التنظيمات الصحافية المغربية في زمن التنكر لمهنة الإعلام كصناعة

كثيراً ما تطرح في المشهد الإعلامي المغربي تساؤلات حول الدور الذي تضطلع به التنظيمات الصحافية في ظل التحولات الراهنة التي عمقها التطور التكنولوجي وفاقمتها الثورة الرقمية التي أرخت بظلالها على مختلف مناحي الحياة.
وتتراوح وجهات النظر إزاء هذه التنظيمات والفاعلين الإعلاميين بين مَن يدعو إلى الانخراط في هذه التحوّلات بالانفتاح على الواقع الجديد الذي تفرضه المتغيرات الإعلامية، ومع ما أضحت تطرحه من أسئلة جديدة لم تكن معهودة في الماضي، وبين مَن يطالب بتحصين المهنية والحفاظ على المكتسبات في مواجهة ما قد تفرزه الثورة الرقمية من تحديات وسلبيات.
كثيرون يرون أن المنظمات الصحافية التمثيلية وهيئات التقنين في زمن التحولات المجتمعية والرقمية تبقى أكثر من ضرورية لمواجهة خطر تمييع كل ما هو مؤسساتي، والتمزيق الشامل للقواعد والأخلاقيات المهنية.

«دخلاء» على الإعلام
في سياق ذلك، يقول عبد الكبير خشيشن، رئيس المجلس الفيدرالي للنقابة الوطنية للصحافة المغربية: «هناك تسيّد للتفاهة وتنكر لمهنة الإعلام كصناعة، وتعويض ولوجها من نوافذ التعلم والحرفية بهواية تضمن الولوج إليها من باب ادعاء حرية التعبير».
وأعرب خشيشن عن اعتقاده الراسخ بأن «النتيجة تكون بالضرورة مجزرة في حق المهنة والمهنية، إلى درجة اختلط على المتلقي التمييز بين هوية الصحافي والإعلامي، وهويات جديدة نظير الناشط في مواقع التواصل الاجتماعي، والمدوّن وصانع المحتوى، فجرى استهداف المهنة من دون أن يتعرض هؤلاء الدخلاء للمساءلة».
بخلاف ذلك، يذهب سعيد السلامي، الخبير في الإعلام والحق في الحصول على المعلومات، إلى القول لـ«الشرق الأوسط»، إن منظمات ونقابات الصحافيين وهيئات مديري الصحافة «تركز على إشكالية أخلاقيات الصحافة التي تتخذها ذريعة لمهاجمة ما يطلق عليهم اسم الصحافيين المواطنين الذين أصبحوا يستقطبون جمهوراً عريضاً بالفضاء الأزرق الافتراضي ويحققون السبق في تقديم الأخبار الفورية». وللعلم، بلغ عدد من الصحافيين المهنيين الحاصلين على بطاقة الصحافة التي يمنحها المجلس الوطني للصحافة 3394 صحافياً وصحافية. وحتى سبتمبر (أيلول) الماضي، لم تستأنف سوى 72 جريدة ورقية صدورها بعد جائحة «كوفيد – 19»من بين 246 جريدة، في حين استمرت باقي الجرائد في الإصدار الرقمي المجاني.
ويرى السلامي أن الهيئات الصحافية التمثيلية «تتبنى في مواجهة هذه التحولات الإعلامية المتسارعة خطاباً تسويقياً يبدو في ظاهره يصبو لحماية المهنة، في مرحلة تتراجع فيها مبيعات الصحف الورقية وتقل مواردها المالية، ما يدفع هذه التنظيمات لمطالبة الدولة باستمرار بالرفع من دعمها المالي».

تغيّر قواعد الإعلام
خشيشن يقرّ بأن الزمن الرقمي غيّر من كل قواعد الإعلام والتواصل، لكن ذلك - في نظره - «لا يعني الاستسلام داخل المهنة، بل وجب على كل الهيئات أن تسهم في تحسيس المهنيين بضرورة تطوير أدواتهم وطرق اشتغالهم لملء الفراغ الذي ينشط فيه الذين يدّعون تعويض الصحافيين والإعلاميين... وفي الوقت ذاته، سن القوانين التي تمنح لهذه المهنة هويتها، بالفصل بين حرية التعبير وممارسة مهنة الصحافة كصناعة لها قواعدها ومسؤوليتها تجاه المجتمع، وعلى رأسها الحفاظ على أخلاقيات المهنة». ومن ثم، يضيف أن «المنظومة الإعلامية في حاجة للمراجعة، وذلك كي يشعر الصحافيون بجدوى الالتحاق بهذه المهنة التي لم يعد فيها ما يغري جيل الشباب. وهذا ما فتح المجال لفوضى المعاهد الخاصة لبيع دبلومات جهل بالصحافة، وخلق ضحايا من الصحافيين المفترضين»، ويخلص خشيشن إلى القول: «لا يمكن في ظل هذه البيئة تطوير المهنة ولا حفظ كرامة الصحافيين المهنيين».

تقوية قدرات الصحافيين
في سياق متصل، يوضح سامي المودني، رئيس المنتدى المغربي للصحافيين الشباب، لـ«الشرق الأوسط»، أنه «يجب التمييز بين الهيئات التمثيلية الصحافية وجمعيات مدنية تضم في صفوفها صحافيين وتشتغل على قضايا الإعلام في شموليتها، انطلاقاً من مرجعية إعلامية معينة». ويردف المودني أن «لكل واحدة من هذه الهيئات منطقها وأسلوبها في الاشتغال»، مشيداً بـ«الجهود المنجزة من طرف مختلف المتدخلين، لا سيما في ظل التطورات المتسارعة العميقة التي يعرفها الإعلام دولياً... وهو ما يتطلب قدرات الصحافيات والصحافيين في مجالات متعددة كصحافة البيانات وصحافة فحص الحقائق ومحاربة الأخبار الزائفة وصحافة الحلول والصحافة الإنسانية. ثم يعبر المودني عن اعتقاده الراسخ بأن عملاً كهذا «يفرض توفير الإمكانات المادية والبشرية من أجل إنجاز هذا البرنامج الشامل، مع بذل جميع المتدخلين، من جميع المواقع وعلى مختلف المسؤوليات المرتبطة بالشأن الإعلامي، مجهوداً مضاعفاً».

ضعف الانتساب للنقابات
من جهته، يلفت محمد الوافي، رئيس الجامعة الوطنية للصحافة والإعلام والاتصال، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن التنظيمات الصحافية، تعاني حالياً من «الانعكاسات السلبية للعولمة المتوحشة، وكذلك من ضعف الانتساب للنقابات وعزوف الإعلاميين عن العمل التنظيمي بصفة عامة، وهي ظاهرة عامة وليست خاصة بالمغرب».
ويرى الوافي أن التحدي المطروح على الهيئات المعنية بتأطير وتنظيم الصحافيين يتمثل برفع نسبة انخراط الإعلامي في العمل الجماعي، وهو «ما يتطلب الدفاع، بل الاستماتة، حتى تكون جديرة بالصفة التي تؤهلها للدفاع عن المصالح المادية والمعنوية لمهنيي الإعلام». أما التحدي الآخر فيتمثل في «ضعف الحقل الإعلامي». لكن الوافي يوضح أن «هناك في المقابل قراءة أكثر تفاؤلاً، تعتقد أن التحولات الرقمية والمجتمعية تسير في اتجاه دمقرطة كل من الإعلام والوصول إلى المعلومات من لدن المواطنين أينما وجدوا». ثم يتساءل: «كيف في ظل ذلك يمكن أن نحافظ على منظمات قوية لها تمثيلية؟ وكيف نحافظ على المهنة من الشوائب؟ لا سيما أن هذا صراع كبير، ومعركة طويلة النفس، وتحديات الثورة الرقمية ألقت بظلالها... غير أن الهيئات والمنظمات الصحافية، لم تقل كلمتها بعد». وعودة إلى المودني، الذي يصف العمل الذي تقوم به الهيئة العليا للاتصال المسموع والمرئي (الهاكا) بـ«المرجعي» على الصعيدين الإقليمي والدولي بحكم التجربة التي راكمتها كمؤسسة وطنية. إلا أنه يستدرك قائلاً: «نحن الآن أمام رهان يتعلق أساساً بتجويد الممارسة الإعلامية المسموعة والمرئية عبر التفاعل الإيجابي مع التوصيات التي تصدرها الهيئة من جهة، وتجويد إطارها القانوني من جهة أخرى، بشكل يضمن أكبر قدر من تعددية تيارات الفكر والرأي في المجتمع».

                                                                                               سامي المودني
فضاء أكثر انفتاحاً

محمد الوافي يدعو إلى تعديل قانون المسموع والمرئي ومراجعة عقد البرنامج ودفاتر تحملات القطاع الإذاعي والتلفزيوني، وملاءمة ذلك مع المتغيرات الجديدة بإشراك المهنيين بمختلف وسائل الإعلام... حتى يصبح قرار تحرير الفضاء المسموع - المرئي أكثر انفتاحاً، مع دعم مجهودات المجلس الوطني للصحافة، الذي ما زال في بداياته، باعتباره مكسباً للتنظيم الذاتي لمهنة الصحافة. ويرى أن الحكومة والبرلمان والمؤسسات الإعلامية مطالبة بـ«التفاعل الإيجابي مع ما يصدره المجلس الوطني للصحافة من توصيات وجيهة»، مع أنه في حاجة لمراجعة عميقة لإطاره التشريعي والتنظيمي كي يواكب التطورات الإعلامية وطنياً ودولياً.
في المقابل، يقول سعيد السلامي إنه «ليس من اختصاص الحكومات أن تقرّر من يكون وأو لا يكون صحافياً، كما ليس من اختصاصها أن تقوم بتقييد شكلي أو قانوني لكل من يريد ممارسة الصحافة، وهو المبدأ الذي ينص عليه ميثاق حرية الإعلام الذي وقعت عليه في الدار البيضاء، عام 2016، النقابة الوطنية للصحافة المغربية والفيدرالية المغربية لناشري الصحف والجمعيات والنقابات التابعة للأحزاب السياسية المغربية». ويضيف أن حرية الجمعيات «تعد حقاً إنسانياً أساسياً، وأن للصحافيين كامل الحرية في اختيار الجمعيات والنقابات التي ينتسبون إليها...».

ترسانة قانونية وتنظيمية
أخيراً، من أجل الارتقاء بمستوى المشهد الإعلامي، يقول عبد الكبير خشيشن إنه «حان الوقت وسط هذه المتغيرات، خصوصاً في الجانب الرقمي وتبعاته، لأن نعيد قراءة هذه المنظومة... سواءً على مستوى قانون الصحافة والنشر، أو النظام الأساسي للصحافيين المهنيين، وكذلك القانون المحدث للمجلس الوطني للصحافة... وهذا على الرغم من تحقيق خطوات مهمة في إصلاح القوانين خلال العقدين الأخيرين، وتمكين الصحافيين من ترسانة قانونية تحفظ لهم كرامتهم المعنوية والمادية». وفي الاتجاه ذاته، يشدد الوافي على ضرورة توفير ترسانة قانونية منسجمة ومتكاملة وقوية في مجال الصحافة والإعلام والاتصال. ويضيف: «بات لزاماً إدخال تعديلات على مدونة الصحافة والنشر حتى تصبح أكثر انفتاحاً.
إذ ما زال للصحافي دور خاص في المجتمعات التي تشبه المغرب، على أساس أن يتسلح بالصدق والموضوعية وروح التضحية في نقل الأخبار والمساهمة في الأسس التي يقوم عليها المجتمع الديمقراطي، منها تنوير الرأي العام».