تنظيم داعش يهدد بنسف المعالم التاريخية في ليبيا

رئيس مصلحة الآثار لـ«الشرق الأوسط»: أخفينا القطع النادرة وزدنا قوات الحراسة على المدن القديمة

د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي  -  د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية
د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي - د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية
TT

تنظيم داعش يهدد بنسف المعالم التاريخية في ليبيا

د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي  -  د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية
د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي - د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية

ليس مصدر المشكلة التي تواجه الآثار التاريخية في ليبيا تنظيم داعش فقط، بل الكثير من الجماعات والتيارات الأخرى ذات الأفكار المتشددة التي تدور في فلك هذا التنظيم، أو تستغل فتاواه لأغراض تجارية. يقول الدكتور أحمد حسين، رئيس مصلحة الآثار الليبية، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أثناء زيارته للقاهرة، إن المصلحة اضطرت لاتخاذ العديد من الإجراءات لمواجهة احتمال استهداف المتطرفين للمعالم التاريخية كما حدث في العراق وسوريا وغيرهما على يد هذا التنظيم خلال الفترة الماضية، ومن بين هذه الإجراءات إخفاء القطع الأثرية النادرة، وزيادة قوات الحراسة على المدن القديمة.
تولت جماعة الإخوان في ليبيا الحكم من عام 2012 إلى مطلع عام 2014، وبدلا من تأسيس دولة بمؤسسات مسؤولة عن مختلف القطاعات، ومنها الآثار، اتجهت اتجاها آخر منحازا لتقوية الكتائب والميليشيات الخاصة بعد أن انتهت من محاربة نظام العقيد الراحل معمر القذافي. ووقفت الجماعة ضد محاولات عودة الجيش الوطني الليبي للعمل، وبهذا أعطت ما يشبه الضوء الأخضر للمسلحين لكي يثيروا الفوضى في البلاد.
يوجد في هذا البلد النفطي شاسع المساحة موظفون مخضرمون يعملون في مصلحة الآثار، التي تأسست لأول مرة في عهد الاحتلال الإيطالي عام 1914، تحت اسم «إدارة الآثار وتنظيم الحفريات»، بينما ظهر الاسم الرسمي «مصلحة الآثار» المعمول به حاليا منذ عام 1953، أي ما بعد الاستقلال.
حتى قبل ظهور اسم «داعش» في ليبيا كان المتطرفون قد بدأوا يدركون أهمية القطع الأثرية النادرة.. «يفتون بأن هذه الشواهد الرومانية أو البيزنطية حرام، ويفجرونها ويأخذون ما فيها لبيعه للسماسرة»، كما يقول أحد العسكريين الليبيين. يضيف أن بعض الميليشيات كانت تستهدف بالأساس مواقع الأسلحة والآثار، وتستولي عليها. لكنه يشير إلى أنه بعد ظهور «داعش» في عدة مدن ليبية، ومنها درنة وسرت وصبراتة، أصبح التنظيم ينظر للآثار كمصدر بديل للحصول على الأموال، خاصة عقب فشله في السيطرة على آبار النفط.
من جانبه، يقول الدكتور صلاح الدين عبد الكريم، المستشار في الجيش الليبي، لـ«الشرق الأوسط» خلال زيارته للقاهرة، إن المخاطر في ليبيا «هي على كل الأصعدة»، ولكن تظل الآثار وكل ما هو تراث إنساني في ليبيا عرضة للخطر إذا ما استطاعت هذه العصابات الإرهابية من الدواعش وحلفائهم من أدعياء الدين الجديد الوصول للمخزون الثقافي للشعب الليبي، والذي يتمثل في المدن الأثرية القديمة، مثل مدن لبدة وصبراتة وشحات وسوسة وتوكرة وجرزة وغيرها.
ويشير إلى أن الفتوحات الإسلامية حين دخلت شمال أفريقيا حافظت على هذا التراث الإنساني، ولم تستهدفه بالتدمير كما فعل الدواعش الآن في العراق وسوريا. ويقول إنه خلال الشهور الماضية جرى بالفعل استهداف مناطق تضم مقابر تاريخية وجرى مسحها من على الأرض، منها «زوايا سنوسية»، وموقع «عبد السلام الأسمر» في بلدة زليتن، بالإضافة إلى استهداف مساجد قديمة في طرابلس وغيرها.
منذ وقت مبكر من حكم المتطرفين، حيث كان «الإخوان» ومعهم الجماعة الليبية المقاتلة (الموالية لتنظيم القاعدة)، يسيطرون على القرار الحكومي، أدرك موظفو الآثار وجود خطر على القطع النادرة والعملات الذهبية والمصوغات والمخطوطات التاريخية، وغيرها من المحفوظات الثمينة. خلال وجود هذه الحكومة في السلطة بدأ الكثير من موظفي مصلحة الآثار في التذمر من الإهمال، وبدأوا في ذلك الوقت، أي في أواخر 2013، تنظيم الاحتجاجات.
لكن، وبعد مضي نحو عام ونصف العام، يبدو أن الخطر زاد عن السابق بعد أن رصدت أجهزة أمنية ليبية خططا من جانب تنظيم داعش لاستهداف الآثار سواء النسف بالديناميت أو بالسرقة، وقام بتنفيذ بعضها بالفعل خاصة في درنة وسرت. وتوجد آثار تعود لفترات تاريخية مختلفة، لكن العجيب في الأمر هو قيام المتطرفين خلال الفترة الأخيرة بتوجيه معاول الهدم إلى المعالم التاريخية الإسلامية وتفجير زوايا سنوسية ومساجد عثمانية وأضرحة لشخصيات كان لها صيت قبل 700 عام. ودمر المتطرفون مواقع ترتبط بشخصيات تاريخية لها مكانة. ومن بين ما جرى هدمه وتفجيره والاعتداء عليه منطقة «زويلة».
يقول الدكتور حسين، الذي تولى رئاسة مصلحة الآثار في بلاده في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها، إن خارطة الآثار في ليبيا كبيرة ومتشعبة. ويرجع تاريخ بعضها إلى آلاف السنين، وهي تتنوع ما بين حضارات ما قبل التاريخ، وحضارات العصر البرونزي والحضارة الإغريقية والرومانية في شرق ليبيا، والحضارة الفينيقية والرومانية في الغرب، بالإضافة إلى حضارة الأمازيغ والقبائل في عموم البلاد، إلى جانب حضارات العصر الإسلامي التي تمتد على كامل رقعة ليبيا.. وبالتالي ليبيا كنز حضاري منذ آلاف السنين حتى اليوم.
وشجعت فتاوى المتطرفين، وعلى رأسهم تنظيم داعش ضد الآثار في ليبيا، العديد من أصحاب المصالح الاقتصادية والتجارية على مسح مواقع تاريخية من على وجه الأرض واستخدام مكانها في إقامة مبان جديدة أو محال تجارية أو حتى في الزراعة. وعما إذا كان لديه مخاوف من أن يقوم «داعش» بتكرار تجربة ما حدث في العرق من هدم للآثار في ليبيا على نطاق واسع، يؤكد الدكتور حسين قائلا: «نعم بكل تأكيد.. الآثار في ليبيا مهددة بشكل قوي، ونخشى من أن يحدث لها مثل ما حدث للآثار في العراق في ظل تردي الوضع الأمني وفي ظل تراخي المجتمع الدولي عن دعم الجيش الوطني والحكومة الشرعية».
وبعد لحظة من الصمت والتفكير في المأساة التي تمر بها بلاده، ومنها الخطر الذي يواجه ما فيها من معالم تاريخية، يقول رئيس مصلحة الآثار الليبية: «إذا قام المتطرفون بتدمير الموروث الثقافي، فستكون خسارة كبيرة ليس للشعب الليبي فقط، ولكن للعالم. وهذا سيأتي ضمن خسارة كبيرة.. خسارة الوطن ومعه التراث الليبي والإنساني».
عقب استيلاء المتطرفين من جماعة الإخوان وغيرها على طرابلس قاموا بتنصيب مقاتل ليبي سابق في سوريا يدعى مهدي الحاراتي، وهو من قياديي الجماعة الليبية المقاتلة، ليكون عميدا لبلدية العاصمة. في عهده اختفى تمثال «الغزالة والحسناء» الشهير من أحد أهم ميادين العاصمة. جرى الأمر كالآتي: أحضر مجموعة من المتطرفين شاحنة وربطوا التمثال الذي يعود تاريخه لمئات السنين بحبل حتى نزعوه من مكانه ثم نقلوه إلى جهة مجهولة.
استهدف متطرفون آخرون مجموعة من المباني التي تعود للعهد العثماني في طرابلس، منها مسجد أحمد باشا القره مانلي، ومسجد شايب العين، ومدرسة عثمان باشا، وغيرها. وبعد عدة أيام جرى تفجير مقر قديم لشيخ يدعى علي الميرغني في وسط العاصمة. بينما كانت معاول الهدم ومعدات التفجير والسرقة مستمرة في عدد من المدن الأخرى. ويضيف المسؤول العسكري الذي تحدث شريطة عدم ذكر اسمه أن «المتطرفين أنفسهم الذين كانوا يعتدون على الآثار أصبحوا إما ضمن (داعش) أو من الموالين له في الخفاء.. يوجد خطر حقيقي من هؤلاء، خاصة في مدن طرابلس وبنغازي وسوسة وشحات».
وتقول مصادر أمنية ليبية إن أكثر من عشرين موقعا أثريا تعرضت إما للتجريف والهدم، أو السرقة، خاصة في المناطق التي ينشط فيها المتطرفون. ومن بين الآثار التي تعرضت للسرقة في الفترة الأخيرة مجموعة من الأواني الفخارية جرى السطو عليها من متحف السلطان الذي يقع في نطاق مدينة سرت، وهي مدينة يسيطر عليها تنظيم داعش في شمال وسط البلاد. كما تعرض متحفا «سوسة» و«شحات» في شرق ليبيا للسرقة عدة مرات، ومن بين المسروقات أوانٍ ترجع لعصور قديمة ولوحات من الفسيفساء.
السلطات الأمنية الليبية تحقق في اختفاء قطعة أثرية من مدينة شحات القريبة من مدينة البيضاء مقر الحكومة الشرعية، وهي عبارة عن تمثال نادر يبلغ ثمنه نحو خمسة ملايين دولار، يعتقد أنه جرى تهريبه إلى بريطانيا بأوراق مزيفة عبر تونس وتركيا. كما تجري التحقيقات في ملابسات بيع مخطوطات أثرية ليبية في مالطا. بينما تمكن المتطرفون بالفعل من تدمير لوحات فنية يعود تاريخها لنحو عشرة آلاف عام، في منطقة جبلية تسمى «أكاكوس» في جنوب ليبيا.
اشترك الدكتور حسين مع ممثلي دول أخرى بالمنطقة، منها السعودية ومصر، في ملتقى عقد في القاهرة الأسبوع الماضي، يهدف لحماية الآثار التي تتعرض لخطر الاعتداء عليها من الجماعات المتطرفة، خاصة بعد هدم آثار في العراق وسوريا، على يد «داعش»، منها مدينة نمرود التاريخية. يقول: «أردنا أن نطلق جرس إنذار للعالم، لكي يأخذ معنا خطوة إلى الأمام لحماية الموروث الثقافي الذي هو جزء من الموروث العالمي، وبالتالي المسؤولية عن حمايته مسؤولية تضامنية من العالم أجمع».
وعما إذا كانت هناك وعود من المجتمع الدولي لحماية الآثار في ليبيا، يقول الدكتور حسين: «إن موضوع الدعم الدولي لليبيا في هذا المجال، في الحقيقة، لم يتبلور بعد بشكل كامل. حتى برامج اليونيسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) في ليبيا هي ممولة بتمويل ذاتي من حصة ليبيا في هذه المنظمة الدولية، ويُصرف منها على برامج التدريب في ليبيا».
ويوجه رئيس مصلحة الآثار الليبية اللوم للبعثات الأجنبية والمؤسسات الدولية التي يقول إنها «استفادت كثيرا من الموروث الثقافي في ليبيا من خلال الدراسات والأبحاث التي قامت بها في السابق.. واليوم لم نر منها شيئا يذكر، باستثناء البعثة (الأثرية) الأميركية».
يجد العديد من المسؤولين الدوليين صعوبة في الدخول إلى ليبيا بسبب الوضع الأمني المتدهور. قبل عدة أيام اضطر أحد ممثلي منظمة اليونيسكو للاجتماع مع أطراف من مصلحة الآثار الليبية لكن في دولة تونس المجاورة. يقول مبعوث المنظمة، مايكل كروفت، في تصريحات له من تونس، إن اليونيسكو اطلعت على ما تقوم به مصلحة الآثار الليبية من جهود لحماية المعالم التاريخية، مشيرا إلى ضرورة التنسيق قبل عقد أي لقاءات على مستوى دولي بهذا الشأن، وذلك للتعرف على كيفية حماية الآثار من الاعتداءات والتهديدات.
خلال جولة قامت بها «الشرق الأوسط» في وقت سابق في بعض المدن الليبية لوحظ أن هناك من يستغل فتاوى «داعش» والمتطرفين ضد الآثار، وذلك بهدم مبان قديمة مثل المباني الإيطالية والتركية التي يتراوح عمرها بين مائة سنة وثلاثمائة سنة أو أكثر، وبناء أبراج سكنية جديدة محلها. يقول الدكتور حسين إن «هذا موضوع مقلق بالنسبة لنا في مصلحة الآثار وفي جهاز حماية المدن التاريخية».
يضيف أن ليبيا فيها نوعان من الدواعش.. «أصحاب الفكر المتطرف الذين لا يؤمنون بالتاريخ ولا بالحضارة، وبالتالي الاعتداء على الآثار يعد من واجبات هذا النوع من الدواعش. أما النوع الثاني فهم أولئك الأثرياء أصحاب المنافع المادية ممن لا تعني لهم القيمة التراثية أي شيء وبالتالي يسعون وراء المكاسب المادية. فهؤلاء أيضا يستغلون الفوضى ويعملون على إزالة المباني الأثرية والمواقع التاريخية».
الدكتور حسين يتابع موضحا أن هناك الكثير من المستوطنات التاريخية التي جرى تجريفها على أيدي مواطنين وللأسف هم ليبيون.. «جرفوا هذه المواقع واستحدثوا مخططات سكنية. ونحن نعمل كل ما نستطيع لحماية هذه المواقع، لكن هشاشة الوضع الأمني في ليبيا تفرض واقعا غير الذي نريده».
وعن الإجراءات التي اتخذتها مصلحة الآثار لمواجهة الخطر المحتمل، يقول الدكتور حسين: «في الحقيقة هناك تخوف من شيئين.. الأول هو المباني التاريخية والمواقع الأثرية، وهذه بطبيعة الحال لا يمكن نقلها، أما القطع الأثرية التي تحويها المخازن والمتاحف فنحن الآن نعمل على خطة لتأمينها أمنيا وتخزين القطع الثمينة في مخازن آمنة إذا قدرنا الله سبحانه وتعالي على ذلك، ونعتمد اعتمادا كليا على الجيش الليبي في تأمين هذه الآثار».
لكنه يضيف موضحا أن «الجيش الليبي يحتاج إلى دعم من المؤسسات الدولية التي تهتم بالتراث للضغط على حكوماتها من أجل دعم الجيش، ورفع الحظر عن تسليحه. نحن من جانبنا قمنا بكل الإجراءات المتعارف عليها بين الأثريين في حماية وتسجيل وتوثيق وتغليف القطع الأثرية. ما ننتظره الآن هو الدعم الدولي للحماية داخل المتاحف وحماية المباني الأثرية أو من خلال برامج التوعية أو برامج الحفظ والحماية والتدخل وقت الأزمات والحروب، وهذه البرامج سيكون هناك تدريب عليها في وقت قريب جدا، وبهذا نكون كليبيين أكملنا ما هو مطلوب منا تجاه حماية الآثار، والباقي ننتظره من العالم الخارجي».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.