برلين... عالم جديد وافد من أوكرانيا يحمل بصمات بوتين

«الشرق الأوسط» زارت الجدار القديم في قارة تتخوف من الجدار الجديد

مظاهرة أمام بوابة براندنبرغ وسط برلين ضد الحرب الروسية في أوكرانيا (إ.ب.أ)
مظاهرة أمام بوابة براندنبرغ وسط برلين ضد الحرب الروسية في أوكرانيا (إ.ب.أ)
TT

برلين... عالم جديد وافد من أوكرانيا يحمل بصمات بوتين

مظاهرة أمام بوابة براندنبرغ وسط برلين ضد الحرب الروسية في أوكرانيا (إ.ب.أ)
مظاهرة أمام بوابة براندنبرغ وسط برلين ضد الحرب الروسية في أوكرانيا (إ.ب.أ)

الصحافيون كحفاري القبور. يعتاشون من مآسي العالم. يحلمون بالحضور عند المنعطفات. ومن عادة هذه الأحداث الكبرى أن تكون مبللة بالدم وباهظة للاقتصاد ومنجبة للاجئين. يبتهج الصحافيون بالكتابة من مسرح الزلازل. وها أنا أفعل. بعد قليل من وصولي إلى برلين شممت «نهاية حقبة». ختام فصل من عمر أوروبا والعالم. وولادة فصل يحمل بصمات القيصر الجالس على عرش لينين.
قبل ثلاثة وثلاثين عاماً، أوفدتني «الشرق الأوسط» إلى هذا المكان. شهدت مع جيش من الصحافيين احتضار أشهر جنرالات النصف الثاني من القرن الماضي. كان اسمه جدار برلين. وتقول التجارب إن الصحافيين يحنّون إلى مسارح الهزات العنيفة كما يحن المرتكب إلى مسرح جريمته. ربما لهذا اصطحبت حقيبتي إلى تلك المدينة. ولعلني كنت مدفوعاً بالرغبة في مشاهدة نهايات العالم الذي ولد من انهيار ذلك الجدار.

              صورة أرشيفية لألمان شرقيين ونظرائهم الغربيين قرب بوابة براندنبرغ في برلين أثناء الاحتفال بسقوط الجدارالفاصل عام 1989 (أ.ف.ب)
حين نمت قرب الجدار في 1989، لم أكن أعرف اسم الرجل الذي يقولون اليوم إنه قتل عالَماً وأعلن ولادة آخر. ولم يكن ثمة ما يبرر أن أعرف اسمه. كان رجلاً مجهولاً يعمل في جهاز غامض ويعيش باسم مستعار. وكانت مهمته شائكة. كشف جواسيس وتطويع جواسيس. وكان مدرباً على نشاطات حساسة. الإفلات من الرقابة أو الملاحقة. والكتابة بالحبر السري. والقدرة على تسديد ضربات موجعة إذا اقتضى الأمر. كان الكولونيل يقيم في درسدن، أي في بلاد «الرفاق» في ألمانيا الشرقية. وحين تداعى الجدار أحرق بعض الأوراق وغادر عائداً مع خيبته لينتظر التوجيهات الجديدة من رؤسائه في إمبراطورية «كي جي بي». وستُضاف إلى الخيبة جروح عميقة حين تطل روسيا من الركام السوفياتي وتخونها جمهوريات كثيرة كانت تقيم في قبضة الحزب. كان اسم الكولونيل المجهول فلاديمير بوتين، وسننفق في القرن الجديد آلاف الساعات في رصد خطواته والبحث عن بصماته.
في أيام الزلزال القديم كان من الصعب تخيل العواقب بدقة. التهمتني الأسئلة. الجدار حدود دولة وحدود إمبراطورية. ويصعب تخيل انتحار إمبراطورية كاملة من دون حرب عالمية أو وجبة دموية هائلة. قبل ثلاثة أعوام من ذلك الموعد، وتحديداً في 1986، تيسر لي أن أعاين أركان الإمبراطورية مع أوسمتهم وهالاتهم تحت سقف واحد هو سقف الكرملين. ذهبت لتغطية أعمال المؤتمر الـ27 للحزب الشيوعي السوفياتي، الذي كان مقرراً أن يشهد إطلالة ميخائيل غورباتشوف الأولى على الإمبراطورية والعالم.

                                                               رسمة لبوتين على الأرض في برلين (الشرق الأوسط)
كان الدخول إلى قاعة المؤتمر محظوراً على الصحافيين، لكن قيادياً فلسطينياً يسارياً أعارني بطاقته فتسللت إلى حيث احتشد أكثر من ألفي مندوب. جلست قلقاً من أن أطرد إذا اكتُشف أمري. لكن الحدث كان يستحق. كان مشهد المنصة مهيباً. في الوسط جلس غورباتشوف وقربه بعض الأركان بينهم أندريه غروميكو، ثم قادة أوروبا الشرقية وقادة الدول الصديقة. صفق الحاضرون بإجلال لرجلين، الأول غورباتشوف والثاني فيديل كاسترو، الذي جاء مع تاريخه ولحيته وثيابه الزيتونية. وفي تلك الجلسة، ألقى الزعيم السوفياتي قنبلتين ستنفجران ببلاده، وهما «البيريسترويكا» و«الغلاسنوست»، أي إعادة البناء والشفافية. وفي تلك الأيام لم يكن أحد يتحدث عن الضابط المجهول الذي يحب أفلام جيمس بوند.
في السنة الأولى من تسعينات القرن الماضي سيتطاير لحم الاتحاد السوفياتي، وفي اليوم الأخير من العقد سيطل فلاديمير بوتين من الكرملين حاملاً مشروع ثأر يقولون إنه طبخ في الغرفة العسكرية - الأمنية التي هالها إذلال روسيا وبتر أطرافها السوفياتية. ولد مشروع الثأر الكبير من معاناة ومشاهد. التدهور الاقتصادي وانخفاض الروبل. وإقدام ضباط «الجيش الأحمر» على بيع بزاتهم مع أوسمتها في شوارع المدن. وترنح حكم بوريس يلتسين على أنغام الفساد. وشعور روسيا بالإذلال والحصار بعدما بات السفير الأميركي الرجل الأقوى في البلاد، واعتبر أن من حقه مطالبة بلاد لينين باعتناق النموذج الغربي الذي هزمها.
كان لا بد من العودة إلى برلين. أعلن زلزال الجدار ولادة عالم جديد. عالم القوة العظمى الوحيدة والانتصار الأميركي الفاحش. وثمة من يرى أن الزلزال الأوكراني يعلن اليوم احتضار ذلك العالم وولادة عالم جديد يحمل بصمات بوتين.
أطلق النار على «القرية الكونية»

                                                                   احتجاج فردي على الحرب في أوكرانيا (الشرق الأوسط)
برلين مكان حساس لقراءة عبء الحرب الروسية في أوكرانيا. ومن المبكر التكهن بما ستؤول إليه المغامرة الروسية. واضح أن بوتين سدد ضربة شبه قاتلة إلى العالم الذي بني على ركام الاتحاد السوفياتي. ثمة من يعتقد أن اجتياز الدبابات الروسية الحدود الدولية مع أوكرانيا أعلن نهاية الاستقرار الذي حمله عالم ما بعد سقوط الجدار. فالحرب الروسية في أوكرانيا أخطر بكثير من التحديات الدموية التي شهدها العالم في العقدين الماضيين. ما فعله بوتين أخطر بما لا يقاس مما فعله أسامة بن لادن، حين نقل حرب الإرهاب إلى الأرض الأميركية. وأخطر بكثير مما فعله أبو بكر البغدادي حين أطل من الموصل فاتحاً الباب لـ«دولة الخلافة» والتجربة الدموية التي أعقبتها. الاجتياح الروسي لأوكرانيا أخطر أيضاً من حرب أميركا في أفغانستان والعراق. والسبب بسيط. لقد هزت حرب بوتين في أوكرانيا دعائم النظام الدولي. فبعد هذه الحرب لن تكون أوروبا ما كانت عليه، ويصدق الأمر نفسه على العالم بأسره.
نحن في الطريق إلى عالم جديد. يراهن كثيرون أنه سيكون عالماً متعدد الأقطاب، لافتين إلى أن حرب أوكرانيا ما كانت لتقع لولا تزايد الشعور ببدايات غروب العصر الأميركي. وهناك من يرى أن أميركا باتت عاجزة عن لعب دور الشرطي على امتداد العالم. ويضيف هؤلاء أن أميركا لم تعد قادرة أيضاً على الادعاء أن النموذج الغربي هو الممر الوحيد والإلزامي للتقدم التكنولوجي ومكافحة الفقر بعد تجارب الصين ودول أخرى. لقد أطلق بوتين النار على مرتكزات «القرية الكونية».
الأكيد هو أن الحرب في أوكرانيا فرضت تعديلاً كبيراً على لائحة الأولويات الغربية. كانت أميركا تتحرك لتركيز سياستها وقدراتها على احتواء الصعود الصيني. بدأ الحديث جدياً أن الحزب الشيوعي الصيني هو المنافس الأخطر إذا تم تفادي تسميته العدو الأول. فجأة دقت أجراس الإنذار في عواصم حلف الأطلسي. الخطر الروسي يقرع الأبواب الأوروبية ويعيد إيقاظ أشباح كانت القارة القديمة اعتبرت أنها دفنتها إلى غير رجعة.
أصاب المشهد الأوروبيين بالذهول. ملايين اللاجئين الأوكرانيين يتوزعون على البلدان الأوروبية المجاورة. مشاهد غير مألوفة لم تعرف أوروبا مثيلاً لها حتى في ذروة الانفجار اليوغوسلافي. ذهب الرئيس الروسي في الحرب إلى حد يتعذر عليه العودة منها من دون إنجاز انقلاب يفوق قدرة الغرب على الاحتمال. لا يستطيع بوتين أن يرجع خاسراً. ولا يستطيع الغرب رؤيته منتصراً. وقع العالم في فخ كبير. يراقب الأوروبيون بقلق قيام دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن بفرض جراحة قسرية على خريطة دولة أوروبية مستقلة. الحرب الحالية في أوكرانيا أخطر بكثير من استعادة روسيا القرم في 2014. أخطر بكثير أيضاً من التدخل العسكري الروسي في سوريا في السنة التالية.
عالم متعدد الأقطاب. لكن ماذا لو أدمت العقوبات الغربية غير المسبوقة الاقتصاد الروسي؟ وفي هذه الحال هل يتراجع موقع روسيا لتتكرس ثنائية التنافس الأميركي - الصيني؟ وهل سيضطر بوتين إلى أن يكون الأخ الأصغر في التحالف الروسي - الصيني؟

                                          غيرت الحرب مواقف ألمان كثر مثل ديتر غروسمان (الشرق الأوسط)
السائق الألماني لا يريده أن ينتصر
أسئلة أخرى. هل يمكن أن تحقق الحرب عكس ما أراده بوتين؟ هل تؤدي التجربة الدموية في أوكرانيا إلى تجديد شباب حلف «الناتو» وتوسيع حضوره بانضمام السويد وفنلندا إلى صفوفه؟ وهل ستنخرط روسيا في سباق تسلح كذلك الذي أنهك الاتحاد السوفياتي؟ لقد تغيرت أوروبا. دولها تزيد إنفاقها الدفاعي. وألمانيا التي أقامت طويلاً تحت مظلة التردد والحذر كسرت حاجز الخوف. أرسلت أسلحة إلى أوكرانيا، وأقرت مبلغ مائة مليار يورو كإنفاق دفاعي إضافي. وأمام السخاء الأميركي الواضح في دعم أوكرانيا، عاد الأوروبيون إلى الاعتقاد أن لا غنى لهم عن الجنرال الأميركي حين تحدق بأوروبا أخطار كبرى.
كنت أقلب هذه الأسئلة حين قررت القيام بجولة ليلية في برلين. سألني السائق إن كنت سائحاً، فتذكرت أن الصحافيين هم من أسوأ أنواع السياح. كلما نزلوا في مدينة يحاولون التعرف على أوجاعها ومكان الخطر في حياتها. استوقفني أنه ألماني وأنه يراهن دائماً على نقل السياح. ولأن السائق هو عادة دفتر المدينة قلت أسأله عن الموضوع الذي جئت من أجله.
اسمه ديتر غروسمان. لم يكن يتوقع على الإطلاق أن يرى تدفق مئات آلاف اللاجئين الأوروبيين على بلاده. يتذكر تدفق مئات آلاف اللاجئين السوريين «لكنهم جاؤوا من منطقة بعيدة». ربما كان يقصد أنهم جاؤوا من عالم آخر يصر على إنجاب اللاجئين. قال: «نحن تجربتنا مريرة. كنت أعارض إرسال أسلحة ألمانية إلى أي بقعة في العالم. لا أريد أن تنخرط ألمانيا في نزاعات. يكفيها كم دفعت في القرن الماضي. لكنني اليوم أؤيد إرسال أسلحة إلى أوكرانيا بعدما شاهدت على الشاشات ما تفعله القوات الروسية هناك. طبعاً من دون الانخراط مباشرة في المواجهة العسكرية».
وأضاف: «الحقيقة هي أنني خدعت كما خدعت معظم الدول الأوروبية. كنت ساذجاً. اعتقدت أن بوتين يريد استعادة قوة بلاده لكن ضمن حدودها، وأنه سيركز جهده على تنمية اقتصادها. لدي قناعة راسخة أن بوتين يجب أن يخسر الحرب. لا نريد العيش في عالم يقوده أمثال بوتين و(رجب طيب) إردوغان. يجب أن يخسر كي لا يكرر التجربة في مكان آخر. لم أكن مؤيداً لزيادة الإنفاق على التسلح لكنني الآن غيرت موقفي تماماً».
قال ديتر إنه «يكن تقديراً عميقاً للمستشارة السابقة أنجيلا ميركل. كانت فترة حكمها الطويلة فترة استقرار وازدهار. كانت صاحبة موقع مميز أوروبياً ودولياً وكانت نزيهة وتحظى بتأييد واسع. استغرب أن لقاءاتها المتكررة مع بوتين لم تمكنها من قراءة نياته الحقيقية. أنا يحق لي أن أكون ساذجاً لكن لا يحق للحاكم أن يكون كذلك. لقد تركت ألمانيا تعتمد بنسبة تزيد على ستين في المائة على الغاز الروسي وهو حيوي للتدفئة والصناعة. لا يجوز ترك مصير ألمانيا في عهدة رجل أظهرت حرب أوكرانيا أنه مريض وشديد الخطورة. ها نحن نعود إلى القلق. والفواتير ترتفع. وقد تكون مشكلة ألمانيا أقل من مشاكل بولندا ودول البلطيق». وأضاف: «أنا أكره الحرب. دفعنا الثمن غالياً. والدي قاتل في القرم وسانت بطرسبرغ في أيام هتلر. وعانى جيلنا طويلاً من الاتهامات والإرث. لا نريد الحرب لكنني أشعر أن أوروبا لن تكون آمنة إذا انتصر بوتين. العالم نفسه لن يكون آمناً».
لم ينكر وجود انقسام في الرأي العام الألماني حول درجة دعم أوكرانيا بالسلاح. وختم: «فوجئت بالصلابة التي أبداها الأوكرانيون. يستحقون الدعم. وفاجأني أن يقف الرئيس زيلينسكي بشجاعة وبراعة في وجه الرئيس الروسي وآلته العسكرية والإعلامية».
صورة السيد الرئيس
على مسافة مئات الأمتار من الفندق يرفرف علم أوكراني. فاجأني وجود صور لبوتين ملقاة أرضاً وعلى مقربة منها سيدة ترفع لافتة تندد بقتل الأطفال والنساء في أوكرانيا. خلتها أوكرانية للوهلة الأولى. وحين سألت قالت إنها متطوعة ألمانية تتحرك بمبادرة فردية ضد «الجريمة التي تنفذ على أرض أوكرانيا». استفسرت عن صور بوتين فأجابت: «هذا مكانها الطبيعي في ضوء تصرفاته. إنه رجل شديد الخطورة على العالم. السكوت يعني تكرار التجارب التي قتلت شعوباً بكاملها».
لم أكن أتوقع أن تبادر سيدة ألمانية إلى إلقاء صور بوتين في الشارع لتعريضها لإهانات من قبل العابرين. فاجأ بوتين كل الذي راهنوا على براعته في تفادي توريط بلاده وتوريط العالم معها. اعتقدت أسوة بكثيرين أنه سيحرك قواته على حدود أوكرانيا لإثارة الخوف من حرب لن تقع ولن يقع فيها. وأنه سيرجع من المناورات ببعض المكاسب والتطمينات.
أحزان الزائر الأوروبي
على شرفة الفندق المقابلة لبوابة براندنبرغ نزل الليل لطيفاً. كنت أراجع ما سمعته أثناء النهار. لفتني رجل يجلس قريباً مكتفياً بالتحديق في البوابة والعابرين. وحين تسلل شيء من البرد إلى الطقس طلب كأساً جديداً ليحتمي منه. ولأن الصحافي مزعج بطبيعته قلت أخترق عزلته وأطرح عليه الأسئلة نفسها.
فوجئ السيد هنري بمبادرتي. قال إنه أمضى العمر مجهولاً ولم يشاهد اسمه أو صورته في صحيفة ولن يغير عادته. ثم استدرك أنه لا يمانع أن نتبادل الحديث كنزيلين في الفندق نفسه. قال: «أنا فرنسي لكنني أوروبي بالقدر نفسه. أحب برلين وأزورها بين وقت وآخر. لهذه الزيارة طعم مختلف. أعتقد أننا نتجه إلى أيام أوروبية سيئة. المسألة أكبر من ارتفاع أسعار السلع الغذائية وفواتير التدفئة. فكرة أوروبا نفسها مطروحة على الطاولة. كانت دول القارة تستعد لإنفاق المزيد على جهود البيئة والمناخ والتعليم والابتكار، وها هي تقرر إنفاق المزيد على الدبابات والمسيّرات والصواريخ. هذا تغيير كبير جداً».
وأضاف: «لم أكن يوماً معجباً بالسياسة الأميركية. وأعتقد أنه كان من واجب أميركا أن تدس بعض الماء في نبيذ نشوتها بانهيار الاتحاد السوفياتي، وأن تراعي مشاعر روسيا الطبيعية منها والمصطنعة. لم تفعل. ربما لذلك كان لدي قدر من التعاطف مع بوتين. لم أتوقع أبداً أن يتسبب في هذه المأساة. أعتقد أن اقتصاد بلاده سيدفع غالياً ثمن مغامرته. ستزداد حياة الروس صعوبة وستتخلف بلادهم عن ركب التقدم التكنولوجي، وستترسخ كراهية الغرب في نفوسهم وهي موجودة أصلاً. إننا لا نتحدث عن كوريا الشمالية أو إيران. إننا نتحدث عن أمة عظيمة اسمها روسيا فرضت الجغرافيا على أوروبا أن تتعايش معها».
ورأى أن «نجاح بوتين في تحطيم أوكرانيا لا يعد انتصاراً في المدى البعيد. أعتقد أن الصين قد تكون الرابح الكبير إذا استمرت في إدارة موقفها من الأزمة من دون الوقوع في الاستقطاب. كان على بوتين أن يفكر ملياً لماذا لم تحاول الصين استرجاع تايوان بالقوة. أنهكت (كورونا) العالم وها هي الحرب في أوكرانيا تضاعف مآسيه».
وختم قائلاً: «أنا متشائم فقد تكون الأيام الأوروبية الجميلة انتهت. وعلينا ألا ننسى أننا فيما نتكلم على شرفة فندق جميل، هناك أم أوكرانية تبكي على ابنها أو بيتها. وهناك أم روسية استقبلت جثمان ابنها الجندي العائد في نعش من أوكرانيا. هذه المشاهد ستغير أوروبا وتغير معها العالم».
ما أصعب النوم قرب المكان الذي توارى منه جدار برلين. وما أصعب التكهن ما إذا كانت الحرب الروسية ستؤدي إلى قيام جدار يقسم أوكرانيا على غرار ما فعله الجدار السابق بألمانيا. إذا كان صحيحاً أن الغرب اتخذ قراراً حاسماً بمنع بوتين من الخروج منتصراً من حربه الحالية، فإننا سندفع بالتأكيد ثمن الاستنزاف المتسارع في أوكرانستان.



نهاية «التعايش القسري» بين العشائر العربية و«قسد» في الجزيرة السورية

سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)
سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)
TT

نهاية «التعايش القسري» بين العشائر العربية و«قسد» في الجزيرة السورية

سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)
سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)

تتفاوت مواقف العشائر العربية في منطقة الجزيرة السورية من «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» بين القبول والرفض والتحفظ؛ فبعض العشائر تتعاون معها في إدارة مناطقها، بينما ترفضها عشائر أخرى وتعارض وجودها كلياً، فيما تتخذ عشائر ثالثة مواقف وسطية أو متغيرة بناء على التطورات الميدانية والسياسية.

وفي حين يرى بعض العشائر في «قسد» حليفاً ضرورياً للحفاظ على الأمن والاستقرار في مناطقها، خصوصاً في ظل التهديدات المستمرة من قبل تنظيم «داعش» وغيره من الجماعات المسلحة، تتهم عشائر أخرى «قسد» بممارسة التمييز ضد العرب، وبتهميشهم في الإدارة المحلية؛ ما يدفعها إلى رفض التعاون معها ومعارضتها. وفي تصعيد جديد للمواقف الشعبية في شمال وشرق سوريا، أصدر شيوخ ووجهاء عشائر عربية من محافظات دير الزور والحسكة والرقة بياناً موجّهاً إلى قيادة التحالف الدولي، وعلى رأسها الولايات المتحدة، طالبوا فيه بوقف الدعم العسكري والسياسي المقدّم لـ«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» وجميع التشكيلات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة السورية.

مشهد لنهر الفرات الذي يعبر الجزيرة السورية وقد بدا في الخلفية جسر دير الزور الأثري مدمراً (غيتي)

وأكد البيان أن ممارسات «قسد» التي وصفها بـ«القمعية»، أدَّت إلى فقدان الأمن والاستقرار وانتشار الفوضى في المنطقة، محمّلين التحالف الدولي المسؤولية المعنوية والقانونية عن استمرار هذا الوضع.

فقد وثَّقت وسائل إعلام محلية، مقتل الطفل فريد الهريش في بلدة أبو حردوب برصاص عنصر من «قسد»، بتاريخ 26 يونيو (حزيران) الماضي. وفي 2 يوليو (تموز)، لقي الطفل علي العوني حتفه، أثناء جمعه للقمح قرب حاجز عسكري. ولا تقتصر الانتهاكات على القتل المباشر، بل تتسع لتشمل اختطاف الأطفال وتجنيدهم قسرياً، عبر منظمة «الشبيبة الثورية»، أو فرض دفع بدل يقارب 300 دولار للإعفاء من الخدمة العسكرية. ويفرض أخيراً على الزائرين من الخارج ممن تجاوزوا الخامسة والعشرين إجراءات بيروقراطية، ودفع مبالغ مالية لاستصدار إعفاءات.

وشدّد الموقعون على البيان على تمسكهم بـ«وحدة سوريا ورفضهم لأي مشاريع انفصالية»، داعين إلى إعادة سلطة الدولة السورية على كامل المناطق الشرقية والشمالية، ودمج العناصر الراغبين من «قسد» في صفوف الجيش السوري بقيادة الحكومة الشرعية. وفي الأول من يوليو (تموز)، وجَّه 14 شخصاً من شيوخ ووجهاء عشائر وقبائل العقيدات وشمّر والبوشعبان والبقارة، إضافة إلى عشائر البوليل والمشاهدة والبوسرايا من محافظات دير الزور والحسكة والرقة، بيانهم إلى قيادة التحالف الدولي، كما وجّهوا نداء إلى من سموهم «أبناءهم» المنخرطين في صفوف «قسد»، داعين إياهم إلى الانشقاق عنها والعودة للمشاركة في إعادة بناء الدولة.

غليان في الجزيرة

في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، قال ناصر حمود الفرج أحد الشيوخ الممثلين عن عشيرة البوشعبان ومن الموقِّعين على البيان، إن بيانات أخرى سبقته وحملت «الموقف ذاته، وعبّرت عن صوت أبناء العشائر، لكن الظروف الحالية، وتراكم الانتهاكات، والطلب الشعبي المتزايد، فرضت علينا أن نرفعه مجدداً، وبنبرة أكثر وضوحاً».

العشائر العربية وقد أعلنت «النفير العام» لمحاربة «قسد» في الجزيرة السورية عام 2023 (غيتي)

وكانت العلاقة بين «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» والعشائر، في شمال شرقي سوريا، تشكلت على أساس المصالح المتبادلة، من حيث تقديم الدعم لهذه القوات مقابل تأمين مناطقهم، ومنع وصول تنظيم «داعش» إلى مناطقهم بعدما فَرَض سيطرته على أجزاء واسعة من غرب العراق وشرق سوريا، في يونيو (حزيران) 2014. إلا أن العلاقة شهدت تقلبات حادة؛ فانتقلت من مرحلة التنسيق المشترك بين «قسد» وعشائر البقارة وشمر وغيرهما وخوض الحرب ضد «داعش» بين عامي 2015 و2017، إلى احتجاجات صاخبة خلال عامي 2018 و2019 ضد التجنيد الإجباري للشبان والفتيات، وتهميش دور العشائر في الإدارة الذاتية والاستئثار بالموارد الطبيعية، كالنفط والمياه، والأهم رفض العشائر للتقارب مع نظام بشار الأسد الذي بدأت الإدارة الذاتية التفاوض معه بعد العملية العسكرية التركية «نبع السلام».

وشدد الفرج على أن توقيت البيان «لم يُفرض من الخارج، بل جاء بناء على رغبة أبناء العشائر في الداخل، الذين يطالبوننا علناً بالتحرك، وإنهاء حالة التهميش والخنق التي تُمارَس ضدهم منذ سنوات»، بحسب قوله، مشيراً إلى ما سماه «حالة غليان واضحة في الجزيرة السورية» لرفض «الوصاية الأجنبية والانفصال عن سوريا أو المحاصصة وضرورة التحاق جميع مكونات الشعب السوري بالدولة السورية الجديدة».

وحول الأسباب التي دعت العشائر لاصدار البيان، قال الفرج إن «ما يجري في شرق الفرات لا يمكن الاستمرار في تجاهله. صوت العشائر اليوم أصبح أعلى، وأكثر تنظيماً، وأكثر وعياً. نحن نمثل هذا الصوت، وسنستمر في نقل مطالب أهلنا إلى كل الأطراف الدولية والإقليمية، حتى تعود الجزيرة لأهلها، وينتهي زمن الوصاية». وذكر الشيخ بأن أبناء الجزيرة السورية يعانون منذ سنوات طويلة من «ممارسات قمعية متعددة» لقوات «قسد» تتعلق بالتهميش المتعمَّد لأبناء الجزيرة السورية تتراوح من فرض مناهج تعليمية «مؤدلجة» لا تعكس «ثقافة وهوية المنطقة»، وصولاً إلى فرض واقع أمني والاستيلاء على الثروات الزراعية والنفطية وتوظيف بعض إيراداتها «لشراء الولاءات»، في حين يعيش سكان المنطقة حالة من الفقر والعوز. هذا بالإضافة إلى قمع الحريات ومنع الاحتجاجات والاعتقالات التعسفية لكل مَن يعبّر عن رأي مخالف.

خيار التحرك العسكري

وأوضح الفرج أن هذه العشائر «تمثل خطاً مستقلاً»، يحمل مطالب واضحة من سكان في الجزيرة السورية التي وصفها بـ«المحتلة»، مشدداً على أنها «لا تعمل ضد أحد، بل تعمل من أجل إخراج قوات (قسد) الانفصالية من المنطقة، سواء عبر الحل السلمي أو بالتحرك العسكري بمساندة القبائل، إذا اقتضى الأمر». والتحرك العسكري، وفقاً للشيخ الفرج «ليس من أجل القتال بل من أجل استعادة الحق وضمان وجود عربي فاعل داخل الدولة السورية الواحدة بعيداً عن الوصاية أو الإقصاء».

من المواجهات المسلّحة بين مقاتلين من العشائر العربية و«قسد» و«حزب العمال الكردستاني» في منطقة منبج في الشمال السوري في سبتمبر 2023 (غيتي)

وبعكس الشائع، لا تقتصر قوات «قسد» على العنصر الكردي فحسب، وإن كانت تتشكل بشكل أساسي من «وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)»، ولكنها تضم أيضاً مكونات عربية وازنة مثل «قوات الصناديد» التابعة لقبيلة شمّر ذات العمق التاريخي والجغرافي، ومكونات سريانية، كالمجلس العسكري السرياني، وبعض الفصائل العربية الاخرى. وتحاول «قسد» دائماً تظهير تواصلها مع شيوخ ووجهاء القبائل في مناطق سيطرتها، ولكن هذا لا يعني ولاء مطلقاً من كل أفراد القبيلة.

وتُبرِز العلاقة بين «قسد» والعشائر شكلاً معقداً ومتداخلاً في التحالفات والولاءات بين القوى الفاعلة سواء النظام السوري السابق الذي أيَّدته بعض فروع عشائر البقارة والعقيدات وطي، أو الولايات المتحدة وقوات «قسد» التي حظيت بتأييد عشائر أخرى، مثل شمر وبعض فروع عشيرة البقارة. وعلى الرغم من أن الموقف العام لعشيرة العقيدات، خصوصاً قياداتها التقليدية، هو العداء لـ«قسد»، فإن هناك انقساماً داخل القبيلة نفسها. بعض فروع العقيدات أو أفراد منها يوالون «قسد»، وينخرطون في تشكيلاتها، مثل بعض قيادات «مجلس دير الزور العسكري»، حتى أزمة اعتقال «قسد» لرئيس المجلس، أحمد حامد الخبيل الملقب «أبو خولة» عام 2023، التي كتبت نهاية أي شكل من العلاقات بينهما.

وكشف الفرج عن جهوزية «شريحة كبيرة جداً من أبناء القبائل والعشائر للتحرُّك، وهم بانتظار اللحظة المناسبة سياسياً وأمنياً». وقال: «الموقف لم يعد قابلاً للتأويل (...) نحن كعشائر عربية نطالب (التحالف الدولي) بدور فعّال، ونرفض أن نكون مجرد تابعين لمشروع لا يمثلنا».

وحتى هذه اللحظة، لا يوجد تواصل مباشر بين العشائر وقيادة التحالف الدولي وفقاً للفرج، الذي قال إنهم «بانتظار موقف واضح (من الأميركيين)، بعدما وصلت إليهم رسائلنا عبر قنوات مدنية واجتماعية». وطالب الفرج التحالف بـ«إعادة تقييم دعمه لقوات «قسد» التي تمثل طرفاً انفصاليا لا يحظى بشرعية مجتمعية حقيقية، من شأنه أن يفاقم حالة الانقسام في المجتمع السوري، ويؤثر سلباً على وحدة الأراضي السورية وسيادة الدولة».

طابور من الأسرى ينتظر تسليمه بحلب في الجزء الأول من الاتفاق بين الحكومة السورية و«قسد» أبريل الماضي (خاص بالشرق الأوسط)

وفي أعقاب الاشتباكات التي اندلعت خريف عام 2023 بين قوات «قسد» وبعض العشائر العربية في دير الزور، وبعد تدخلات من جهات محلية ودولية (مثل التحالف الدولي)، قامت «قسد» بالإفراج عن دفعات من المعتقلين، في محاولة لتبريد الأجواء مع العشائر. وبعض هؤلاء اعتُقِلوا على خلفية الاشتباكات المسلحة، وبعضهم الآخر اعتقل بتهم الانتماء لـ«داعش» أو غيرها؛ إذ شنت «قسد» في ذلك الوقت حملة توقيفات ضد أبناء العشائر بتهمة جاهزة. وتمت هذه الإفراجات «بضمانات من شيوخ العشائر»، كجزء من جهود تهدئة الأوضاع. واستمرت عمليات الإفراج عن دفعات من المعتقلين لأشهر عديدة، آخرها كان في سبتمبر 2024. كما أن هناك اتفاقات بعد اتفاق العاشر من مارس (آذار) 2025، بين «قسد» والحكومة السورية الحالية تضمنت بند «تبييض السجون» وإطلاق سراح المعتقلين من الطرفين.

وفي أبريل (نيسان) 2025، تم تنفيذ المرحلة الأولى من عملية تبادل المعتقلين بين دمشق و«قسد» في حلب. وشملت هذه العملية إطلاق سراح نحو 250 معتقَلاً من الطرفين، حيث أفرجت السلطات السورية عن 140 معتقلاً من «قسد»، مقابل إفراج «قسد» عن نحو 100 معتقل، وهو اتفاق تعثَّر في مراحل لاحقة.

على الجانب الاخر، كشف الفرج أن هناك تواصلاً مع الدولة السورية، لا سيما أن أغلب قيادات الدولة الجديدة هم من أبناء هذه العشائر نفسها، ومن مناطق تخضع حالياً لسيطرة «قسد»، مبيناً أن «تواصلنا مع دمشق ليس على حساب أحد، بل لصالح استعادة السيادة وبناء شراكة وطنية تحفظ كرامة الجميع وتحافظ على وحدة سوريا»، وهذا سيكون أولاً من خلال عودة الجيش العربي السوري إلى كامل الأراضي السورية، من الشمال الشرقي حتى الجنوب والحدود، ضمن إطار وطني جامع، يشمل شراكة حقيقية مع العشائر والفاعليات الاجتماعية، لا مجرد حضور أمني أو إداري شكلي»، وفق ما قاله لـ«الشرق الأوسط».

ديوان لمقاتلي عشائر عربية في الجزيرة السورية إبان الاشتباكات مع «قسد» و«العمال الكردستاني» في 2023 (غيتي)

من جهته، قال شيخ «البو سرايا»، زياد الشلاش، أحد الموقّعين على البيان، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن عشيرته «على تواصل مستمر مع الحكومة السورية في سبيل توحيد الأراضي السورية ورفض أي شكل من أشكال التقسيمات المفروضة كأمر واقع». وتابع: «تواصل شخصياً مع السيد مظلوم عبدي، وهو رجل حريص على وحدة سوريا واستقرارها، ولذلك نرى أنه من الواجب دعم موقفه وتقويته». وأضاف الشلاش: «نحن لا نريد لأبناء العشائر العربية أن يكونوا وقوداً لمشاريع انفصالية، ولهذا دعوناهم للانشقاق. وفي الوقت نفسه، لا نريد لإخوتنا الكرد أن يُزج بهم في معارك لا تخدمهم، أو أن يكونوا حَطَباً لإرضاء مطامع بعض القوميين القادمين من خارج سوريا».

تغيير في الخطاب

كانت نخب اجتماعية من أبناء الجزيرة السورية والفرات أعلنت، منتصف أبريل (نيسان) الماضي، تأسيس «مجلس التعاون والتنسيق في الجزيرة السورية والفرات»، بهدف الدفاع عن مصالح أبناء الجزيرة. جاء الإعلان مع إصدار العشائر العربية بيانات ترفض وصاية «قسد» على منطقة الجزيرة السورية، بصفتها «قوة احتلال»، وبحسب بيان التأسيس الذي اطلعت عليه «الشرق الأوسط»، فإن المجلس يسعى لتوحيد الصوت السياسي والإعلامي والمدني في مواجهة «سلطات الأمر الواقع، المتمثلة بـ(قسد)»، ورفض مشاريع التقسيم التي تهدد وحدة سوريا. وكذلك رفض ادعاء تمثيل «قسد» لعرب الجزيرة والفرات في أي مفاوضات مع الحكومة السورية، أو في أي محفل سياسي داخلي وخارجي.

شباب جامعيون من أبناء دير الزور في حملة تنظيف وتلوين لجدران المدينة بعد سقوط نظام بشار الأسد (غيتي)

وتُشكّل محافظات دير الزور والرقة والحسكة، الواقعة في شرق وشمال شرقي سوريا، نسيجاً متنوعاً يعكس تاريخ المنطقة وثقافاتها المتعددة. يشكل العرب المكون السكاني الأكبر والأكثر هيمنة في هذه المحافظات، خصوصاً في دير الزور والرقة حيث تُعد العشائر العربية الكبيرة والممتدة، مثل العقيدات والبقّارة والشعيطات (التي قتلت منها داعش 800 شخص في مجزرة واحدة) والجبور، العمود الفقري للتركيبة السكانية. أما في الحسكة، فبينما يشكل العرب غالبية سكان الريف الجنوبي والغربي، تُعد القومية الكردية المكون الأكبر في مناطق الشمال والشمال الشرقي، حيث تتركز مدن، مثل القامشلي ورأس العين، وتمتلك وجوداً نسبياً في باقي المحافظة. إلى جانب المكونين العربي والكردي، توجد أقليات عرقية ودينية أخرى مهمة تساهم في ثراء التنوع السكاني. فـالسريان، وهم مسيحيون، يتركزون بشكل خاص في الحسكة، ولهم وجود تاريخي وثقافي عريق في المنطقة، ويمثلون الغالبية في بعض القرى والبلدات الخاصة بهم، مثل تل تمر. كما يوجد في هذه المحافظات عدد أقل من التركمان والشركس والأرمن، لا سيما في مدن، مثل الحسكة والقامشلي. لذلك فإن أي خيار سياسي- عسكري لا يراعي هذا التنوع ومصالحه مرشح للانفجار في اي لحظة.

وفي تغيُّر ملحوظ بالخطاب الإعلامي والرسمي، باتت مواقع إخبارية رسمية أو مقربة من الحكومة السورية تلقي الضوء على «انتهاكات» لقوات «قسد» ضد مدنيين في مناطق الجزيرة السورية على غير عادتها، كما أن مسؤولين سوريين باتوا أكثر وضوحاً في الحديث عن الموقف من قوات «قسد»، بعيداً عن الخطاب الإعلامي الرسمي الذي يركز على اتفاقية العاشر من مارس الموقَّعة بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات «قسد» مظلوم عبدي، ونشاطات اللجان المكلفة وضع تفاصيل الاتفاق قيد التنفيذ.

ففي 30 يونيو الماضي، أوضح محافظ دير الزور، غسان السيد أحمد، أن الخيار العسكري ضد «قسد» لا يزال مطروحاً على الطاولة كخيار أخير في حال فشلت جميع المساعي والجهود التفاوضية معها.

وأكد أن هناك استعداداً عسكرياً كاملاً، حيث تم تجهيز ثلاث فرق عسكرية متكاملة وجاهزة للتدخل حال تعثر المفاوضات، دون الكشف عن تفاصيل أخرى، مؤكداً على أن الوضع الأمني بوجود «قسد» يؤثر بشكل مباشر على عمل بعض المرافق الحيوية، مثل استمرار تعليق العمل بمطار دير الزور، نظراً لحاجة الطيران إلى «التحليق الجوي فوق المناطق التي تسيطر عليها»، وهو ما يتطلب ترتيبات أمنية وفنية خاصة، حسب قوله.

إلى جانب تسبب «قسد» في تعثر كبير بمشاريع إعادة تأهيل البنية التحتية، وعلى رأسها الجسور الرئيسية التي تربط بين مناطق المحافظة المختلفة.

حلّ سلمي وتيارات متنازعة

ويرى رئيس وحدة الدراسات في مركز «أبعاد» للدراسات الاستراتيجية، ومقره لندن، الباحث السوري فراس فحام، أن الحشود العسكرية للجيش السوري هي بسبب «الانتهاكات اليومية لقوات (قسد) في منطقة شرق الفرات (منطقة الجزيرة)، وكذلك قيامهم بحالات القنص والمداهمات والاعتقالات العشوائية والاغتيالات بحق أبناء العشائر والقبائل العربية».

أحمد الحمزة السطم ناشط مدني اعتقلته «قسد» من منزله في حي المشلب بمدينة الرقة 20 مايو 2025 (الشبكة السورية)

وكانت «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» وثقت مقتل عشرة مدنيين على يد «قسد» في عام 2024، من بينهم طفلان تحت التعذيب. وفي فبراير (شباط) 2025، وثّقت الشبكة مقتل 65 مدنياً، بينهم طفل وسيدتان قُنِصوا على يد قوات «قسد» في مدينة حلب.

وتوقع «فحام» أن يتم تنفيذ الاتفاق بين الحكومة و«قوات (قسد) بعيداً من المواجهات العسكرية التي ستكون لها تداعيات سلبية على جميع الأطراف»، لكن هناك أكثر من تيار أو جناح داخل «قوات (قسد) يرفض بشكل قاطع الحل السياسي، لرغبتهم في الاحتفاظ بمنطقة الجزيرة السورية الغنية بالنفط والغاز والثروات الزراعية والمياه، وهي مناطق حيوية ضمن مشروعهم المحمي دولياً من التحالف الدولي، بذريعة محاربة إرهاب تنظيم (داعش) الذي أعطاهم شرعية البقاء وتلقي الدعم الدولي».

وحذر فحام من أن المنطقة عبارة عن «بركان خامل حالياً، ولكن لن يدوم خموله طويلاً، لذلك إذا لم يحصل اتفاق فستكون هناك مواجهات دامية قد تستدعي تدخُّل أطراف أجنبية، مثل الجيش التركي؛ سواء براً أو جواً، نظراً إلى أن أنقرة ترفض أي اتفاق يعطي لقوات (قسد) نوعاً من الإدارة الذاتية أو الفيدرالية».

نهاية التعايش القسري

على صعيد ذي صلة، يرى مضر حماد الأسعد، رئيس المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية، أن الخيارات المتاحة أمام «قسد» باتت ضيقة جداً، بعد ما صدر عن المبعوث الأميركي لسوريا توماس باراك الذي حدَّد فيها أن «الحكومة السورية هي الطرف الوحيد الذي يمكن التفاوض معه»، وقد تشهد المنطقة مستقبلاً عملية عسكرية للجيش السوري بضوء أخضر أميركي، وإن كان غير معلن، بالتنسيق مع تركيا. والرهان دائماً على أن أي معارك عسكرية ستؤدي إلى تحرك عشائري في مناطق سيطرة (قسد) والتسبب بانهيارها»، حسب قوله.

صورة جويّة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» بمشاركة «قوات التحالف الدولي» في دير الزور شمال شرقي سوريا في 2022 (غيتي)

وكشف الأسعد عن تيار أو جناح داخل قوات «قسد» يرتبط مباشرة بحزب العمال الكردستاني، يتبنى خيار المواجهة العسكرية مع الحكومة السورية لتكريس الأمر الواقع، مؤكداً على أن المطلوب من قوات «قسد» مرحلياً تسليم كامل محافظتي الرقة ودير الزور، والانكفاء إلى محافظة الحسكة، وبخلاف ذلك «قد» تشهد المنطقة مواجهات عسكرية «محدودة» كما يصفها في ختام حديثه لـ «الشرق الأوسط». ويُبرز البيان العشائري الأخير تصاعدا حادّا في رفض القبائل العربية لسيطرة «قسد» على مناطق شمال وشرق سوريا، كما يعكس تحولا نوعيّا في موقف العشائر من التعايش «القسري» طيلة سنوات الثورة إلى المطالبة العلنية بإنهاء الوجود العسكري والإداري لتلك القوات وفرض سلطة الدولة بالكامل.

ورغم تباين المواقف التاريخية بين العشائر، يبدو أن السخط المتصاعد على خلفية التهميش والاعتقالات وغيرها قد وحّد خطاباً عشائريّاً يطالب بعودة الجيش السوري. وتظل الخيارات معلقة بين التفاوض والمواجهة العسكرية، خصوصاً مع تصريحات رسمية سورية عن جاهزية القوات الحكومية. هذا التصعيد يضع التحالف الدولي في عملية موازنة حرجة بين دعم حليفه «قسد» المُتنازع على شرعيته محليّاً، وضغوط العشائر التي تُحذِّر من انفجار الوضع، وهو ما لا تريده واشنطن، وتعمل على تجنّبه.