كثر الحديث عن الحرب العالميّة الثالثة، وذلك استمراراً للحربين السابقتين، الأولى والثانية. وحلّل البعض قائلين إن هذه الحرب الثالثة ستكون بين أميركا والصين. فالصين قوّة صاعدة تريد ضرب «الستاتيكو» (statu quo) القائم، في المقابل تريد أميركا أن تحافظ على هذا الوضع الراهن.
لذلك، هناك فرق بين تعديل «الستاتيكو» في تركيبته القائمة، ليتأقلم مع التحوّلات الكبرى، وبين ضرب «الستاتيكو» واستئصاله من جذروه لبناء واقع جديد مختلف كلّياً عن الواقع الذي سبقه، أي نظام عالمي جديد.
لكن التغيير الجذري، وحسب ما علمّتنا تراكمات التاريخ، لا يحصل إلا بعد وقوع أحداث كبيرة جداً، أهمّها الحروب العالميّة.
فهل نحن أمام حرب عالميّة ثالثة؟
يقول المفكّر الأميركي جورج مودلسكي، إن ديناميّة التغيير الجذري في النظام العالمي تحصل على أربع فترات من الزمن، كلّ فترة منها هي عبارة عن 25 سنة، ليكون الحاصل العام قرناً من الزمن، وذلك على الشكل التالي:
* أوّل 25 سنة هي فترة الحرب الكونيّة والفوضى.
* ثاني 25 سنة، تتظهّر فيها قوّة مهيمنة.
* ثالث 25 سنة، يبدأ فيها تآكل شرعيّة القوة المهيمنة.
* رابع 25 سنة، هي فترة تشتّت موازين القوّة من المركز إلى الأطراف، وبذلك نعود إلى المرحلة الأولى من نموذج مودلسكي
أين العالم اليوم من هذا النموذج؟
قد يمكن القول إنه، وبعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، بدأت ديناميّة التحضير للحرب العالميّة الثالثة. ألم يقل الجنرال الأميركي جورج باتون إبّان الحرب على ألمانيا، بعد إنزال النورماندي، وبعد تصادمه مع الجيش السوفياتي الآتي من الشرق: «عاجلاً أم آجلاً سنقاتلهم، لماذا ليس الآن»؟
سنذهب مباشرة في هذه العجالة إلى الربع الثالث من نموذج مودلسكي لتحليل واقع اليوم من منظار الأمس، أي تآكل شرعيّة المهيمن. كان النظام العالمي ثنائي القطب بعد الحرب الثانية. لكن هذا النظام، وبسبب الردع النوويّ، انتقل من الحرب المباشرة بين القوى العظمى إلى الحرب بالواسطة. وبدأ هذا النظام يتآكل بدءاً من الحرب الكوريّة في عام 1950. تلتها حرب فيتنام، لتزيد من هشاشة النظام العالمي.
وتلا هذه الحروب، تقريباً، خمس حروب عربيّة إسرائيليّة، تخلّلتها الأزمة الأخطر، ألا وهي الأزمة الكوبيّة في الستينات.
وكلّ هذه الحروب كانت من أهمّ عوامل تآكل النظام العالمي الثنائي الأقطاب. لكن أغلبها حصل في مناطق بعيدة جغرافياً عن حدود القوى العظمى، أميركا والاتحاد السوفياتي، باستثناء الأزمة الكوبيّة التي دخل فيها العامل النووي، والذي شكّل مسألة حياة أو موت للولايات المتحدة الأميركيّة.
لكن الجدير ذكره، أن القوى العظمى استطاعت أن تجد حلولاً لكلّ الأزمات والحروب المذكورة آنفاً، دون الاضطرار إلى تغيير تركيبة النظام العالمي القائم.
يقول البعض إن سقوط الاتحاد السوفياتي كان تثبيتاً لشرعيّة الولايات المتحدة الأميركيّة في حكم العالم أحادياً. وفي ذلك كتب المفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما كتابه الشهير: «نهاية التاريخ».
ويقول البعض الآخر إن سقوط الاتحاد السوفياتي أعطى فترة سماح للولايات المتحدة الأميركيّة لتهيمن أحادياً، حتى وقوع كارثة 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
وعليه، بدأ التآكل السريع للقوّة الأميركيّة بعد إعلانها الحرب العالميّة على الإرهاب.
أين حرب أوكرانيا من الماضي والمستقبل؟
تختلف حرب أوكرانيا عن غيرها من الحروب السابقة بالأمور التالية:
* هي تحصل من ضمن نظام قديم مهترئ، والدليل على ذلك هو غياب دور الأمم المتحدة، خصوصاً مجلس الأمن، في الحرب الأوكرانيّة.
* هي تحصل جغرافياً في قلب أوروبا، كون البعض يعتبر أن أوكرانيا هي «باب أوروبا».
* إذا خسر بوتين أوكرانيا ترتفع نسبة هشاشة الأمن القومي الروسي، كون أوكرانيا تشكّل خطراً وجودياً على روسيا.
* وإذا ربح بوتين الحرب الأوكرانيّة، سيكون له تأثير مباشر على منظومة الأمن القومي الأوروبيّ، هذا عدا عن أمن الطاقة والغذاء.
* يعتبر البعض أن الحرب الأوكرانيّة هي نقطة الذروة للنظام القديم، وبدء البحث عن نظام جديد
* لكن السؤال يبقى: هل البحث عن نظام عالمي جديد سيكون سلميّاً، أم عنفيّاً عبر حرب تقلب كلّ المقاييس؟ أي الانتقال إلى آخر ربع من نموذج مودلسكي؟
* وماذا عن عودة أميركا إلى أوروبا، بكلّ ثقلها، بعد غزوة بوتين؟ وماذا عن دور «الناتو» المستقبلي؟
* ماذا عن منطقة «الإندو - باسفيك» والخطر الصيني على أميركا؟
في الختام، تبقى الحسابات الخاطئة جزءاً أساسياً من قرارات الحرب عبر التاريخ. لكن يبدو أن التواصل الأخير بين وزيري الدفاع الأميركي والروسي هو عنصر إيجابي يفتح قنوات خفض التوتّر. فعلى حساب من ستكون التسويات؟
شظايا الحرب الأوكرانيّة
شظايا الحرب الأوكرانيّة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة