عناصرها وفعالياتها وشعاراتها وهوامشها من حرية الرأي والتعبير تجري وفق ما هو مخطط له مسبقاً من قبل السلطة. بينما في المشهد الثاني يبرز ميدان التحرير كرحم مكاني حي مفتوح بحرية وحيوية على الثورة ودبيب البشر، بعفويته وتلقائيته المهولة، كأنه قيامة شعب ينهض من ثبات عميق.
يمثل الأبطال الثلاثة نموذجاً لشباب الثورة، ومن خلال انخراطهم في العمل التنظيمي يحتفظون بعلاقة إيجابية مع السلطة ونظامها السياسي، رغم أنهم لم يسلموا من تنكيلها بهم: عمل حمزة لفترة موجهاً في منظمة الشباب، ثم أصبح مساعداً لأمينها العام. لكنه بعد اعتقاله لتسعة أشهر وتعذيبه، يخرج مشوشاً: «ظللت أدور في هذه الساقية الجهنمية، حتى خرجت في منتصف شهر مايو (أيار) 67 بفضل وساطة من تنظيم (القوميين العرب). أدركت أن المحيطين بي من عائلتي قد عانوا الكثير في غيابي. عندما التقيت كريمة شعرت بأن عواطفي عاجزة. نفدت قدرتي على العطاء. أنظر إلى المارين في الشارع، وأدرك أنهم مغيبون، يعيشون وهماً». المفارقة هنا أن المنظمة التي توسطت للإفراج عنه، هي التي اتخذها النظام ذريعة للقبض عليه. لم يتبق شيء أمام حمزة، فقد تم شطبه من المنظمة، وتبخرت على صخرة السلطة أحلامه في الحب والزواج من كريمة. غادر الوطن، وعمل لفترة بالكويت، ثم استقر في العمل بمدينة نيويورك.
أما عبد المعطي فعلاوة على كونه صحافياً مرموقاً، خاصة في الشأن السياسي، فهو كاتب وباحث، تجمعه علاقات صداقة واسعة مع كل أطياف المد الثوري من شيوعيين وماركسيين، واليسار بشكل عام. في حفل بمناسبة الإفراج عن مجموعة منهم، يقول معقباً على مزاح صديقه «الصيرفي» زميله في حبسة 66 في سجن القلعة: «زمالة المعتقل وعشرة التعذيب لا تضاهيها أي علاقة إنسانية أخرى، نغيب عن بعضنا بعضاً، وعندما نلتقي تنفجر الذكريات المشتركة ومعها تعاطف إنساني عميق. تعاطف، بل تفاهم خلقته لحظات الشجاعة والضعف، ساعات العزلة والانتظار. عراة كنا أمام الجلادين إلا من أثمال ثياب وأحلام مجهضة. بقية الضيوف الجالسين حولي لا يدركون أن (الصيرفي) مرآتي التي أرى فيها شبابي ومشاكساتي».
ومن ثم، تلعب الرواية على المصادفة بين أبطالها كجزء من الوجود، بل تصنعها أحياناً، وتوظفها كأحد مقومات السرد ذات الحساسية الخاصة، ومن خلالها يبرز عنصر التشويق كعاطفة إنسانية حميمة وشكل من أشكال التشبث بالأمل وإرادة الحياة... مصادفة لقاء الصيرفي (70 عاماً) وكريمة (60 عاماً) في ميدان التحرير في خضم غبار المظاهرات وأمواج البشر، يتعرفان على بعضيهما، بحنو بالغ الرقة. لقد فرغا من الدنيا ولم يبق لهما سوى معايشة هذه اللحظة، ابنة الثورة والمصادفة الرخوة، ويلمان تحت نجومها الساطعة أوراق شيخوختهما المبعثرة، ليكون الميدان شاهداً على حياة جديدة يبدآنها معاً. وفي نيويورك وبحنين جارف يتابع حمزة عبر وسائل الإعلام ما يحدث في مصر، ويصر عبد المعطي على مشاهدة خطاب مبارك الأخير عبر شاشات مكبرة بالميدان، وتجمعه المصادفة بحفيدته من زوجته الأولى بصحبة حفيد كريمة. لقد تحول الميدان إلى أداة تطهير من أدران ماضٍ، سلبهم الثقة بأنفسهم وأحلامهم: «أشعر بأن شبابي يعود وأحس باخضرار يغزو قلبي. الناس تملأ الميادين والشوارع والمدن. مصر تنتفض، ومعها أنفض كل الحزن والكآبة اللذين عايشتهما من قبل».
لم تكن هذه صيحة كريمة فقط، بل كانت صيحة الجميع، في رواية شيقة، ومناورة سردية متدفقة، خانها أحياناً بعض «الفواصل» التي شكلت حبسة تقريرية لمتن الحكاية، مثل الفاصل الأخير، على أربع صفحات بداية من (ص 289) والذي أفقد التداعي انسيابيته، بين لحظتين فارقتين، لزمن ولى، وآخر يتشكل بنبض جديد في الميدان.



أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟