«تَدمُر».. مملكة زنوبيا في قبضة «داعش»

عندما اعتلت ملكتها الشهيرة العرش كانت تطمح في أن تصبح ذات يوم إمبراطورة على روما

تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول
تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول
TT

«تَدمُر».. مملكة زنوبيا في قبضة «داعش»

تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول
تدمر.. مدينة الحضارة والتاريخ أمام المصير المجهول

بسقوط مـدينة تدمر السورية الأثرية في يد «داعش» يكون التنظيم المتطرف قد احتل وأخذ يهدد أحد أبرز الكنوز العالمية التاريخية، حيث إن موقع تدمر مَعلَم أثري يلخص تاريخ حضارة تعود إلى أكثر من 30 قرنا من الزمن في المنطقة.. وإرث مملكة سادت ونافست روما في سلطانها.
وكان اسم «تدمر» قد ظهر للمرة الأولى على مخطوطة يعود تاريخها إلى القرن الـ19 قبل الميلاد.. عندما كانت نقطة عبور للقوافل بين الخليج والبحر المتوسط وإحدى محطات طريق الحرير. ومن ثم، حظيت تدمُر بألقاب عدة منها «لؤلؤة الصحراء» و«عروس البادية»، واقترن اسمها بملكتها العربية زنوبيا - أو الزّباء (بالعربية) - التي طمحت ذات يوم في أن تصبح إمبراطورة على روما.
تَدمُر، مدينة الحضارة والتاريخ، ينبهر العالم بتاريخها وصروحها المعمارية إلا أن رمزية تدمر – التي تُعرف في الغرب باسم «بالميرا» Palmyra أي «الجميلة» أو «الأعجوبة» – في سوريا ولبنان كانت خلال العقود الأخيرة سلبية جدا، إذ ارتبطت في أذهان كثير من السوريين واللبنانيين بمجرد سماع اسمها بسجنها الصحراوي المُرعب، الذي تروى عنه قصص تعذيب وتنكيل فظيعة. اليوم، تدمر أمام مصير مجهول، بعدما وقعت بشكل شبه كامل بيد تنظيم داعش.
ولدى النظر إلى سوابق التنظيم المتطرّف مع المواقع الأثرية التي سبق له أن احتلها وأمعن فيها تدميرا، فإن ثمة مخاوف كبرى على مصير موقع «المدينة الأثرية» المُدرجة على «قائمة التراث العالمي» لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في تدمر، سواءً من أعمال التدمير أو النهب في الموقع نفسه، أو في متحف المدينة. ويذكر أن «داعش» دمر وأتلف ونهب خلال الأشهر الماضية عددا من المواقع والمدن الأثرية – وبخاصة الآشورية – في شمال العراق وشمال شرقيه، منها آثار مدينتي النمرود والحضر، وكذلك متحف الموصل بمدينة الموصل حاضرة شمال العراق، مما أثار موجة من الإدانة والاستنكار من قبل المنظمات الأممية المهتمة بالآثار.
عودة إلى «مدينة تدمر الأثرية»، فإنها تشتهر خصوصا بأعمدتها الرومانية (أكثر من ألف عمود) ومعابدها ومدافنها الملكية، وأهم المباني التي تجتذب الأنظار: القلعة الأثرية الشهيرة والمعابد، منها «الإله بل» و«بعلشمين» و«نبو» و«اللات» و«ارصو»، إلى جانب «الشارع الطويل» وقوس النصر والحمامات ومجلس الشيوخ، والسوق العامة، ووادي القبور، والمدافن البرجية، كما يوجد في مدينة تدمر متحف كبير يضم آثارا تعود لأكثر من 30 قرنا من الزمن.
ويقع الموقع الأثري في الجزء الجنوبي الغربي من المدينة العصرية، ويعد أحد ستة مواقع سورية أدرجتها «اليونيسكو» على قائمتها للتراث العالمي.
ولعل أبرز خصائص فن العمارة التدمري تكمن في عمارة المدافن التي تميّزت بفخامتها وجمال تصميمها وبمحتواها الغني بالتحف والتصوير، مما يبعدها عن رهبة المقابر ويقرّبها من أماكن الاستقبال، إذ إن الموتى كانوا يوضعون فوق أسرة جنائزية تغطى بجدران وسقوف حجرية. أما مدخل المدفن فهو مغلق بباب حجري سهل التحريك. والمدافن التدمرية على أشكال عديدة، أشهرها البرجية، وليس لها نظير في العمارة الرومانية.
جغرافيا، تتوسّط تدمر، التي تبعد مسافة 210 كم شمال شرقي العاصمة السورية دمشق ويمر فيها الطريق الرئيسي من العاصمة إلى محافظتي الحسكة ودير الزور، «بادية الشام» أو الصحراء السورية. وظهر اسمها للمرة الأولى - كما سبقت الإشارة - على مخطوطة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، عندما كانت نقطة عبور للقوافل بين الخليج والبحر المتوسط وإحدى محطّات «طريق الحرير». بل وتذكر وثائق تاريخية أن الكنعانيين والعموريين والآراميين سكنوها منذ 30 قرنا قبل الميلاد، وهم الذين أعطوها اسمها «تدمر».
وقبل اندلاع النزاع السوري في منتصف مارس (آذار) 2011، شكّلت تدمر وجهة سياحية بارزة، إذ كان يقصدها أكثر من 150 ألف سائح سنويا لمشاهدة آثارها، ولقد تعرض بعضها للنهب أخيرا. وأدت الاشتباكات التي اندلعت بين قوات النظام وفصائل المعارضة خلال الفترة الممتدة بين فبراير (شباط) وسبتمبر (أيلول) 2013 في «المدينة الأثرية» إلى انهيار بعض الأعمدة ذات التيجان الكورنثية. وللعلم، يبلغ عدد سكان مدينة تدمر - قبل أن يدخلها «داعش» - وفق طلال البرازي، محافظ حمص، أكثر من 35 ألف نسمة بينهم نحو تسعة آلاف نزحوا إليها خلال السنوات الأربع الماضية، بعد تفجر الثورة السورية. ولكن «المرصد السوري لحقوق الإنسان» قدّر أخيرا أنه يقطن تدمر ومحيطها أكثر من مائة ألف سوري بينهم نازحون.
وحول القلق من المصير الذي يتهدّد تدمر، قال مأمون عبد الكريم، المدير العام للمتاحف والآثار السورية، بعدما بدأ «داعش» يتقدم داخل الأطراف الشمالية من المدينة «أعيش حالة رعب.. حجم الخسارة إذا سقطت تدمر بيد (داعش) سيكون أسوأ من سقوط المدينة في عهد الملكة زنوبيا»، في إشارة إلى مراحل تاريخية سابقة حين تمكن الرومان من السيطرة على تدمر، ثم اقتادوا ملكتها زنوبيا إلى روما. وأبدى عبد الكريم تخوّفه من أنه في حال وصول مقاتلي التنظيم المتطرف إلى المواقع الأثرية فإنهم «سيفجّرون ويدمّرون كل شيء». وأردف «من الصعب جدا اتخاذ أي إجراءات وقائية لحماية هذه المواقع وآثارها التاريخية».
أما إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لـ«اليونيسكو»، فقالت أخيرا في مؤتمر صحافي خلال زيارتها للعاصمة اللبنانية بيروت «نحن قلقون للغاية ونتابع الوضع نظرا للقيمة الكبيرة لهذا الموقع الروماني الأثري.. إن مسؤوليتنا أن ننبه مجلس الأمن الدولي كي يتخذ قرارات حازمة». وحثت خلال مؤتمرها الصحافي المجتمع الدولي للتدخل «من أجل حماية المدنيين وحماية تراث تدمر الثقافي الفريد، خاصة أن لـ(داعش) أخيرا تجربة سابقة مع الآثار، حيث قام في العراق بتدمير المعالم الآشورية».

* لمحة تاريخية
اقترن اسم تدمر بملكتها العربية زنوبيا، واسمها العربي الزّباء أو زينب (وفق الطبري، الذي نسب سلالتها إلى العماليق)، والتي طمحت لأن تصبح إمبراطورة على روما. وفي عام 129م منح الإمبراطور الروماني هادريانوس تدمُر وضع «المدينة الحرة»، وعُرفت آنذاك باسمه «أدريانا بالميرا». وفي هذه المرحلة، بالتحديد، شيّدت أبرز معابد تدمر ومعها ساحة الآغورا. وكان سكان المدينة قبل وصول المسيحية في القرن الثاني بعد الميلاد يعبدون الثالوث المؤلف من الإله بعل ويرحبول (الشمس) وعجلبول (القمر).
واستغلت تدمر الصعوبات التي واجهتها الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث لإعلان قيام مملكة تمكنت من التغلب على الفرس، وتحققت ذروة منجزاتها في عهد الملكة زنوبيا التي كانت قد ورثت الحكم عن زوجها أذينة بن السميذع بعد اغتياله عام 267م، وتولّت الحكم مع ولدهما الصغير وهب اللات. إذ احتلت زنوبيا عام 270 بلاد الشام كلها وجزءا من مصر ووصلت إلى آسيا الصغرى، لكن الإمبراطور الروماني أوريليانوس تمكن من استعادة السيطرة على تدمر واقتيدت الملكة زنوبيا إلى روما، فيما انحسر نفوذ المدينة.
ووصلت تدمر إلى أوج ازدهارها خلال القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، وأصبحت إمارة عربية في القرن الثاني للميلاد، وكانت عاصمة التجارة الدولية بين الشرق والغرب. وحكمتها سلالة عربية من أشهر ملوكها أذينة الأول وحيران وأذينة الثاني (زوج زنوبيا ملكة تدمر الشهيرة ووالد ابنهما وهب اللات). وتشير مصادر تاريخية إلى أن الاسم الحقيقي لزنوبيا (أو الزباء أو زينب) هو ميسون بنت عمرو ابن السميدع، وتنحدر من عشائر الفرات الأوسط العربية ولقبت بـ«زنوبيا» و«بت زباي»، واشتهرت أيضا بلقب «الزباء» لغزارة شعرها وطوله، وكانت أمها ترجع بنسب إلى الملكة كليوباترا (من سلالة البطالمة) في مصر، بحسب المصادر.
وولدت زنوبيا في تدمُر، وتعلمت في الإسكندرية بشمال مصر حيث درست تاريخ الإغريق والرومان وتخلقت بأخلاق كليوباترا وبطموحها، وكانت امرأة هاجسها المجد والسلطان، بحسب ما تصفها المراجع التاريخية. ولاحقا، رأت في أذينة الثاني، سليل العائلة الحاكمة في تدمر، فرصتها لتحقيق هذا الطموح، وكانت تشهد مجالس القوم وجلسات مجلس الشيوخ، وهكذا نشأت معه على أهداف واحدة. وبعدما قتل زوجها، اعتلت العرش نيابة عن ولدها «وهب اللات» لصغره، وقادت الحكم ومجلس الشيوخ والحروب، كما قادت أعمال الإعمار والبناء. وأكثر الآثار القائمة حتى اليوم في تدمر يعود الفضل في تشييدها إليها، وكانت تشرف بنفسها على عمليات التوسع والإنشاء، وتنتقل على ظهر فرسها مرتدية أزياء الرجال، كما كانت تسوس دولتها بعين لا تنام ولا تغفل، وبعزيمة ترهب الرجال.
لكن هاجس زنوبيا كان أن تغدو في يوم من الأيام إمبراطورة على روما ذاتها، كما كانت تعدّ أولادها لاعتلاء العرش، وذلك بتعليمهم لغة روما وآدابها وتاريخها. ثم إنها اتخذت مظاهر القياصرة الرومان فكانت تركب مركبة ملكية فيها الذهب والفضة تضاهي مركبة القياصرة، رصّعتها بالأحجار الكريمة.
وبالتالي، على الرغم من حجم إنجازاتها، لم تنس يوما حلمها بالتوسع في آسيا ومصر وروما، وحقا وصلت جيوشها إلى بيزنطة (القسطنطينية، ثم إسطنبول لاحقا) في العصر الروماني، وقتلت هيراكليون قائد القصر، ثم فتحت الإسكندرية.
ولذا، كانت روما قلقة جدا من طموحاتها التوسعية. وحقا، بعد اعتلاء الإمبراطور أوريليانوس العرش في روما عام 270م، وهو رجل عُرف عنه دهاؤه وقسوته وبطشه، مارس أولا اللين إزاء زنوبيا فاعترف لها بنفوذها على الإسكندرية، لكنه لم يلبث أن نقض اعترافه واسترجع نفوذه على الإسكندرية بعد سنة واحدة.
وكان أوريليانوس يتابع انتصاراته في آسيا، إلى أن هدد تدمر، إذ كان عليه أن يقضي على تلك المرأة المناوئة لعرشه في روما. وقبل أن يغادر أنطاكية كانت جيوش زنوبيا تجابه زحفه إلى تدمر، وكانت الحرب في البداية سجالا، لكنها تعرضت لخذلان حلفائها عند حمص، فعادت إلى تدمر حيث لاحقها أوريليانوس وحاصرها. وعندها، حاولت الاستنجاد بالفرس، وذهبت متخفية لملاقاة هرمز، ملك الفرس. إلا أنها كانت تحت رصد جيوش الرومان، وقبل أن تعبر نهر الفرات قبضوا عليها وأعادوها إلى خيمة أوريليانوس الذي عاد بها إلى روما أسيرة مكبّلة ولكن بأصفاد من الذهب احتراما لمكانتها.
وتتباين الروايات حول ظروف وفاة زنوبيا مثلها مثل تفاصيل حياتها، فتذكر إحدى الروايات أنها لم ترض أن تدخل أسيرة إلى روما، مفضلة أن تفوّت نشوة النصر على أوريليانوس، فتناولت سما كان بخاتمها وهي في الطريق إليها مما أدى لموتها. غير أن رواية أخرى تفيد بأنها أكملت حياتها في تيفولي، إحدى ضواحي روما. وثمة رواية ثالثة تقول إن أحد العملاء حاول قتلها عندما دخل إلى قصرها متخفّيا فلما اكتشفت أمره ابتلعت سمّا كان في خاتمها، وقالت المثل المشهور «بيدي لا بيد عمرو» الذي ينسبه بعضهم إليها حتى اليوم.
وبقي أن نشير إلى أن أبجدية تدمر تتألّف من 22 حرفا تكتب وتقرأ من اليمين إلى اليسار. ووُجدت نقوش بالأبجدية التدمرية في تدمر وفلسطين ومصر ومواطن أخرى من شمال أفريقيا كانت قد سيطرت عليها أو وصلت إليها الحضارة التدمرية. وتشير مراجع تاريخية إلى أنه عثر على نقوش مرقومة بالأبجدية التدمرية في مناطق أبعد من ذلك مثل ساحل البحر الأسود والمجر. ووفق المراجع نفسها، تعود أقدم النقوش التدمرية إلى عام 44 قبل الميلاد، وأحدثها إلى عام 274م.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.