مي شدياق، المحاربة اللبنانية الصلبة، سيدة الدعوة. كن كثيرات في دورة هذا العام من الأردن، ضمن مؤتمر «نساء على خط المواجهة»، من تنظيم «مؤسسة مي شدياق» (MCF). يحضرن بهممهن العالية ولهجاتهن المختلفة، لكن الإصرار العنيد واحد. لكل امرأة حكاية تُلهم أخريات وتحرّضهن على المحاولة. ضيفات من لبنان، بينهن ريما مكتبي وأليسار كركلا ونادين جابر وماغي بوغصن... ومن بعض دول العرب حيث الريادة لعقل المرأة. بثوبها الأحمر كاختزال للدم المتشبّث بالحياة، تجلس الناجية من الاغتيال الوحشي، في الوسط، تصغي لحكايات نساء يواجهن العواصف.
أحياناً، يكفي الإصغاء لتشعر أنك بخير. يملك الآخرون قصصاً قد تهوّن الصعب لمجرد أن أبطالها عبروا الأمواج وبلغوا، عوض الغرق، البرَّ. إعلاميان عتيقان من لبنان في إدارة الجلسات: ريكاردو كرم وزافين قيومجيان. لهما من المكانة ما يجعل الحوار مفيداً لكل الناس. أمامهما سيدات يأتين إلى عمان لرفع الصوت في وجه التمييز واللاعدالة وازدواجية المعيار. يأتين من هذا الشرق الحزين، ولو اخترن لندن أو باريس ملجأ للنجاة؛ محمّلات بالندوب وذنب الأوطان.
صحافيات على جبهات النار، بينهن مديرة مكتب «العربية» في لندن ريما مكتبي. تخبر زافين أنّ الإدارة مسألة شاقة حين تتعلق بنظرة بعض الرجال إلى منصب المرأة. يسألها عن الانتماء إلى الأرض، فيُشعل ذاكرة التغطية الميدانية وتلك النشوة التي لا تضفيها المكاتب. «اشتقتُ لتغطية الحروب»، تتحرك فيها النوستالجيا. كانت فترة المرض قاسية فأبعدتها عن الشغف الأول. «اليوم، أنتظر (الشنغن) للذهاب إلى أوكرانيا».
تستعيد حروباً غطّتها في لبنان وسوريا، وتشارك الحضور عِبرة التجربة: «ليس سهلاً على المرأة العربية الصحافية الانخراط في الميدان، خصوصاً في مناطق النزاع بالشرق الأوسط. العقبات كثيرة لكنها تكسر القيود». وبجميل العبارة تُنهي: «حين تكون صحافياً، عليك البقاء على رأس القصة في الاستوديو وعلى الأرض. ذلك لا شأن له بالتقدم في العمر أو المرض».
يطالب ريكاردو كرم الحضور ببعض الهدوء، ويمازح ضيفته مصممة الرقص أليسار ابنة عبد الحليم كركلا: «في القاعة شيء من الثرثرة الجانبية. الرجاء الانضباط. على طول الرحلة من لندن إلى عمان، ترافقتُ وأليسار وريما مكتبي في الطائرة. لم تتوقفا عن الثرثرة!». يضحك الجميع ويلتزمون.
مع أليسار كركلا
يخفق قلب أليسار كركلا أمام مشهديات الفن الراقي وهي تمر على شاشة عملاقة، لتختزل بعض إنجازات مدرسة والدها. ظنت في صغرها أنّ رقة المرأة تعني ضعفها، ومع الوقت فهمت عظمة المشاعر وقدرة العاطفة على ضخ القوة. خمس سنوات هو عمر ابنها، «وكم ينظر إليَّ بفخرٍ وأنا أتمرّن على المسرح! أريده أن يدرك أهمية الأم العاملة. أقول لكل أم ألا تتنازل عن شغفها».
خمسون عاماً على بدايات «فرقة كركلا» في مطلع السبعينات، ولبنان آنذاك كان مقبلاً على الاقتتال. يسألها ريكاردو كرم: «هل تعب الأستاذ أم لا يزال يطارد أحلامه؟»، قاصداً والدها الرمز. بحماسة تردّ: «لن يتعب». مع كل صباح، تجدد أليسار كركلا الحمد على أنها «بنت المسرح». لم يميّز الأب المؤسس بين امرأة ورجل حين يتعلق الأمر بالإبداع. ألهمها عشق الرقص بوصفه فرحاً وتعبيراً وعلاج الأعماق. ماذا عن زحف السنوات، يسأل مُحاورها، هل يخيفكِ كراقصة؟ الجواب درس للجميع: «العمر الحقيقي في الروح».
يكمل «مسرح كركلا» جولاته حول العالم، وللمرة الأولى، يستعد للعرض في الرياض. يصفق الحضور. تبقى الغصة: «همي العودة إلى المسارح في لبنان، وأن ننهض بالوطن».
محقٌّ زافين في اللفت إلى أهمية الاستراحة المطوّلة بين الندوات، «فنفكر بما قيل ونمعن النظر». بين صانعات أفلام ومسلسلات عربيات، تجلس الكاتبة اللبنانية نادين جابر. ترفض تصنيف الفن وفق الجنس، بل شرطه رهافة الإنسان ومشاعره. «يستحيل حجب الحقيقة»، تقول، فيهزّ كثيرون الرأس موافقين. دورها في الكتابة «إعلان هذه الحقيقة ولو كلّف الرجم. أن نقرّبها من الناس ونبض الشارع. لسنا أصحاب قرار. الجمهور يشاهد ليعزز التحلّى بالوعي».
حوار مع ماغي بو غصن
حين صعدت صديقتها ماغي بوغصن للجلوس إلى جانب ريكاردو كرم، مُحاورها، اتخذت نادين جابر مقعداً أمامياً قرب مي شدياق. ولما حان النقاش مع الحضور، سألتها عن «سحر»، أروع شخصياتها من كتابتها. بدأت بطلة «للموت» الحوار بقلب يخفق. حضّر لها مُحاور النجوم أسئلة عن المهنة والحياة. وفي نهاية اللقاء صارحته بغيرتها لأنه لم يسبق وحاورها. «بيننا الأيام»، يردّ الإعجاب بوعد.
المستمع إلى تجربة النجمة اللبنانية، يعرف أن الصلابة مُكلفة والقوة تتخطى كونها مجرد قرار. هي وجع وتعب وتجارب قاسية، ومحاولات تنجح وتخفق. يصفق الحضور بحرارة لامرأة اختبرت الزواج الفاشل وخطورة المرض، ثم نهضت. يحدّثها ريكاردو كرم عن قوة يتدرّب عليها المرء، وتحدّثه عن إيمانها. حب العائلة، والإرادة، والثقة بالله، جسورها مع الحياة.
ترفض الحظ وربط نجاح المرأة بالرجل. لا تقلل من فضل زوجها، مُسهّل طريقها، لكن «النجاح لا يُهدى. أنا سببه». ملهمٌ الحوار، يواجه المرأة بحقيقة أن الأحلام لا تعرف مستحيلاً. حين وقّعت ماغي بوغصن على مسؤوليتها عن مضاعفات إخضاعها لجراحة في الدماغ، آمنت بأنها تستحق الحياة. أخبرها الأطباء عن إمكان إصابتها بشلل نصفي في الوجه، وبشجاعة اختارت المواجهة. شيء بمرتبة التعويض طرق بابها. هنا، لم تكن ماغي النجمة. كانت الأم بالدرجة الأولى، والخائفة على التسبب بفجيعة العائلة. القوة الداخلية قادرة على قلب الأقدار.
تحقيق الأحلام لا يعني نهايتها، فماغي بوغصن تضيف حلماً جديداً إلى اللائحة كلما وصلت إلى هدف. تلهم كثيرين بجملة: «الحلم أجمل من الحقيقة. الحلم هو الحياة». أكثر من ثلاث ساعات، والرائدات ضيفات المؤتمر يرفعن مراتب الكفاح الإنساني. مرور سنونوات في سمائنا الكئيبة.
«نساء على خط المواجهة» يرفعن مراتب الكفاح
«نساء على خط المواجهة» يرفعن مراتب الكفاح
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة