جاك بوفريس يفنّد فكر ميشيل فوكو

«صواعق نيتشه وعمايات التلامذة والأتباع» صدر قبل أسابيع قليلة بعد موته

جاك بوفريس يفنّد فكر ميشيل فوكو
TT

جاك بوفريس يفنّد فكر ميشيل فوكو

جاك بوفريس يفنّد فكر ميشيل فوكو

من سمع باسم جاك بوفريس الذي رحل عن هذا العالم قبل بضعة أشهر فقط؟ الأرجح لا أحد. نقول ذلك على الرغم من أنه فيلسوف مهم بل أهم من تلك الأسماء الكثيرة التي تطنطن بها وسائل الإعلام العربية والفرنسية. ولكنه كان يشتغل في الظل والصمت بعيداً عن الأضواء. كان أستاذاً للفلسفة في «الكوليج دو فرنس» التي هي أعلى من السوربون والتي تضم نخبة علماء فرنسا ومفكريها الكبار. وقد خلّف وراءه مؤلفات كثيرة ولكن عويصة على الفهم اللهمّ ما عدا الكتابين الأخيرين لحسن الحظ: «نيتشه ضد فوكو - مقالات حول الحقيقة، والمعرفة، والسلطة»، 2016. وأما الآخر الذي صدر قبل أسابيع قلائل بعد موته فكان بعنوانٍ أكثر هجوميةً واندفاعاً: «صواعق نيتشه وعمايات التلامذة والأتباع»، 2022. هنا يشن جاك بوفريس هجوماً صاعقاً على الفلاسفة الفرنسيين المشاهير الذين سيطروا على الساحة الفرنسية في ستينات وسبعينات القرن الماضي وبالأخص فوكو وديلوز ودريدا ويتهمهم بالوقوع في فخ النسبوية والعدمية وتشكيل فهم مغلوط عن نيتشه وفلسفته. فلندخل في التفاصيل إذن وليصبر عليَّ القارئ قليلا لكي يفهم هذه الإشكاليات العويصة. فالنتيجة النهائية تستحق كل هذا التعب والعناء. وربما كانت توجد هنا أرفع وأخطر مناقشة فلسفية في عصرنا الراهن. نعم المسألة خطيرة بل أخطر من خطيرة وتستحق الاهتمام البالغ لأنها تخص مسألة الحقيقة، والمعرفة، والسلطة، والعلاقات الكائنة بينها. هل الحقيقة مستقلة عن السلطة أم لا؟ هل للمعرفة الموضوعية وجود حقيقي أم لا؟ هل توجد معرفة موضوعية أم أن كل شيء ذاتيّ، نسبويّ، مزاجيّ، في هذا العالم؟

كان الكثيرون يقيمون التمييز بين فوكو الأميركي وفوكو الفرنسي باعتبار أن الأول الذي سيطر في فترة ما على الجامعات الأميركية كان أكثر عقلانية من الثاني فيما يخص معالجة مسألة العقل، والحقيقة، والجنون. ولكن جاك بوفريس يعتقد أن فوكو الفرنسي هو الأقرب إلى فوكو الحقيقي وليس فوكو الأميركي الذي فبركوه فبركةً لكي يجعلوه مقبولاً ومحترماً. فوكو الحقيقي كان شخصاً نسبوياً، عدمياً، لا عقلانياً، هيجانياً، جنونياً. نقطة على السطر. كان شخصاً يعتقد أنه ينبغي التخلص من مفهوم الحقيقة العامة والمعرفة الموضوعية مرة واحدة وإلى الأبد. باختصار شديد كان فيلسوفاً فوضوياً بل خطيراً جداً. لماذا؟ لأنه أقام التطابق الكامل بين الحقيقة والسلطة، أو بين إرادة الحقيقة وإرادة القوة. فالسلطة هي الحقيقة أو هي التي تفبرك الحقيقة، وبالتالي لا توجد حقيقة موضوعية في هذا العالم ولا من يحزنون. القوة هي التي تخلق الحقيقة ولا يمكن فصل هذه عن تلك. إذا كنت أمتلك القوة فإنني أستطيع أن أفرض عقيدتي عليك وعلى الجميع كأنها حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش. بهذا المعنى فهو يعتقد أن الحقيقة ما هي إلا محصلة لعلاقات السلطة المتغيرة والمتحولة عبر التاريخ. وعلى هذا النحو يتحدث فوكو عن عملية إنتاج الحقيقة أو فبركة الحقيقة. ولكنّ جاك بوفريس يعتقد أن فوكو وقع ضحية الخلط بين الحقيقة الحقيقية و«الحقيقة» السوسيولوجية أو الاجتماعية الجماعية. كما أنه وقع ضحية الخلط بين الحقيقة والاعتقاد الإيماني الدوغمائي. وهما شيئان مختلفان تماماً، وما كان ينبغي أن يخلط بينهما. فمن المعلوم أن المجتمع، أي مجتمع، يولّد أفكاراً ضخمة أو آراء شائعة أو كليشيهات عمومية على أساس أنها حقائق كبرى في حين أنها مجرد اعتقادات اجتماعية وإشاعات تشبع شهوات الرأي العام ليس إلا. هناك أكاذيب كبرى أو أوهام كبرى يعيش عليها المجتمع وهو بحاجة إليها لكي يعيش ويستمر في العيش. وهو يفرض هذه الأوهام السوسيولوجية كأنها حقائق حقيقية. المجتمع لا يعيش على الحقيقة الحقيقية فقط! وإنما هو بحاجة إلى أوهام وخيالات وأكاذيب كبرى مزركشة تتخذ شكل الحقيقة. ولكن الفلاسفة الكبار يكشفون النقاب عن هذه الأوهام لاحقاً ويعرّونها لكي تنبجس الحقيقة من تحت ركام العصور. إذن فهناك فرق أساسي بين المعرفة العلمية الموضوعية من جهة والاعتقادات الضخمة الشائعة ولكن الخاطئة من جهة أخرى. لنفكر هنا ولو للحظة بالأحكام السلبية المسبقة التي تشكلها المخيلة الفرنسية مثلاً عن العرب والمسلمين عموماً. فهي تشكّل حقائق راسخة بالنسبة للشعب الفرنسي ولكنها في الواقع أبعد ما تكون عن الحقيقة الموضوعية. إنها مجرد أوهام وكليشيهات وإشاعات في معظمها. وقل الأمر ذاته عن جهتنا أيضاً. فنحن نعتقد مثلاً أن كل امرأة فرنسية عاهرة أو مومس أو داعرة في حين أن حقيقة الأمر ليست كذلك. فهي لا تعطي نفسها إلا إذا عشقت وأحبت فعلاً. وهذا ما لم يفهمه ذلك الأحمق الجاهل المتهور الذي ما إن رأى أحداهن في المطبخ المشترك للمدينة الجامعية حتى شدها من يدها بقوة لكي تصعد معه إلى الغرفة معتقداً أن الأمر تحصيل حاصل. أليست المرأة الفرنسية سهلة بما يكفي أن تومئ لها بإصبعك الصغيرة لكي تلحقك إلى غرفة النوم؟ فإذا بها تنظر إليه نظرة معينة جمّدت الدماء في عروقه فانسحب بسرعة لا يكاد يرى أمامه، طالباً النجاة والسلامة. كان ذلك في مدينة بيزانسون الفرنسية. ولا يزال هذا الشخص الصغير يشعر بالخجل والعار من فعلته تلك حتى بعد مرور أكثر من أربعين سنة على حصولها!
وقسْ على ذلك معظم الأحكام السلبية المسبقة التي تشكّلها الشعوب بعضها عن بعض. بل حتى داخلنا نحن العرب بالذات: ما الكليشيهات السوداء المرعبة التي يشكّلها الشيعة عن السنة أو العكس؟ أو تلك التي يشكّلها المسلمون عن المسيحيين أو العكس؟ شيء مخيف. أين هي الحقيقة الموضوعية في كل ذلك؟ إذن، فعلى عكس ما يزعم فوكو هناك حقيقة موضوعية وهناك «حقيقة» سوسيولوجية جماعية: أي كذبة أو إشاعة أو كليشيهات تفرض نفسها كحقيقة وهي ليست كذلك.
أتوقف هنا لحظة لكي أقول ما يلي: الخطأ الكبير الذي ارتكبه إدوارد سعيد هو أنه اعتمد على نظرية فوكو لتحطيم الاستشراق. لقد ضلله فوكو لأنه كان آنذاك في أوج شهرته ومجده، كان قد تحول إلى أسطورة في الساحة الباريسية والأميركية والعالمية. وأصبح كلامه كأنه منزّل ومعصوم. فالاستشراق الأكاديمي الرفيع المستوى ليس ناتجاً عن السلطة الكولونيالية كما يعتقد سعيد وإنما ناتج عن الفضول المعرفي الذي يسكن جوانح كل إنسان، فما بالك بالعلماء الأفذاذ من أمثال نولدكه وجوزيف شاخت وغولدزيهر وبلاشير ومونتغمري وعشرات غيرهم من الأعلام الكبار؟ وحده الاستشراق المسيّس السطحي مرتبط مباشرةً بالسلطات الاستعمارية ولا يقدم أي إضاءة علمية جديدة. لقد أنتج الاستشراق الأكاديمي الرصين معرفة ضخمة عن التراث الإسلامي. ولا نستطيع أن نشطب عليها بجرة قلم إلا إذا أراد القوم أن يبقوا على جهالاتهم يعمهون. لقد تهور إدوارد سعيد، إذ نقل نظرية فوكو المتهورة هي الأخرى أيضاً إلى ساحة الاستشراق ككل. وبالتالي فلا ينبغي الربط بشكل أتوماتيكي بين المعرفة والسلطة، أو إرادة المعرفة وإرادة القوة. وذلك لأن المعرفة العلمية الموضوعية مستقلة عن السلطة والقوة وليست ناتجة عنهما مباشرةً كما يزعم فوكو. السلطة ليست الحقيقة والحقيقة ليست السلطة يا ميشيل فوكو! هذا الهذيان ينبغي أن يتوقف لأنه يعني بكل بساطة التضحية بمفهوم الحقيقة والموضوعية العلمية والمعرفة الصحيحة وكل شيء. من هنا خطورة فوكو التي انكشفت للعيان بعد أن تبخرت أسطورته على يد جاك بوفريس وسواه.
بعد أن وصلت في الحديث إلى هذه النقطة لا أملك إلا أن أطرح هذا السؤال: لماذا كان فوكو يريد التضحية بمفهوم الحقيقة؟ لماذا كان يريد تمييع مفهوم الحقيقة واعتباره مجرد إفرازات للسلطة وعلاقات القوة والهيمنة؟ لماذا كان يريد نزع هالة القداسة عن مفهوم الحقيقة؟ لا أتجرأ على كشف السبب خوفاً من إساءة الفهم. بلى سوف أتجرأ وأقول ما يلي: بما أن فوكو كان مثلياً شذوذياً بشكل قاطع فلم تكن له مصلحة في التفريق بين الصح والخطأ، أو بين الحقيقة واللا حقيقة، أو بين الذوق السليم والذوق المنحرف. لم تكن له مصلحة في الاعتراف بوجود شيء اسمه حقيقة في مجال الحب والجنس، ولا وجود معرفة موضوعية في هذا العالم. كان من مصلحته العكس تماماً: أي القول بأن الشذوذ الجنسي مشروع تماماً مثل الجنس الطبيعي بين الرجل والمرأة. وزواج الرجل من الرجل حق مشروع مثل زواج الرجل من المرأة. هذا يتساوى مع ذاك. و«ما حدا أحسن من حدا». لهذا السبب نقول إنه كان نسبوياً، عدمياً، إباحياً. كان من مصلحته تمييع الأمور والقضاء بشكل مبرم على مفهوم الحقيقة الموضوعية في مجال الجنس وغير الجنس. بل ربما كان يعتقد في قرارة نفسه أن الشذوذ هو الحقيقة الموضوعية المطلقة! لذلك أقول إن فوكو خطير وينبغي أن يسقط فكره في بعض جوانبه على الأقل. قائل هذا الكلام كان من أكبر المعجبين بميشيل فوكو في السنوات الباريسية الأولى. ولكن ما كنت قد فهمته على حقيقته بعد. يضاف إلى ذلك أنه كاتب كبير ذو أسلوب نيتشوي، بركاني، متفجر، تصعب مقاومته. كل من يعرف اللغة الفرنسية يفهم ما أقول. ونحن العرب قوم يطربون لسحر البيان.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!