«تَدمُر».. مملكة زنوبيا في قبضة «داعش»

عندما اعتلت ملكتها الشهيرة العرش كانت تطمح في أن تصبح ذات يوم إمبراطورة على روما

تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول
تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول
TT

«تَدمُر».. مملكة زنوبيا في قبضة «داعش»

تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول
تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول

بسقوط مـدينة تدمر السورية الأثرية في يد «داعش» يكون التنظيم المتطرف قد احتل وأخذ يهدد أحد أبرز الكنوز العالمية التاريخية، حيث إن موقع تدمر مَعلَم أثري يلخص تاريخ حضارة تعود إلى أكثر من 30 قرنا من الزمن في المنطقة.. وإرث مملكة سادت ونافست روما في سلطانها.
وكان اسم «تدمر» قد ظهر للمرة الأولى على مخطوطة يعود تاريخها إلى القرن الـ19 قبل الميلاد.. عندما كانت نقطة عبور للقوافل بين الخليج والبحر المتوسط وإحدى محطات طريق الحرير. ومن ثم، حظيت تدمُر بألقاب عدة منها «لؤلؤة الصحراء» و«عروس البادية»، واقترن اسمها بملكتها العربية زنوبيا - أو الزّباء (بالعربية) - التي طمحت ذات يوم في أن تصبح إمبراطورة على روما.
تَدمُر، مدينة الحضارة والتاريخ، ينبهر العالم بتاريخها وصروحها المعمارية إلا أن رمزية تدمر – التي تُعرف في الغرب باسم «بالميرا» Palmyra أي «الجميلة» أو «الأعجوبة» – في سوريا ولبنان كانت خلال العقود الأخيرة سلبية جدا، إذ ارتبطت في أذهان كثير من السوريين واللبنانيين بمجرد سماع اسمها بسجنها الصحراوي المُرعب، الذي تروى عنه قصص تعذيب وتنكيل فظيعة. اليوم، تدمر أمام مصير مجهول، بعدما وقعت بشكل شبه كامل بيد تنظيم داعش.
ولدى النظر إلى سوابق التنظيم المتطرّف مع المواقع الأثرية التي سبق له أن احتلها وأمعن فيها تدميرا، فإن ثمة مخاوف كبرى على مصير موقع «المدينة الأثرية» المُدرجة على «قائمة التراث العالمي» لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في تدمر، سواءً من أعمال التدمير أو النهب في الموقع نفسه، أو في متحف المدينة. ويذكر أن «داعش» دمر وأتلف ونهب خلال الأشهر الماضية عددا من المواقع والمدن الأثرية – وبخاصة الآشورية – في شمال العراق وشمال شرقيه، منها آثار مدينتي النمرود والحضر، وكذلك متحف الموصل بمدينة الموصل حاضرة شمال العراق، مما أثار موجة من الإدانة والاستنكار من قبل المنظمات الأممية المهتمة بالآثار.
عودة إلى «مدينة تدمر الأثرية»، فإنها تشتهر خصوصا بأعمدتها الرومانية (أكثر من ألف عمود) ومعابدها ومدافنها الملكية، وأهم المباني التي تجتذب الأنظار: القلعة الأثرية الشهيرة والمعابد، منها «الإله بل» و«بعلشمين» و«نبو» و«اللات» و«ارصو»، إلى جانب «الشارع الطويل» وقوس النصر والحمامات ومجلس الشيوخ، والسوق العامة، ووادي القبور، والمدافن البرجية، كما يوجد في مدينة تدمر متحف كبير يضم آثارا تعود لأكثر من 30 قرنا من الزمن.
ويقع الموقع الأثري في الجزء الجنوبي الغربي من المدينة العصرية، ويعد أحد ستة مواقع سورية أدرجتها «اليونيسكو» على قائمتها للتراث العالمي.
ولعل أبرز خصائص فن العمارة التدمري تكمن في عمارة المدافن التي تميّزت بفخامتها وجمال تصميمها وبمحتواها الغني بالتحف والتصوير، مما يبعدها عن رهبة المقابر ويقرّبها من أماكن الاستقبال، إذ إن الموتى كانوا يوضعون فوق أسرة جنائزية تغطى بجدران وسقوف حجرية. أما مدخل المدفن فهو مغلق بباب حجري سهل التحريك. والمدافن التدمرية على أشكال عديدة، أشهرها البرجية، وليس لها نظير في العمارة الرومانية.
جغرافيا، تتوسّط تدمر، التي تبعد مسافة 210 كم شمال شرقي العاصمة السورية دمشق ويمر فيها الطريق الرئيسي من العاصمة إلى محافظتي الحسكة ودير الزور، «بادية الشام» أو الصحراء السورية. وظهر اسمها للمرة الأولى - كما سبقت الإشارة - على مخطوطة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، عندما كانت نقطة عبور للقوافل بين الخليج والبحر المتوسط وإحدى محطّات «طريق الحرير». بل وتذكر وثائق تاريخية أن الكنعانيين والعموريين والآراميين سكنوها منذ 30 قرنا قبل الميلاد، وهم الذين أعطوها اسمها «تدمر».
وقبل اندلاع النزاع السوري في منتصف مارس (آذار) 2011، شكّلت تدمر وجهة سياحية بارزة، إذ كان يقصدها أكثر من 150 ألف سائح سنويا لمشاهدة آثارها، ولقد تعرض بعضها للنهب أخيرا. وأدت الاشتباكات التي اندلعت بين قوات النظام وفصائل المعارضة خلال الفترة الممتدة بين فبراير (شباط) وسبتمبر (أيلول) 2013 في «المدينة الأثرية» إلى انهيار بعض الأعمدة ذات التيجان الكورنثية. وللعلم، يبلغ عدد سكان مدينة تدمر - قبل أن يدخلها «داعش» - وفق طلال البرازي، محافظ حمص، أكثر من 35 ألف نسمة بينهم نحو تسعة آلاف نزحوا إليها خلال السنوات الأربع الماضية، بعد تفجر الثورة السورية. ولكن «المرصد السوري لحقوق الإنسان» قدّر أخيرا أنه يقطن تدمر ومحيطها أكثر من مائة ألف سوري بينهم نازحون.
وحول القلق من المصير الذي يتهدّد تدمر، قال مأمون عبد الكريم، المدير العام للمتاحف والآثار السورية، بعدما بدأ «داعش» يتقدم داخل الأطراف الشمالية من المدينة «أعيش حالة رعب.. حجم الخسارة إذا سقطت تدمر بيد (داعش) سيكون أسوأ من سقوط المدينة في عهد الملكة زنوبيا»، في إشارة إلى مراحل تاريخية سابقة حين تمكن الرومان من السيطرة على تدمر، ثم اقتادوا ملكتها زنوبيا إلى روما. وأبدى عبد الكريم تخوّفه من أنه في حال وصول مقاتلي التنظيم المتطرف إلى المواقع الأثرية فإنهم «سيفجّرون ويدمّرون كل شيء». وأردف «من الصعب جدا اتخاذ أي إجراءات وقائية لحماية هذه المواقع وآثارها التاريخية».
أما إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لـ«اليونيسكو»، فقالت أخيرا في مؤتمر صحافي خلال زيارتها للعاصمة اللبنانية بيروت «نحن قلقون للغاية ونتابع الوضع نظرا للقيمة الكبيرة لهذا الموقع الروماني الأثري.. إن مسؤوليتنا أن ننبه مجلس الأمن الدولي كي يتخذ قرارات حازمة». وحثت خلال مؤتمرها الصحافي المجتمع الدولي للتدخل «من أجل حماية المدنيين وحماية تراث تدمر الثقافي الفريد، خاصة أن لـ(داعش) أخيرا تجربة سابقة مع الآثار، حيث قام في العراق بتدمير المعالم الآشورية».

* لمحة تاريخية
اقترن اسم تدمر بملكتها العربية زنوبيا، واسمها العربي الزّباء أو زينب (وفق الطبري، الذي نسب سلالتها إلى العماليق)، والتي طمحت لأن تصبح إمبراطورة على روما. وفي عام 129م منح الإمبراطور الروماني هادريانوس تدمُر وضع «المدينة الحرة»، وعُرفت آنذاك باسمه «أدريانا بالميرا». وفي هذه المرحلة، بالتحديد، شيّدت أبرز معابد تدمر ومعها ساحة الآغورا. وكان سكان المدينة قبل وصول المسيحية في القرن الثاني بعد الميلاد يعبدون الثالوث المؤلف من الإله بعل ويرحبول (الشمس) وعجلبول (القمر).
واستغلت تدمر الصعوبات التي واجهتها الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث لإعلان قيام مملكة تمكنت من التغلب على الفرس، وتحققت ذروة منجزاتها في عهد الملكة زنوبيا التي كانت قد ورثت الحكم عن زوجها أذينة بن السميذع بعد اغتياله عام 267م، وتولّت الحكم مع ولدهما الصغير وهب اللات. إذ احتلت زنوبيا عام 270 بلاد الشام كلها وجزءا من مصر ووصلت إلى آسيا الصغرى، لكن الإمبراطور الروماني أوريليانوس تمكن من استعادة السيطرة على تدمر واقتيدت الملكة زنوبيا إلى روما، فيما انحسر نفوذ المدينة.
ووصلت تدمر إلى أوج ازدهارها خلال القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، وأصبحت إمارة عربية في القرن الثاني للميلاد، وكانت عاصمة التجارة الدولية بين الشرق والغرب. وحكمتها سلالة عربية من أشهر ملوكها أذينة الأول وحيران وأذينة الثاني (زوج زنوبيا ملكة تدمر الشهيرة ووالد ابنهما وهب اللات). وتشير مصادر تاريخية إلى أن الاسم الحقيقي لزنوبيا (أو الزباء أو زينب) هو ميسون بنت عمرو ابن السميدع، وتنحدر من عشائر الفرات الأوسط العربية ولقبت بـ«زنوبيا» و«بت زباي»، واشتهرت أيضا بلقب «الزباء» لغزارة شعرها وطوله، وكانت أمها ترجع بنسب إلى الملكة كليوباترا (من سلالة البطالمة) في مصر، بحسب المصادر.
وولدت زنوبيا في تدمُر، وتعلمت في الإسكندرية بشمال مصر حيث درست تاريخ الإغريق والرومان وتخلقت بأخلاق كليوباترا وبطموحها، وكانت امرأة هاجسها المجد والسلطان، بحسب ما تصفها المراجع التاريخية. ولاحقا، رأت في أذينة الثاني، سليل العائلة الحاكمة في تدمر، فرصتها لتحقيق هذا الطموح، وكانت تشهد مجالس القوم وجلسات مجلس الشيوخ، وهكذا نشأت معه على أهداف واحدة. وبعدما قتل زوجها، اعتلت العرش نيابة عن ولدها «وهب اللات» لصغره، وقادت الحكم ومجلس الشيوخ والحروب، كما قادت أعمال الإعمار والبناء. وأكثر الآثار القائمة حتى اليوم في تدمر يعود الفضل في تشييدها إليها، وكانت تشرف بنفسها على عمليات التوسع والإنشاء، وتنتقل على ظهر فرسها مرتدية أزياء الرجال، كما كانت تسوس دولتها بعين لا تنام ولا تغفل، وبعزيمة ترهب الرجال.
لكن هاجس زنوبيا كان أن تغدو في يوم من الأيام إمبراطورة على روما ذاتها، كما كانت تعدّ أولادها لاعتلاء العرش، وذلك بتعليمهم لغة روما وآدابها وتاريخها. ثم إنها اتخذت مظاهر القياصرة الرومان فكانت تركب مركبة ملكية فيها الذهب والفضة تضاهي مركبة القياصرة، رصّعتها بالأحجار الكريمة.
وبالتالي، على الرغم من حجم إنجازاتها، لم تنس يوما حلمها بالتوسع في آسيا ومصر وروما، وحقا وصلت جيوشها إلى بيزنطة (القسطنطينية، ثم إسطنبول لاحقا) في العصر الروماني، وقتلت هيراكليون قائد القصر، ثم فتحت الإسكندرية.
ولذا، كانت روما قلقة جدا من طموحاتها التوسعية. وحقا، بعد اعتلاء الإمبراطور أوريليانوس العرش في روما عام 270م، وهو رجل عُرف عنه دهاؤه وقسوته وبطشه، مارس أولا اللين إزاء زنوبيا فاعترف لها بنفوذها على الإسكندرية، لكنه لم يلبث أن نقض اعترافه واسترجع نفوذه على الإسكندرية بعد سنة واحدة.
وكان أوريليانوس يتابع انتصاراته في آسيا، إلى أن هدد تدمر، إذ كان عليه أن يقضي على تلك المرأة المناوئة لعرشه في روما. وقبل أن يغادر أنطاكية كانت جيوش زنوبيا تجابه زحفه إلى تدمر، وكانت الحرب في البداية سجالا، لكنها تعرضت لخذلان حلفائها عند حمص، فعادت إلى تدمر حيث لاحقها أوريليانوس وحاصرها. وعندها، حاولت الاستنجاد بالفرس، وذهبت متخفية لملاقاة هرمز، ملك الفرس. إلا أنها كانت تحت رصد جيوش الرومان، وقبل أن تعبر نهر الفرات قبضوا عليها وأعادوها إلى خيمة أوريليانوس الذي عاد بها إلى روما أسيرة مكبّلة ولكن بأصفاد من الذهب احتراما لمكانتها.
وتتباين الروايات حول ظروف وفاة زنوبيا مثلها مثل تفاصيل حياتها، فتذكر إحدى الروايات أنها لم ترض أن تدخل أسيرة إلى روما، مفضلة أن تفوّت نشوة النصر على أوريليانوس، فتناولت سما كان بخاتمها وهي في الطريق إليها مما أدى لموتها. غير أن رواية أخرى تفيد بأنها أكملت حياتها في تيفولي، إحدى ضواحي روما. وثمة رواية ثالثة تقول إن أحد العملاء حاول قتلها عندما دخل إلى قصرها متخفّيا فلما اكتشفت أمره ابتلعت سمّا كان في خاتمها، وقالت المثل المشهور «بيدي لا بيد عمرو» الذي ينسبه بعضهم إليها حتى اليوم.
وبقي أن نشير إلى أن أبجدية تدمر تتألّف من 22 حرفا تكتب وتقرأ من اليمين إلى اليسار. ووُجدت نقوش بالأبجدية التدمرية في تدمر وفلسطين ومصر ومواطن أخرى من شمال أفريقيا كانت قد سيطرت عليها أو وصلت إليها الحضارة التدمرية. وتشير مراجع تاريخية إلى أنه عثر على نقوش مرقومة بالأبجدية التدمرية في مناطق أبعد من ذلك مثل ساحل البحر الأسود والمجر. ووفق المراجع نفسها، تعود أقدم النقوش التدمرية إلى عام 44 قبل الميلاد، وأحدثها إلى عام 274م.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.