بيوت الأزياء الكبيرة تتسابق على الصناعات اليدوية للتفرد

بناء معامل عصرية وتوريث الخبرات والحرفية لجيل شاب على رأس الأولويات

الرئيس التنفيذي في دار «بوتيغا فينيتا» كارلو ألبرتو بيريتا مع طالب شاب في المدرسة التي افتتحتها الدار لتوريث الصنعة اليدوية
الرئيس التنفيذي في دار «بوتيغا فينيتا» كارلو ألبرتو بيريتا مع طالب شاب في المدرسة التي افتتحتها الدار لتوريث الصنعة اليدوية
TT

بيوت الأزياء الكبيرة تتسابق على الصناعات اليدوية للتفرد

الرئيس التنفيذي في دار «بوتيغا فينيتا» كارلو ألبرتو بيريتا مع طالب شاب في المدرسة التي افتتحتها الدار لتوريث الصنعة اليدوية
الرئيس التنفيذي في دار «بوتيغا فينيتا» كارلو ألبرتو بيريتا مع طالب شاب في المدرسة التي افتتحتها الدار لتوريث الصنعة اليدوية

أصبحت الحرفية، بكل ما تتضمنه من معان فنية وجمالية، عملة لا تقدر بثمن في عالم الموضة المترفة، مما يفسر كيف أن كثيرا من بيوت الأزياء، من «لويس فويتون»، و«شانيل»، و«ديور» إلى «هيرميس»، و«بوتيغا فينيتا»، تركز وتتغنى بخبراتها أو أناملها الناعمة كلما سنحت لها الفرصة. فهذه الأخيرة تبدع لنا أجمل الأزياء أو الإكسسوارات، وهو ما سلط عليه الفيلم الوثائقي «ديور وأنا» الضوء أخيرا بتتبعه كل خطوة قام بها المصمم راف سيمونز خلال تصميمه أول تشكيلة «هوت كوتير» للدار، مبرزا علاقته بالأنامل الناعمة والخياطات اللواتي تجاوز بعضهن الخمسين بعد أن دخلن المهنة، وهنا صبايا، ومدى عشقهن لعملهن وتفانين فيه إلى حد السهر إلى الفجر لإنهاء فستان من دون تذمر. بل تغلبهن العاطفة ويجهشن في البكاء وهن يتابعن ثمرة جهودهن على منصة العرض. «ديور» ليست وحدها التي تعرف قيمة هذه الأنامل وأهمية خبرتهن في الدفع بها إلى الأمام بمنحها ثقلا يوزن بالذهب، فـ«هيرميس»، و«بوتيغا فينتيا»، و«لويس فويتون»، و«شانيل» أيضا، تدرك مدى هذه الأهمية وتطبقها على أرض الواقع باستراتيجيات بعيدة المدى.
السبب بالنسبة لبعض المراقبين، ستار ذكي للبيع، أو على الأصح لتبرير الأسعار الباهظة، وبالنسبة للبعض الآخر هو أسلوب لكي تنأى هذه البيوت بنفسها واسمها عن الموضة السريعة والرخيصة، التي باتت تثير كثيرا من الجدل السلبي، نظرا للطرق غير الإنسانية التي تتعامل بها مع العاملين، بدءا من تشغيل الأطفال إلى الأجور الزهيدة التي يخجل الغرب من ذكرها، فضلا عن أماكن العمل غير الآمنة والأوقات الطويلة. ولأن المطلوب من هؤلاء إنتاج أكبر قدر من المنتجات في وقت قصير لتحقيق الربح السريع، فإن المرء لا يتوقع منتجات بجودة عالية وحرفية دقيقة. وهذا تحديدا ما تحاول بيوت الأزياء الكبيرة أن تتصدى له وتكون بمثابة مضاد له بالتركيز على مفهوم «صنع باليد» والعودة إلى التقاليد العريقة والمتوارثة. وربما هذا هو القاسم المشترك بين كل بيوت الأزياء، على اختلاف الأساليب التي تتبعها، إلى حد أننا لاحظنا في العقد الأخير، شبه تسابق على توقيع عقد طويل المدى مع هذه التقاليد، سواء بافتتاح معامل متطورة تراعي الجوانب الإنسانية إلى حد يجعلها تشبه فنادق 5 نجوم بمساحاتها وتسهيلاتها المتنوعة التي تأخذ بعين الاعتبار احتياجات العاملين فيها، أو بالاحتفال بالحرفيين في كل المناسبات وتحويلهم إلى أبطال. فهم أولا وأخيرا، جزء لا يتجزأ من صناعة الموضة المترفة، ولا اختلاف بأن عملهم هو الأداة التي تفرق بين الراقي والمتميز، وبين ما تطرحه محلات الموضة المترامية في شوارع الموضة بأسعار منخفضة تخاطب العامة.
أما السبب الذي تعلنه هذه البيوت، فهو الرغبة في التفرد تلبية لطلبات زبون يحب التميز. كما أنك لو سألت أيا من كبار المسؤولين فيها، لجاءك رده بأن لهفته على كل ما هو تقليدي وعريق، نابعة من خوفه على مصير الحرف القديمة والتقاليد المتوارثة، كونها باتت معرضة للانقراض في حال لم يتم إسعافها سريعا. وهذا يعني إما بضخها بالمال، والأمر هنا يتعلق بدعم أو احتضان ورشات صغيرة وعائلية، قد تكون في أماكن نائية لا يعرف عنها الناس شيئا، أو ضخ بعضها بدماء شابة تتعلم من الجيل القديم أصول المهنة، وتشجعهم على حب المهنة وتقديرها، في ظل عدم ميل الجيل الصاعد إلى الصناعات اليدوية وتفضيله وظائف أكثر بريقا. هذه كلها عوامل ساعدت على عزوف البعض عن امتهان حرف يدوية، وعلى انتشار الموضة السريعة على حساب الجودة العالية.
طبعا، تعطش الأسواق النامية لموضة سريعة كانت له نتائج مدمرة على بعض الحرف في صناعة الموضة الراقية تحديدا. ففي غالب الأحيان، تكون أولى الضحايا، الورشات الصغيرة التي تديرها عائلات لا تتمتع بإمكانيات عالية للدخول في مواجهة تحديات العصر أو أي منافسة مع المجموعات الكبيرة، التي أصبح بعضها مثل سمك القرش يلتهم كل ما في طريقه، نظرا لقدراتها المادية العالية. وربما هذا سبب آخر يجعل بعضها يحتضن الحرف اليدوية ويبرز أهميتها ودوره في إنعاشها، يتمثل في تلميع صورتها وإضفاء جانب إنساني عليها. فحتى الورشات أو الشركات العائلية الصغيرة، التي استطاعت أن تتجاوز العاصفة لم تكن لتستمر لولا دعم مادي خارجي من بعض هذه المجموعات أو بيوت الأزياء، مثل «لويس فويتون» أو «هيرميس» أو «شانيل». هذه الأخيرة مثلا، يعود لها الفضل في إنقاذ ما لا يقل عن 11 ورشة، هي: «ماسارو» المتخصصة في الأحذية، و«ليماري» في تصميم الزهور والريش، و«ميشيل» في تصميم وصناعة القبعات، و«ديسرو» لصناعة الأزرار، و«غوسن» لصناعة الذهب والفضة، و«لوساج» و«مونتيكس» للتطريز، و«غييه» لصنع الورد، و«كوس» لصناعة القفازات، وأخيرا وليس آخرا «باري» لصنع الصوف والكشمير الاسكوتلندي. ولا شك أن البقية ستأتي، فـ«شانيل» أكدت طوال العقد الأخير أنها تقدر الصناعات اليدوية والحرفية، وطالما تحقق النجاح والأرباح، فهي لا تبخل أن تتقاسم هذه النجاحات مع آخرين. بدأت «شانيل» هذه العملية في عام 2002 حين كانت كثير من الشركات العائلية الصغيرة تمر بظروف اقتصادية صعبة أودت بمصير كثير منها إلى الإفلاس. فباريس كانت تحتضن في بداية القرن الماضي المئات من الورش الحرفية المتخصصة في كل مجالات الموضة، لكنها بدأت تختفي بعد الأربعينات والخمسينات أو تتقلص. دار «ليساج» مثلا اضطرت إلى تخفيض عدد العاملين بها من 120 إلى نحو 50 فقط في الثمانينات. كارل لاغرفيلد انتبه إلى هذا الأمر وتدخل بمساعدة الدار لاحتوائهم ومدهم بطوق نجاة. وكانت النتيجة أن لاغرفيلد لم يساهم في إنقاذهم فحسب، بل أيضا في تسليط الضوء عليهم بعد أن كانوا جنودا مجهولين، بتصريحه دائما بأنهم من يصنع الموضة ومن دونهم لا تكتمل بالصورة التي نراها عليها الآن. الجميل فيما قامت به «شانيل» أنها لا تتملك هذه الورش بطريقة أنانية بل تفتح لها الباب للتعامل مع بيوت أزياء أخرى، لأن فكرتها من احتضانها، كانت دائما إنقاذها من الانقراض وليس تملكها. فشركة «باري» الواقعة في منطقة «هاويك» بين تلال وهضاب اسكوتلندا، مثلا، لم يشفع لها تاريخها، الذي يعود إلى أكثر من 140 عاما، من الوقوع في الإفلاس، وكانت على وشك إغلاق أبوابها، عندما تدخلت الدار الفرنسية لإنقاذ ما لا يقل عن 176 عاملا توارثوا المهنة أبا عن جد. نفس الشيء ينطبق على بقية الورش.
بدورها، تعتز دار «بوتيغا فينيتا» الإيطالية بثقافة متجذرة في مفهوم «صنع باليد» أو «صنع في إيطاليا»، من دون أن تتجاهل الجانب الإنساني والبيئي في هذه العملية. الجانب الإنساني يتمثل في احترامها للحرفيين الذين توارثوا تقنيات قديمة في جدل حقائب يدها، ومن باب الخوف على هذه الأساليب من الانقراض، افتتحت منذ سنوات مدرسة، لتعليم أجيال جديدة فن صناعة المستقبل بالتركيز على التقاليد القديمة. وأخيرا كثفت مدرستها «La Scuola dei Maestri Pellettieri de Bottega Veneta» الجهود مع جامعة «IUAV» في البندقية، لخلق دورة جديدة تتخصص في مجالي تصميم الحقائب وتنمية المنتجات المرفهة. بموجب هذا الاتفاق، يتم قبول 12 طالبا فقط، يتلقون دروسا في كل ما يتعلق بالجلود الطبيعية، من العناية بها إلى طرق اختيارها وتقطيعها ودبغها وتصميمها. كل هذا يتم على يد حرفيين في معملها بـ«مونتيبيلو» من خلال التفاعل المباشر معهم، والتعلم منهم كل الخطوات التي يمر بها الجلد قبل أن يتحول إلى حقائب تقدر بآلاف الدولارات. وإذا كان المعمل يقدم لهم تجربة فعلية وتطبيقية، فإن الجامعة توفر لهم دروسا نظرية تُركز على تاريخ تصميم الحقائب.
وكانت الدار الإيطالية، تحت قيادة مصممها الفني توماس ماير، قد افتتحت المدرسة في عام 2006، بهدف تدريب جيل شاب من الحرفيين، قد يلتحقون بها في معملها العصري «مونتيبيلو فيشانتينو»، علما أن معملها هذا إنجاز آخر تفتخر به، لأنه أقرب إلى قصر أو فيلا ضخمة مبنية بأسلوب عصري منه إلى معمل بالمفهوم التقليدي. فهو يراعي البيئة ونالت عليه جائزة القيادة في الطاقة والتصميم البيئي في العام الماضي، لتكون أول دار أزياء تحصل على الجائزة، خصوصا وأنها أخذت في عين الاعتبار عند تصميمه متطلبات وراحة العاملين فيها، من منطلق أن احترامهم جزء من احترام الدار. استغرقت عملية تصميمه وبنائه 7 سنوات وهو الآن يحتضن أكثر من مائة حرفي متميز ومائتي مساعد لهم. وربما هذا ما شجع على فكرة أن يحتضن الجيل القديم جيلا جديدا من الشباب يقدرون الموضة المترفة، والأهم من هذا، يفهمون ما يجعلها مترفة.
يقول المصمم توماس ماير: «رغم نمو (بوتيغا فينتا) وتوسعها لم ننس أبدا أننا نحتاج إلى حرفيين يتمتعون بمواهب وقدرات عالية لإنتاج منتجات جلدية تتمتع بجودة وتتميز عن غيرها، فهدفنا لا يقتصر على ضمان استمرارية الدار ونجاحها من خلال مدرسة متخصصة في تعليم وتوريث الخبرات لأجيال قادمة، بل القيام بهذا الأمر بطريقة ملهمة تحفز على معانقة هذه التقاليد للإبداع فيها أكثر».
الحديث عن الحرفية لا بد وأن يجرنا إلى «هيرميس». فهذه الدار تحقق المليارات بفضل استراتيجية اتبعتها منذ سنوات تركز فيها على الحرفية وعلى مفهوم «صنع باليد» إلى حد أنها كانت أول من ابتدع فكرة لائحة الانتظار لحقائبها الأيقونية. مع الوقت أثبتت أن استراتيجياتها ناجحة بكل المقاييس. وبما أن أغلب أسهمها لا تزال ملكا عائليا، وهو ما تستميت في الحفاظ عليه، فهي تقدر الشركات العائلية الصغيرة وتعمل على دعمها بأي شكل. أخيرا تدخلت لدعم «شانغ زيا» (Shang Xia) وهي شركة صينية صغيرة، يوجد لها فرع في باريس وشنغهاي وبجين، وتوفر أزياء وإكسسوارات وأدوات منزلية لا مثيل لها، كونها نتاج خبرات طويلة وتقنيات قد تمتد إلى عدة قرون. صحونها البيضاوية الشكل، مثلا، تعود طريقة صنعها إلى سلالة مينغ. فهي من نوع نادر من البورسلين، لا يتقن فنونه ويعرف أسراره سوى 72 عاملا في منطقة جبلية نائية في الصين. كل واحد من هؤلاء الحرفيين يتخصص في جانب معين من صناعة هذه الصحون التي تأتي بسمك رفيع لا يتعدى الملمتر الواحد، بدرجة تجعلك ترى الضوء بداخلها. المعلم الكبير في هذا المعمل اسمه لو، ويُقال إنه الوحيد في العالم بأسره، من يعرف النسبة الدقيقة لخلط الطين والماء لصنع هذه التحف الصغيرة. شركة «تشانغ زيا»، التي تأسست في عام 2008 تحاول أن تكون الجسر بين الماضي، وما يمثله من حرفية، والحاضر من خلال منتجات مترفة، بدعم من «هيرميس» التي دخلت بكل ثقلها في هذه المغامرة باستحواذها على 90 في المائة من أسهمها وصرف نحو 10 مليون يورو في السنة لكي تكون بنفس مستوى منتجاتها الرفيعة. وفي الوقت ذاته، لكي تدعم جهودها في الحفاظ على إرث صيني عريق متمثل في حرف قديمة لا يعرف عنها كثير منا شيئا، وللأسف بدأت تندثر في عصر العولمة والجري وراء الربح السريع. ما تقوم به هذه الشركة الصغيرة، حجما وعمرا، أنها تجول كل أرجاء الصين بحثا عن هذه الحرف وتعمل على تحديثها بشكل يواكب متطلبات الزبون التواق إلى كل ما هو فريد. ونجحت في تحقيق الهدف، بدليل أن دار كريستيز، عرضت كثيرا من منتجاتها الصينية المعاصرة في مزاد خاص في شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، فاق كل التوقعات، في إشارة واضحة إلى أن العالم انقسم إلى قسمين: الأول يريد أن يستمتع بالموضة بأقل التكاليف غير مهتم بما يجري وراء دهاليزها، والثاني لا تهمه الأسعار ما دام سيحصل على قطع فريدة من نوعها، وهذا يعني كثيرا من الحرفية والخبرة المتوارثة التي لا تُعوض عن الأيادي البشرية والعاطفة التي يصبونها في كل منتج.



دار «كارولينا هيريرا» تُطرِز أخطاء الماضي في لوحات تتوهج بالألوان

تفننت الورشات المكسيكية في صياغة الإكسسوارات والمجوهرات والتطريز (كارولينا هيريرا)
تفننت الورشات المكسيكية في صياغة الإكسسوارات والمجوهرات والتطريز (كارولينا هيريرا)
TT

دار «كارولينا هيريرا» تُطرِز أخطاء الماضي في لوحات تتوهج بالألوان

تفننت الورشات المكسيكية في صياغة الإكسسوارات والمجوهرات والتطريز (كارولينا هيريرا)
تفننت الورشات المكسيكية في صياغة الإكسسوارات والمجوهرات والتطريز (كارولينا هيريرا)

في مجموعته من خط «الريزورت لعام 2020» أثار مصمم دار «كارولينا هيريرا» ويس غوردن موجة من الاستياء والغضب في المكسيك. اتُهم حينها بالسرقة الفنية والثقافية، لأنه استلهم من تطريزات تراثية مكسيكية بشكل شبه حرفي من دون أن يطلب الإذن من أصحابها ولا أشار إليهم. وصل الأمر إلى تدخل حكومي، جاء على لسان وزيرة الثقافة المكسيكية آليخاندرا فراوستو التي وجَهت رسالة تتهم فيها دار «كارولينا هيريرا» بالانتحال الثقافي وتطالبها بتفسير علني لاستخدامها رسوماً منسوخة من تراث الشعوب الأصلية المكسيكية، وما إذا كان هؤلاء سيستفيدون بأي شكل من الأشكال.

جاءت كل إطلالة وكأنها لوحة مرسومة بالأزهار والورود (كارولينا هيريرا)

كان رد المصمم سريعاً وهو أن فكرة الانتحال لم تكن تخطر بباله، وأن ما قصده كان تكريم الثقافة المكسيكية والاحتفال بها، مُعترفاً أنه لا ينفي أن «المكسيك بالفعل حاضرة بقوة في هذه المجموعة. لكن حرصي على إبراز هذا التراث هو دليل على المحبة التي أكنّها لهذا البلد ولإبداعاته الحرفية التي طالما أعجبت بها وكانت من أهم مصادر إلهامي».

ريزورت 2025

مرت أربع سنوات وأشهر عديدة، وها هو يؤكد أن قوله لم يكن لمجرد التبرير للخروج من ورطة غير محسوبة. هو فعلاً يحب الثقافة المكسيكية، وإلا ما عاد إليها في عرضه الجديد من خط «الريزورت لعام 2025». الاختلاف هذه المرة أنه اتخذ كل التدابير التي تقيه أي جدل أو هجوم. فالعرض كما تشرح الدار «رحلة من الاستكشاف تُعززها العلاقة الممتدة على مدى عقود طويلة بينها وبين المكسيك».

استلهم المصمم ألوانه من غروب الشمس في مكسيكو سيتي والطبيعة المحيطة (كارولينا هيريرا)

عُرضت التشكيلة في منتصف شهر فبراير (شباط) الماضي. اختار لها المصمم غروب الشمس توقيتاً، ومتحف أناهواكالي، مكاناً.

اختيار متحف «اناكاهوالي» مسرحاً للعرض له دلالته. فهو يحتوي على قطع أثرية تعود إلى ما قبل كولومبوس وتحيطه مناظر خلابة تشكلها النباتات المحلية مما جعله مثالياً لعرض يزخر بالتاريخ والفن والجمال. يُعلَق المصمم غوردن «إن مكسيكو سيتي لها مكانة رائدة كمركز عالمي للفنون والإبداعات المعمارية وتجارب الطهو والثقافة، فضلاً عن المهارة العالية التي يتمتع بها الحرفيون المحليون».

اختار المصمم مزيجاً من الألوان التي تتناغم مع بعضها رغم تناقضها (كارولينا هيريرا)

كان واضحاً أنه اتبع هنا مبدأ «ابعد عن الشر وغني له». اكتفى بألوان الطبيعة المستلهمة تحديداً من غروب الشمس والصخور الركانية في مكسيكو سيتي والمناطق المجاورة لها، و تعاون مع أربع فنانات مكسيكيات، ليُرسِخ احتفاءه بالمهارة الفنية والثقافة المكسيكي من دون أن يتعرَض لأي هجوم أو انتقاد.

وهكذا على طول الفناء الأمامي للمتحف الذي تم بناؤه على حجر بركاني منحوت، تهادت العارضات وهن يتألق في تصاميم تراقصت فيها الألوان الزاهية مثل الأزرق والأخضر العشبي، والعنابي، والأصفر الساطع، إلى جانب قطع بالأبيض والأسود. لم يخف المصمم ويس غوردن أنها لوحة رسمها وطرَزها بالتعاون مع فنانات مكسيكيات لهن باع وشغف في مجالات متنوعة، ساهمت كل منهن بضخها بالألوان والديناميكية الجريئة التي تتميز بها الفنون المكسيكية، وهن:

الفنانة ناهنو Nähñu

فنانات برعن في التطريز لهن يد في تشكيل مجموعة من التصاميم (كارولينا هيريرا)

وهي خبيرة تطريز تعود أصولها إلى نانت في تينانجو دي دوريا في ولاية هيدالغو. تفنّنت في ابتكار ثماني قطع قطنية مطرزة مع تدرجات لونية متباينة ظهرت في قمصان وفساتين وسراويل. وتعليقاً على هذا الموضوع، علَقت الفنانة: «تمنحني الأقمشة مساحة للتعبير عن أسلوبي الإبداعي وحالتي المزاجية في مختلف الأوقات. فعندما أشعر بالسعادة أستخدم ألواناً حيوية، بينما أعتمد الألوان الداكنة للتعبير عن شعوري بالحزن». وأضافت ابنتها بيبيانا هيرنانديز، التي ساهمت هي الأخرى في هذه الإبداعات: «نجحنا في هذا المشروع بالتعبير عن أسلوبنا المميز في عالم التطريز. فهو الذي يفسح لنا المجال لإبراز مواهبنا والتعبير عن مشاعرنا المختلفة في الوقت ذاته».

فيرجينيا فيرونيكا آرسي آرسي

من الطبيعة والثقافة المحلية استلهمت الفنانات المتعاونات تطريزاتهن (كارولينا هيريرا)

هي أيضاً فنانة متخصصة في التطريز. أبدعت للدار تطريزات مستوحاة من جمال الطبيعة المحيطة بمدينتها، سان إيسيدرو بوين سوسيسو، بولاية تلاكسالا، التي تشتهر بامتداد منحدرات جبلها البركاني المعروف باسم لا مالينشي.

اكتسبت فيرجينا مهارة التطريز من والدها وهي في سن الـ15، وتعهدت منذ ذلك الحين أن تحافظ على هذه الحرفة وتعمل على تطويرها كلغة فنية لما تُشكله من جزء هام من هوية المجتمع. وتبرز أعمالها في ثلاثة فساتين من الدانتيل المطرز.

جاكلين إسبانا

خزف تالافيرا المُتميز باللونين الأزرق والأبيض كان حاضراً في هذه التشكيلة (كارولينا هيريرا)

مساهمتها تجلّت في تخصصها في خزف تالافيرا المُتميز باللونين الأزرق والأبيض، والذي يشكل جزءاً رئيسياً من النسيج الثقافي في سان بابلو ديل مونتي بولاية تلاكسالا.

عشقت جاكلين هذا النوع من الخزف منذ طفولتها، فعملت على استكشاف مزاياه الإبداعية بعد إنهاء دراستها في مجال الهندسة الكيميائية. وقالت في هذا الصدد أن خزف تالافيرا «يشكل في منطقتنا إرثاً عريقاً نحرص باستمرار على الحفاظ عليه واستخدامه كزينة في المناسبات الخاصة فقط. ولذا، وقع عليه اختياري لاستخدامه في أعمالي الفنية عموماً، وفي هذه التشكيلة خصوصاً».

استلهمت الفنانة من الخزف ألوانه ومن الطبيعة المكسيكية أشكالها (كارولينا هيريرا)

كان دورها أن تبتكر تفاصيل ومجوهرات من الخزف المرسوم يدوياً لتزين بها قطع أزياء وأقراط، كما تشرح: «بصفتي متخصصة بخزف تالافيرا، ألتزم بالحفاظ على إرث هذا الخزف المتوارث عبر الأجيال، والاحتفاء بجوهره والعمل على تطويره من خلال وضعه في أروع الإبداعات».

ورشة «آراشيلي نيبرا ماتاداماس»

تعاونت الدار مع ورشات مكسيكية لإبداع إكسسوارات لافتة بألوانها (كارولينا هيريرا)

تعاونت الدار أيضاً مع ورشة «آراشيلي نيبرا ماتاداماس»، التي تتخذ من أواكساكا دي خواريز بمدينة أواكساكا مقراً لها. وتعتبر مركز الأعمال الحرفية في المكسيك، إذ تتعاون الورشة مع أبرز الفنانين لإعادة ابتكار بعض القطع التقليدية برؤية عصرية. لهذا المشروع عملت الورشة مع حدادين متخصصين في النحاس ومطرزين ورسامين لتزيين الخيكارا، وهي أوعية تقليدية مصممة من قشور القرع المجففة، تُستخدم فيها الألوان وفن التطريز وأنماط المقرمة وغيرها من المواد.

تقول مؤسسة الورشة نيبرا: «أستمد إلهامي من الطبيعة من حولي، بما تحمله من نباتات وأزهار حسب المواسم التي تظهر فيها، إضافة إلى ألوان غروب الشمس». لهذه التشكيلة، نجحت نيبرا وفريقها في ابتكار مجموعة من المجوهرات الملونة يدوياً تشبه أعمالها فن الخيكارا.

لمسات كارولينا هيريرا

حافظت التشكيلة على أسلوبها الراقص على نغمات من الفلامينكو (كارولينا هيريرا)

لم تكتف «كارولينا هيريرا» بهذه التعاونات. عرضت أيضاً مجموعة مصغرة من ألبسة الجينز بالتعاون مع شركة «فرايم دينم»، إلا أن مصممها وبالرغم من شغفه بالثقافة المكسيكية، لم يتجاهل جينات الدار الأساسية، التي ظهرت في أزياء المساء والسهرة. فهذه حافظت على أسلوبها المعروف بأناقتها الكلاسيكية الراقصة على نغمات من الفلامنكو، إضافة إلى تلك الفخامة التي تعتمد فيها دائماً على الأقمشة المترفة والأحجام السخية، والورود المتفتحة.