منطقة «القرن الأفريقي» بين الإرهاب والمصالح الاستراتيجية الدولية

جيبوتي لاعب مهم.. وإيران استفادت من علاقاتها بإريتريا

منطقة «القرن الأفريقي» بين الإرهاب والمصالح الاستراتيجية الدولية
TT

منطقة «القرن الأفريقي» بين الإرهاب والمصالح الاستراتيجية الدولية

منطقة «القرن الأفريقي» بين الإرهاب والمصالح الاستراتيجية الدولية

يلعب القرن الأفريقي بحكم موقعه الجيو - استراتيجي دورًا محوريًا مؤثرًا على البحر الأحمر، فهو منطقة ارتباط بين القارة الأفريقية والأوروبية والآسيوية عبر ممر باب المندب، الذي يعتبر شريان التجارة الدولية من المحيط الهندي إلى البحر الأحمر والعكس كذلك. ومن جهة ثانية تعتبر هذه المنطقة الحساسة جوارًا لكل من المملكة العربية السعودية واليمن، وهي امتداد استراتيجي لقناة السويس، كما تصل أهميتها البالغة إلى الأردن من الجهة الشرقية.

يضم القرن الأفريقي كلا من إريتريا وجيبوتي وإثيوبيا والصومال، ويمكن أن يضاف إليهما السودان وكينيا. وهذه مجموعة من الدول يعاني مجملها من وجود ميليشيات مسلحة، وحركات إرهابية.
ولكون المنطقة ذات أهمية استراتيجية، فإن التنافس الدولي حولها أخذ منعطفًا جديدًا مع تحرك العسكري لميليشيات الحوثي، المدعومة من إيران، وانقلابها على الشرعية باليمن. ويأتي ذلك في ظروف إقليمية تشهد هجمات إرهابية قاسية في كثير من دول القرن الأفريقي، خصوصا في الصومال وكينيا التي تنشط فيهما «حركة الشباب» الصومالية الإرهابية، ما تسببت في قتل أكثر من 200 شخص في عملياتها الأخيرة. وكانت العملية الأسوأ بلا شك المذبحة التي نفذتها في جامعة بمدينة غاريسا في كينيا مطلع أبريل (نيسان) الماضي، والتي أسفرت عن قتل نحو 150 شخصًا، وما تبعها من عمليات انتحارية ضد كوادر الأمم المتحدة في مدينة غارويه الصومالية.
وتظهر هذه العودة القوية لـ«حركة الشباب» نوعًا من تزايد قدرتها على التحرك بعدما عانت من تراجع واضح، بجهود حثيثة من القوات الصومالية والأفريقية، والطائرات من دون طيار الأميركية. وكذلك بسبب خلافات التنظيم الداخلية بين «التيار الجهادي العالمي» الذي تزعمه أحمد هادي غودنا، الذي يطالب بتعميم الجهات خارج البلد، والتيار المحلي الصومالي.
فلقد تبنت «حركة الشباب» مسؤولية الهجوم بسيارة مفخخة على مطعم في مقديشو أسفر عن سقوط عشرة قتلى، بتاريخ 21 أبريل 2015، كما قتلت النائب البرلماني عن منطقة بونتلاند سعيد حسين نور في 9 مايو (أيار) 2015 بمدينة غالكايو. كذلك سيطر هذا التنظيم على مناطق جديدة بجنوب الصومال فجر يوم 15 مايو 2015، من ضمنها منطقة أوطغلي وقريتي مبارك ودار السلام وبلدة الشام، بعد مواجهات مع القوات الحكومية.
في ظل هذا الوضع غير المستقر، يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تعمل على تكييف استراتيجيتها مع هذه المستجدات وعلاقتها بتطورات كبيرة تمسّ منطقة «القرن الأفريقي» ودورها الحساس على المستوى الدولي. وتأتي جولة وزير الخارجية جون كيري التي ابتدأت بتاريخ 4 مايو 2015 في كينيا لتؤكد من جديد على أهمية المنطقة بالنسبة للرؤية الأميركية لأمنها القومي، فقد ركز الوزير كيري خلال مباحثاته مع الرئيس الكيني أوهورو كيناتا على مكافحة الإرهاب في «القرن الأفريقي» واستئصال «حركة الشباب» الصومالية. كذلك أعلن كيري عن دعم بلاده لمكتب مفوضية اللاجئين بكينيا بـ45 مليون دولار لمساعدة اللاجئين الصوماليين في كينيا. وفي خطوة لا تخلو من الدلالة قام وزير الخارجية الأميركي في 5 مايو الحالي بزيارة للصومال، وهي الأولى من نوعها لمسؤول رفيع المستوى للجهاز الدبلوماسي الأميركي منذ ثمانينات القرن العشرين. وأجرى كيري في أول زيارة يقوم بها وزير خارجية أميركي إلى جيبوتي، يوم 6 مايو 2015، مباحثات مع الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر غيله، تناولت أهمية منطقة «القرن الأفريقي» والبحر الأحمر. كما جرى التركيز على التعاون والتنسيق في مجالات التعاون الأمني والعسكري، ومكافحة «الإرهاب» وخصوصًا «حركة الشباب». وحرص الوزير الأميركي في خطاب موجه إلى العالم الإسلامي من مسجد سليمان على التأكيد أمام القيادات الدينية والشبابية والنسائية والأكاديميين والإعلاميين التي حضرت خطابه على «الاعتدال الديني» وحاجة العالم والقرن الأفريقي إلى الاستقرار، والتمكين السياسي للشباب وتحسين أوضاعهم الاجتماعية. وجاءت هذه الزيارة في سياقٍ دولي لا يخفي الصراع القائم حاليًا حول جيبوتي، التي تقارب مساحتها 23 ألف كيلومتر، وتطل على مضيق باب المندب ذي الأهمية استراتيجية لدول الجوار والقوى الدولية الكبرى.
ولا يخفى أن هذه العوامل جعلت الولايات المتحدة تسابق الزمن لتطوير العلاقات الثنائية مع هذا البلد الهام، الذي سيستضيف منتدى التعاون الأميركي - الجيبوتي الثاني مطلع بداية 2016. وانسجاما مع الرؤية الأميركية الخاصة بالصراعات الدولية حول الممرّات المائية الدولية الاستراتيجية، كانت الولايات المتحدة قد وقعت مع جيبوتي عام 2003 اتفاقا، يجري بموجبه استخدام المنشآت العسكرية في جيبوتي، ولا سيما المرافق البحرية واتخاذ قاعدة أميركية في حملتها المناهضة للإرهاب في «القرن الأفريقي». وكان قد تم تجديد الاتفاقية الخاصة بقاعدة «لومنييه» أثناء زيارة للرئيس الجيبوتي غيله لواشنطن في الخامس من مايو 2014.
هذا، وتوجد في جيبوتي أيضا مراكز لقواعد عسكرية أجنبية تابعة للقوات الفرنسية واليابانية، علما بأن هذه الأخيرة تمركزت في هذا الموقع الجيو - استراتيجي في أول سماح للقوات اليابانية بالتموضع وبناء القواعد العسكرية خارج تراب اليابان. من جانب آخر لا يستبعد الرئيس الجيبوتي السماح للصين بإقامة قاعدة عسكرية في بلاده إذا رغبت في ذلك، وهو ما يفسّر احتدام الصراع الدولي على هذه الدولة الصغيرة، التي تعد كذلك البوابة البحرية الأساسية لإثيوبيا.
والجدير بالذكر أن ثمة تعاونا وتنسيقا مشتركا بين بعض دول خليج عدن في ما يخص مكافحة الإرهاب، فبتاريخ 4 / 2 / 2014 م انعقد منتدى «خليج عدن الإقليمي الثاني لمكافحة الإرهاب» في جيبوتي لمواجهة تهديدات تنظيم القاعدة و«حركة الشباب». ويأتي هذا الاجتماع تتمة لما تم في عام 2013 في اليمن، وبتمويل من الولايات المتحدة، وقد شاركت فيه وفود رسمية من وزارات الداخلية والدفاع والخارجية لكل من الصومال واليمن وإثيوبيا وجيبوتي، وجرى التركيز على الخطر «الإرهابي» في منطقة خليج عدن، وسبل مواجهته، ومواجهة تجارة السلاح والمشكلات البحرية.
بعد انقلاب ميليشيا الحوثي وقوات علي عبد الله صالح على السلطة الشرعية في اليمن، برزت من جديد الأهمية الجيو - استراتيجية لجيبوتي، وضرورة استثمار ذلك لصالح الأمن القومي والإقليمي الخليجي. وتماشيا مع طبيعة العلاقات السعودية مع هذا البلد، أكد سفير جيبوتي ضياء الدين سعيد بامخرمة لدى الرياض إن بلاده «أيدت التحالف منذ اللحظة الأولى وفتحت مجالها الجوي لعمليات عاصفة الحزم»، وبالتالي، فهي مشاركة في التحالف الذي تقوده العربية السعودية ضد الحوثيين في اليمن.
كذلك قال السفير إنه «لا يفصلنا عن اليمن سوى 22 كلم هي مسافة فوهة مضيق باب المندب الاستراتيجي»، مضيفًا أن «المساعدات المرسلة من دول الخليج سيصار إلى نقلها للمحتاجين في اليمن عبر جيبوتي». ثم علّق قائلاً: «أعتقد أنّه من المهم أنْ يتكاتف المجتمع الدولي مع قيادة تحالف عاصفة الحزم، بأنْ يساعد جيبوتي لتكون المنطلق الرئيسي لوصول المساعدات اللازمة والإنسانية التي يحتاج إليها أهل اليمن بشكل عام».
وفي هذا الإطار يمكن وضع حديث الرئيس الجيبوتي غيله يوم السبت 9 مايو 2015م، عن مخاطر تعزيز «إرهاب القاعدة» نتيجة النزاع في اليمن، وتعهده بدعم السكان الفارين من النزاع. ويذكر أن رؤساء جيبوتي وتنزانيا والصومال وكينيا، وبعض وفود دول أفريقية أخرى، كانوا قد عقدوا اجتماعا أمنيا على مستوى عالٍ، برعاية العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، يوم 19 - 4 - 2015 في ميناء العقبة بالأردن. وناقش هذا الاجتماع، وهو الأول من نوعه بين هذه الدول، سبل التصدي الجماعي للجماعات الإرهابية، وخصوصا في منطقة القرن الأفريقي والشرق الأوسط، وما يتطلبه ذلك من تقوية التنسيق، وتبادل المعلومات بين دول شرق أفريقيا والمملكة الأردنية في هذا المجال.
من جهتها، تسعى دولة الإمارات العربية المتحدة لتقوية القوات الصومالية ضد «حركة الشباب» الإرهابية، إذ دشن رئيس الصومال والسفير الإماراتي يوم 12 - 5 - 2015 مركزا للتدريب العسكري، وقال السفير الإماراتي إن بلاده «قامت ببناء مركز تدريب عسكري يعمل على تدريب أفراد الجيش الصومالي وتخريجه ليكونوا قادرين على مواجهة الإرهاب المتمثل في متمردي حركة الشباب المرتبطة بتنظيم القاعدة والتي تعرقل عملية السلام في البلاد»، في حين أكد الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود أن «الإمارات تكفلت بناءً على حاجتنا إلى الأمن والاستقرار بدعم قوى الأمن والجيش، وهي ستزودها بمعدات عسكرية وتدربها على التصدي لظاهرة الإرهاب».
ولكن رغم الجهود الدولية والعربية الخاصة بمواجهة الإرهاب وضمان الاستقرار في «القرن الأفريقي» وخليج عدن، وكذا تطوير الدول العربية والقوى العالمية الكبرى علاقاتها مع دول «القرن الأفريقي»، فإن ذلك يواجه صعوبات معقدة ناتجة عن تباين التحالفات القائمة بين دول «القرن الأفريقي» والقوى الكبرى، وكذا مع دول مجلس التعاون الخليجي. ومن ذلك طبيعة التحالفات القائمة بين إيران وإريتريا، خصوصا بعد عام 2009م، إذ اتجهت إريتريا لبناء علاقات أمنية وعسكرية مع طهران توجّت بالسماح لـ«الحرس الثوري الإيراني» بإقامة نشاط عسكري انطلاقا من قاعدة عسكرية غير معلنة، وهو ما مكّنه من تدريب آلاف الحوثيين والشيعة العرب الآخرين، كما تمكن «الحرس الثوري» من تهريب كميات وأنواع مختلفة من الأسلحة للداخل اليمني حتى الشهور الأولى من 2015.
ولا بد كذلك من الأخذ بعين الاعتبار أن العلاقات العربية مع منطقة «القرن الأفريقي» جزء من نظام عام من العلاقات الدولية المتباينة الأهداف، والتي تصل إلى حد تناقض المصالح. فلاعتبارات استراتيجية واقتصادية وعسكرية وأمنية تتجه جهود القوى الكبرى الغربية نحو محاصرة الدول الأفرو - عربية وعزلها عن دائرة التأثير في مناطق التوتر، وهو ما ينعكس بشكل سلبي على المصالح العربية، بما فيها تلك الناتجة عن الأنشطة الإرهابية، وخلق الميليشيات المسلحة المهدّد للأمن الخليجي، مما يزيد من قوة إيران الإقليمية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.