جاك بوفريس يفنّد فكر ميشيل فوكو

«صواعق نيتشه وعمايات التلامذة والأتباع» صدر قبل أسابيع قليلة بعد موته

جاك بوفريس يفنّد فكر ميشيل فوكو
TT

جاك بوفريس يفنّد فكر ميشيل فوكو

جاك بوفريس يفنّد فكر ميشيل فوكو

من سمع باسم جاك بوفريس الذي رحل عن هذا العالم قبل بضعة أشهر فقط؟ الأرجح لا أحد. نقول ذلك على الرغم من أنه فيلسوف مهم بل أهم من تلك الأسماء الكثيرة التي تطنطن بها وسائل الإعلام العربية والفرنسية. ولكنه كان يشتغل في الظل والصمت بعيداً عن الأضواء. كان أستاذاً للفلسفة في «الكوليج دو فرنس» التي هي أعلى من السوربون والتي تضم نخبة علماء فرنسا ومفكريها الكبار. وقد خلّف وراءه مؤلفات كثيرة ولكن عويصة على الفهم اللهمّ ما عدا الكتابين الأخيرين لحسن الحظ: «نيتشه ضد فوكو - مقالات حول الحقيقة، والمعرفة، والسلطة»، 2016. وأما الآخر الذي صدر قبل أسابيع قلائل بعد موته فكان بعنوانٍ أكثر هجوميةً واندفاعاً: «صواعق نيتشه وعمايات التلامذة والأتباع»، 2022. هنا يشن جاك بوفريس هجوماً صاعقاً على الفلاسفة الفرنسيين المشاهير الذين سيطروا على الساحة الفرنسية في ستينات وسبعينات القرن الماضي وبالأخص فوكو وديلوز ودريدا ويتهمهم بالوقوع في فخ النسبوية والعدمية وتشكيل فهم مغلوط عن نيتشه وفلسفته. فلندخل في التفاصيل إذن وليصبر عليَّ القارئ قليلا لكي يفهم هذه الإشكاليات العويصة. فالنتيجة النهائية تستحق كل هذا التعب والعناء. وربما كانت توجد هنا أرفع وأخطر مناقشة فلسفية في عصرنا الراهن. نعم المسألة خطيرة بل أخطر من خطيرة وتستحق الاهتمام البالغ لأنها تخص مسألة الحقيقة، والمعرفة، والسلطة، والعلاقات الكائنة بينها. هل الحقيقة مستقلة عن السلطة أم لا؟ هل للمعرفة الموضوعية وجود حقيقي أم لا؟ هل توجد معرفة موضوعية أم أن كل شيء ذاتيّ، نسبويّ، مزاجيّ، في هذا العالم؟

كان الكثيرون يقيمون التمييز بين فوكو الأميركي وفوكو الفرنسي باعتبار أن الأول الذي سيطر في فترة ما على الجامعات الأميركية كان أكثر عقلانية من الثاني فيما يخص معالجة مسألة العقل، والحقيقة، والجنون. ولكن جاك بوفريس يعتقد أن فوكو الفرنسي هو الأقرب إلى فوكو الحقيقي وليس فوكو الأميركي الذي فبركوه فبركةً لكي يجعلوه مقبولاً ومحترماً. فوكو الحقيقي كان شخصاً نسبوياً، عدمياً، لا عقلانياً، هيجانياً، جنونياً. نقطة على السطر. كان شخصاً يعتقد أنه ينبغي التخلص من مفهوم الحقيقة العامة والمعرفة الموضوعية مرة واحدة وإلى الأبد. باختصار شديد كان فيلسوفاً فوضوياً بل خطيراً جداً. لماذا؟ لأنه أقام التطابق الكامل بين الحقيقة والسلطة، أو بين إرادة الحقيقة وإرادة القوة. فالسلطة هي الحقيقة أو هي التي تفبرك الحقيقة، وبالتالي لا توجد حقيقة موضوعية في هذا العالم ولا من يحزنون. القوة هي التي تخلق الحقيقة ولا يمكن فصل هذه عن تلك. إذا كنت أمتلك القوة فإنني أستطيع أن أفرض عقيدتي عليك وعلى الجميع كأنها حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش. بهذا المعنى فهو يعتقد أن الحقيقة ما هي إلا محصلة لعلاقات السلطة المتغيرة والمتحولة عبر التاريخ. وعلى هذا النحو يتحدث فوكو عن عملية إنتاج الحقيقة أو فبركة الحقيقة. ولكنّ جاك بوفريس يعتقد أن فوكو وقع ضحية الخلط بين الحقيقة الحقيقية و«الحقيقة» السوسيولوجية أو الاجتماعية الجماعية. كما أنه وقع ضحية الخلط بين الحقيقة والاعتقاد الإيماني الدوغمائي. وهما شيئان مختلفان تماماً، وما كان ينبغي أن يخلط بينهما. فمن المعلوم أن المجتمع، أي مجتمع، يولّد أفكاراً ضخمة أو آراء شائعة أو كليشيهات عمومية على أساس أنها حقائق كبرى في حين أنها مجرد اعتقادات اجتماعية وإشاعات تشبع شهوات الرأي العام ليس إلا. هناك أكاذيب كبرى أو أوهام كبرى يعيش عليها المجتمع وهو بحاجة إليها لكي يعيش ويستمر في العيش. وهو يفرض هذه الأوهام السوسيولوجية كأنها حقائق حقيقية. المجتمع لا يعيش على الحقيقة الحقيقية فقط! وإنما هو بحاجة إلى أوهام وخيالات وأكاذيب كبرى مزركشة تتخذ شكل الحقيقة. ولكن الفلاسفة الكبار يكشفون النقاب عن هذه الأوهام لاحقاً ويعرّونها لكي تنبجس الحقيقة من تحت ركام العصور. إذن فهناك فرق أساسي بين المعرفة العلمية الموضوعية من جهة والاعتقادات الضخمة الشائعة ولكن الخاطئة من جهة أخرى. لنفكر هنا ولو للحظة بالأحكام السلبية المسبقة التي تشكلها المخيلة الفرنسية مثلاً عن العرب والمسلمين عموماً. فهي تشكّل حقائق راسخة بالنسبة للشعب الفرنسي ولكنها في الواقع أبعد ما تكون عن الحقيقة الموضوعية. إنها مجرد أوهام وكليشيهات وإشاعات في معظمها. وقل الأمر ذاته عن جهتنا أيضاً. فنحن نعتقد مثلاً أن كل امرأة فرنسية عاهرة أو مومس أو داعرة في حين أن حقيقة الأمر ليست كذلك. فهي لا تعطي نفسها إلا إذا عشقت وأحبت فعلاً. وهذا ما لم يفهمه ذلك الأحمق الجاهل المتهور الذي ما إن رأى أحداهن في المطبخ المشترك للمدينة الجامعية حتى شدها من يدها بقوة لكي تصعد معه إلى الغرفة معتقداً أن الأمر تحصيل حاصل. أليست المرأة الفرنسية سهلة بما يكفي أن تومئ لها بإصبعك الصغيرة لكي تلحقك إلى غرفة النوم؟ فإذا بها تنظر إليه نظرة معينة جمّدت الدماء في عروقه فانسحب بسرعة لا يكاد يرى أمامه، طالباً النجاة والسلامة. كان ذلك في مدينة بيزانسون الفرنسية. ولا يزال هذا الشخص الصغير يشعر بالخجل والعار من فعلته تلك حتى بعد مرور أكثر من أربعين سنة على حصولها!
وقسْ على ذلك معظم الأحكام السلبية المسبقة التي تشكّلها الشعوب بعضها عن بعض. بل حتى داخلنا نحن العرب بالذات: ما الكليشيهات السوداء المرعبة التي يشكّلها الشيعة عن السنة أو العكس؟ أو تلك التي يشكّلها المسلمون عن المسيحيين أو العكس؟ شيء مخيف. أين هي الحقيقة الموضوعية في كل ذلك؟ إذن، فعلى عكس ما يزعم فوكو هناك حقيقة موضوعية وهناك «حقيقة» سوسيولوجية جماعية: أي كذبة أو إشاعة أو كليشيهات تفرض نفسها كحقيقة وهي ليست كذلك.
أتوقف هنا لحظة لكي أقول ما يلي: الخطأ الكبير الذي ارتكبه إدوارد سعيد هو أنه اعتمد على نظرية فوكو لتحطيم الاستشراق. لقد ضلله فوكو لأنه كان آنذاك في أوج شهرته ومجده، كان قد تحول إلى أسطورة في الساحة الباريسية والأميركية والعالمية. وأصبح كلامه كأنه منزّل ومعصوم. فالاستشراق الأكاديمي الرفيع المستوى ليس ناتجاً عن السلطة الكولونيالية كما يعتقد سعيد وإنما ناتج عن الفضول المعرفي الذي يسكن جوانح كل إنسان، فما بالك بالعلماء الأفذاذ من أمثال نولدكه وجوزيف شاخت وغولدزيهر وبلاشير ومونتغمري وعشرات غيرهم من الأعلام الكبار؟ وحده الاستشراق المسيّس السطحي مرتبط مباشرةً بالسلطات الاستعمارية ولا يقدم أي إضاءة علمية جديدة. لقد أنتج الاستشراق الأكاديمي الرصين معرفة ضخمة عن التراث الإسلامي. ولا نستطيع أن نشطب عليها بجرة قلم إلا إذا أراد القوم أن يبقوا على جهالاتهم يعمهون. لقد تهور إدوارد سعيد، إذ نقل نظرية فوكو المتهورة هي الأخرى أيضاً إلى ساحة الاستشراق ككل. وبالتالي فلا ينبغي الربط بشكل أتوماتيكي بين المعرفة والسلطة، أو إرادة المعرفة وإرادة القوة. وذلك لأن المعرفة العلمية الموضوعية مستقلة عن السلطة والقوة وليست ناتجة عنهما مباشرةً كما يزعم فوكو. السلطة ليست الحقيقة والحقيقة ليست السلطة يا ميشيل فوكو! هذا الهذيان ينبغي أن يتوقف لأنه يعني بكل بساطة التضحية بمفهوم الحقيقة والموضوعية العلمية والمعرفة الصحيحة وكل شيء. من هنا خطورة فوكو التي انكشفت للعيان بعد أن تبخرت أسطورته على يد جاك بوفريس وسواه.
بعد أن وصلت في الحديث إلى هذه النقطة لا أملك إلا أن أطرح هذا السؤال: لماذا كان فوكو يريد التضحية بمفهوم الحقيقة؟ لماذا كان يريد تمييع مفهوم الحقيقة واعتباره مجرد إفرازات للسلطة وعلاقات القوة والهيمنة؟ لماذا كان يريد نزع هالة القداسة عن مفهوم الحقيقة؟ لا أتجرأ على كشف السبب خوفاً من إساءة الفهم. بلى سوف أتجرأ وأقول ما يلي: بما أن فوكو كان مثلياً شذوذياً بشكل قاطع فلم تكن له مصلحة في التفريق بين الصح والخطأ، أو بين الحقيقة واللا حقيقة، أو بين الذوق السليم والذوق المنحرف. لم تكن له مصلحة في الاعتراف بوجود شيء اسمه حقيقة في مجال الحب والجنس، ولا وجود معرفة موضوعية في هذا العالم. كان من مصلحته العكس تماماً: أي القول بأن الشذوذ الجنسي مشروع تماماً مثل الجنس الطبيعي بين الرجل والمرأة. وزواج الرجل من الرجل حق مشروع مثل زواج الرجل من المرأة. هذا يتساوى مع ذاك. و«ما حدا أحسن من حدا». لهذا السبب نقول إنه كان نسبوياً، عدمياً، إباحياً. كان من مصلحته تمييع الأمور والقضاء بشكل مبرم على مفهوم الحقيقة الموضوعية في مجال الجنس وغير الجنس. بل ربما كان يعتقد في قرارة نفسه أن الشذوذ هو الحقيقة الموضوعية المطلقة! لذلك أقول إن فوكو خطير وينبغي أن يسقط فكره في بعض جوانبه على الأقل. قائل هذا الكلام كان من أكبر المعجبين بميشيل فوكو في السنوات الباريسية الأولى. ولكن ما كنت قد فهمته على حقيقته بعد. يضاف إلى ذلك أنه كاتب كبير ذو أسلوب نيتشوي، بركاني، متفجر، تصعب مقاومته. كل من يعرف اللغة الفرنسية يفهم ما أقول. ونحن العرب قوم يطربون لسحر البيان.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!