إذا ما سُلّمت الأمور لجماعات الضغط المدنية والاجتماعية، فالنتيجة قد تكون وبالاً على مدعي السينما والأسواق التجارية والمهرجانات على حد سواء.
قائمة الممنوعات ترتفع: هنا توجد نغمة معادية للتاريخ، هنا تشخيص رأي يناهض المثلية. هناك عدد غير كافٍ من الأفلام النسائية، وماذا عن التموضع السياسي؟ هل نسمح للمهرجان بعرض كل فيلم جيد بمنأى عن مصدره ورسالته لأنه خير وسيلة لتبادل الأفكار والتعريف بأساليب التعبير؟ أم نقيم حواجز ونمارس الرقابة من حيث نرفضها عند سوانا؟ رومان بولانسكي يجد نفسه في صورة سلبية بسبب سلوكه الجنسي والقضايا العالقة حالياً في بعض المحاكم الفرنسية. جماعات الضغط نجحت في إقصائه عن الفوز بجائزة سيزار الفرنسية، التي تمنحها «أكاديمية الفنون الرفيعة». في العام الماضي عندما تقدّم بفيلمه «ضابط وجاسوس» للمنافسة في سباق جوائزها (تعادل الأوسكار فرنسياً). والخوف من الإخفاق التجاري حرم الجمهور خارج فرنسا وبلجيكا وبضع أسواق أوروبية أخرى، من التمتع بفيلم ذكي وجيد التنفيذ حول قضية درايفوس الشهيرة.
في أي زمن آخر، كان يمكن لهذا الفيلم أن ينجز عشرة أضعاف ما أنجزه تجارياً (10 ملايين - 11 مليون دولار فقط في فرنسا)، لكن كيف والفيلم لم يتمتّع بما تمتّعت به أفلام أخرى لبولانسكي، بل ولم يُعرض في أي سوق ناطقة بالإنجليزية (بريطانيا، والولايات المتحدة، ونيوزيلاندا، وأستراليا... إلخ).
- مظاهرات
مهرجان «كان» في ورطة الرغبة على استحواذ كل جديد لمخرج كبير، وعدم قدرته على قبول ما قرر الفرنسيون مقاطعته. لذلك، وحسب المنتج الفرنسي لوكا بارباريشي، لم يتم اختيار فيلم بولانسكي الجديد «القصر»، في عداد الأفلام المشتركة رسمياً لا داخل المسابقة ولا خارجها.
ما سيحدث تبعاً لذلك، هو أن هذا الإنتاج التي وصلت تكلفته إلى نحو 18 مليون دولار، قد يواجه ما واجهه الفيلم السابق من عزلة وصد. يقول بارباريشي لـ«الشرق الأوسط»: «إنه أمر محزن ألا يُفرق بين الإبداع والسلوك الشخصي. لا أنفي أن لبولانسكي مشاكل سابقة ولم أسمعه ينفي ذلك بنفسه، لكن أن يحمل البعض كل تلك النيّة المبيّتة لمنعه من العمل، هذا أكثر مما يمكن تحمّله. لا يجوز».
يرفض بارباريشي التأكيد على أن فيلم «القصر» سيتوجه إلى مهرجان «فينيسيا»، كما حدث سابقاً مع «ضابط وجنتلمان» قبل عامين.
هناك قامت مظاهرة ضد الفيلم مطالبة بسحبه، لكن مدير المهرجان الإيطالي لم يذعن، وعرض الفيلم رغم الاحتجاجات. هذه المرة يجد البعض أن بولانسكي سيتوجه بفيلمه إلى «فينيسيا» مرة أخرى، ولو أن منتجه لا يود نفي أو تأكيد ذلك.
والحال في «كان» لا يتوقف عند حد. السجادة الحمراء التي يهوى كل صناع السينما السير فوقها (بعضهم كان يأخذ الصور ويدّعي أن فيلمه شهد عرضاً رسمياً إلى أن تدخلت الإدارة ووضعت حداً لذلك)، باتت منصّة سياسية. قبل يومين دهنت فتاة أوكرانية جسدها العاري بالعلم الأوكراني لتعلن موقفها من الحرب الدائرة.
يوم أول من أمس، عرضت مجموعة من النساء بياناً طويلاً مطبوعاً بلفافة طولها نحو 30 متراً، تنتقد ما سمته «انتحار أنثوي» وموقع، حسب ما أتت عليه الصحافة الفرنسية، من 129 امرأة وجدن أن المناسبة قد تعزز فيلماً سيعرض في الليلة نفسها بعنوان Riposte، الذي يعرض نضال الناشطات الفرنسيات في مجال انتزاع حقوقهن.
كلا الحادثتين، الفتاة المحتجة ضد «اغتصاب الروس للأوكرانيات» حسب وصفها، وهذه المظاهرة التي لم تستمر طويلاً لكنها، كسابقتها جمعت حولها عشرات الكاميرات الجائعة لتصوير أي حدث على تلك السجادة الحمراء، تستوحيان من حقيقة أن «كان» حدث عالمي لإيصال رسالتهما، وهي تنجح في هذه الغاية، لكن لفترة قصيرة تلغيها فترة أخرى لأن الأحداث لا تتوقف عن حالة معيّنة إلا لتستبدل بها أخرى.
- بلا أقنعة
والأكثر وقعاً بالتأكيد، هو الاستقبال الكبير الذي حظي به الممثل والمنتج توم كروز. لم يسجل التاريخ قيام الحكومة الفرنسية بتخصيص ثماني طائرات لتطير فوق المدينة، تحية لممثل بألوان العلمين الفرنسي والأميركي. وعلى السجادة نفسها، وقف المندوب العام للمهرجان تييري فريمو على بعد خطوتين أو ثلاث من توم كروز وكلاهما، ومن معهما، ينظران إلى السماء حيث مرّت تلك التحية العسكرية تاركة الدهشة على الوجوه وابتسامة عريضة على وجه كروز.
بعده أم توم كروز «ماستر كلاس»، حيث عُرضت مشاهد من أفلامه المختلفة (بما فيها فيلمه الوحيد مع ستانلي كوبريك Eyes Wide Shut)؛ ومن ثَمّ عرض مشهد واحد من فيلمه الجديد «Top Gun: Maverick»، تمهيداً للعرض في السادس والعشرين من الشهر الحالي.
خلال مواجهته جمهور الصالة تحدّث عن كيف أن فيلمه الجديد هذا، تأخر عن الوصول بسبب «كورونا» وقال ملاحظاً: «هنا ليس من أقنعة. أريد رؤية كل الوجوه. أشكركم. لقد صنعتم حياتي».
لكن «كان» ليس فقط ما يقع في الشارع والردهات وعلى السجادة الحمراء. أهم ما فيه ما يقع على الشاشات. وإذ تتوالى الأفلام، يتبلور حرص المهرجان الفرنسي على أن يكون قائداً في كل ما يهدف إليه وهو كثير. من السوق العاجقة إلى الإعلام الذي يجول في أنحائها، ومن الصفقات المعقودة إلى الأفلام نفسها، وهي تنتشر في كل صالة ممكنة.
- صراع مؤسسات
كثيرة هي الأفلام التي شهدت عروضها بنجاح واهتمام إلى الآن، ومنذ أن انطلقت الدورة الـ75 قبل ثمانية أيام؛ من «زمن القيامة» لجميس غراي، إلى الدراما المدروسة من المخرجة ميا هانن - لوف «صباح يوم ممتاز»، ومن «الليلة الثالثة عشرة» للفرنسي دومينيك مول، إلى فيلم «3000 سنة من الشوق» للأسترالي جورج ميلر، تتبدّل الصور وتبقى الحكايات. وكل حكاية تعكس عملاً مهمّاً أو خلاّقاً.
وسط ما شوهد من أفلام، يبرز عمل رُصد من عدد كبير من الحضور. مخرجه مصري وإنتاجه سويدي - دنماركي - ألماني وموضوعه الإسلام والدولة. صُور في تركيا (باستثناء لقطات مسجلة ومستخدمة في حدود) لأن تصويره في أماكنه الطبيعية بالقاهرة أمر مستحيل.
المخرج هو طارق صالح الذي كان لفت الانتباه قبل أربعة أعوام، عندما أخرج «The Nile Hilton». الفيلم الجديد هو «ولد من الجنة»، «Boy From Heaven»، وهو فيلم شائك على صعيد الموضوع، تماماً كما كان حال الفيلم السابق، بل أكثر.
يبحر المخرج هذه المرّة في موضوع كتبه بنفسه عن العلاقة ما بين الأمن الوطني وبالتالي الدولة المصرية، وبين الأزهر ويدفع باتجاه تصوير، أن الأول هو من يقرر من سيقود الأزهر الشريف مؤسسة دينية. بل يقترح أنها مستعدة للتضحية بالإمام قتلاً لأجل تعيين إمام تثق به، إلى جانب ارتكاب حالات قتل بالتعاون مع شراذم مسلّحة للغاية.
الطريق التي يختارها المخرج لطرح حبكته متعرّجة. هناك الصراع حول الخلافة بين الحكومة والإخوان المسلمين داخل الأزهر. ومن ثَمّ هناك جريمة قتل تقع داخل الأزهر نفسه، حيث يُصفّى جاسوس أول، عيّنته الحكومة، وتوكيل شاب آخر بأن يكون الجاسوس الذي يعيل الأمن، لكي ينقل أخبار الأزهر وما يموج فيه.
لا يكيل الفيلم ضد الحكومة فقط، بل ضد الأزهر كذلك، متحدثاً عن فساد مستشرٍ. يكفي أنه مصوّر على أنه مقر مؤامرات وجرائم وتنافس قوى شرسة. نتيجة كل ذلك أن الفيلم لديه حنكة الفيلم التشويقي منفّذة بدرجة لا بأس بها، لكنه قائم على تبسيط قضايا هي بالقدر ذاته صعوبة الطرح. ما يحاول المخرج طرحه هو إعلان موقف من الحكومة المصرية ومن الأزهر في الوقت نفسه، كوجهين لعملة واحدة. لكن الفيلم يفلت من يدي صاحبه ليتحوّل إلى عمل يأمل في جذب الانتباه كفيلم تشويقي. هذا يذكر بفيلمي رون هوارد «ذا دافينشي كود» (2006)، و«ملائكة وشياطين» (2009). ما وراء هذا الفشل عاملان: كثرة المتعرّجات والمسائل المطروحة من جهة، وعدم دخول المخرج صلب القضايا بل توقفه عند ظواهرها ما يجعل الفيلم سرداً حكائياً مصنوعاً باعتدال لا أكثر.