قنبلة الأقليات في إيران.. ومهاباد الشرارة

اتسعت رقعة الاحتجاجات لتصل إلى الأحواز جنوبًا بعد كردستان غربًا

قنبلة الأقليات في إيران.. ومهاباد الشرارة
TT

قنبلة الأقليات في إيران.. ومهاباد الشرارة

قنبلة الأقليات في إيران.. ومهاباد الشرارة

على نحو متزامن وبعد طول انقطاع، عاودت الاضطرابات الإثنية في إيران الاشتعال على أكثر من جبهة، إذ اتسعت رقعة الاحتجاجات لتصل إلى إقليم الأحواز (عربستان) جنوبا، بعدما تفجرت في إقليمي كردستان غربا وبلوشستان شرقا، ثم مؤخرا في مدينة مهاباد، ذات الأغلبية الكردية بولاية أذربيجان الغربية، بسبب انتحار فتاة كردية جراء تعمد السلطات الإيرانية الإساءة إلى الأكراد وسلبهم كرامتهم وحرياتهم وحقوقهم القومية والثقافية والإنسانية، الأمر الذي أسفر عن اعتقال أكثر من 300 كردي في مدينة مهاباد، بينهم العشرات من النساء، وأكثر من مائة آخرين في مدينة سردشت، بينهم ثلاث نساء.
في كل مرة تهتز جنبات إيران على وقع احتجاجات بعض الأقليات هناك، تطفو على السطح مجددا خطورة الملف الإثني في إيران، خصوصا ما يتعلق بحقوق الطوائف الدينية في الجمهورية الإسلامية الشيعية. وفيما اعتاد النظام الإيراني على اعتبار أحداث العنف الطائفي مؤامرات خارجية من تدبير أجهزة استخبارات غربية وإسرائيلية وإقليمية، توخيا منها للي ذراعه وتكثيف الضغوط عليه عبر النيل من أمن بلاده واستقرارها وكسر إرادتها، تظل استراتيجية نظام ولاية الفقيه في التعاطي مع التركيبة الإثنية في بلاده لغما ينذر بتوتير العلاقة بين الدولة الإيرانية ومواطنيها خصوصا الأقليات الإثنية من جانب، كما يشكل نقطة ضعف محورية يستغلها خصومه في الخارج ضده من جانب آخر.

ساعدت تطورات شتى على إعادة أزمة الملف الإثني في البلاد إلى الواجهة خلال السنوات القليلة الماضية، من بينها تفاقم المشاكل الاقتصادية والسياسية، ومحاولات الاتجاه بنظام ولاية الفقيه نحو مزيد من التسلط واحتكار السلطة عبر ما عرف بـ«النجادية»، نسبة إلى الرئيس محمود أحمدي نجاد الأمر الذي أدى إلى احتدام حرب تكسير العظام بين الخصوم والأجنحة السياسية المتنافسة داخل النظام الإيراني بشكل ملحوظ خلال الولاية الثانية لنجاد، على نحو تجلت ملامحه في إقالة وزير الخارجية منوشهر متقي وتعيين أكبر صالحي بدلا منه. وتتنوع الأقليات في بلد لا يتعدى تمثيل الفرس فيه نسبة 40 في المائة تقريبا من جملة السكان.

فسيفساء إثني

تطوي إيران موزاييك مكونا من عدة قوميات أهمها الفرس والترك والكرد والعرب والتركمان واللور والجيلان. ويتهم نشطاء هذه القوميات السلطات المركزية بممارسة سياسة التفريس حيالها منذ ثمانية عقود بهدف صهر هويتها في أخرى فارسية. لذا، نشطت تلك الأقليات في تحري الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على هويتها بالتوازي مع مطالبة السلطات الإيرانية بتطبيق المواد المعطلة من الدستور الحالي التي تؤكد المساواة بين القوميات والسماح لأبنائها بتعليم لغاتها القومية، وصولا إلى مطالبة بعضها بالانفصال.
وبينما تؤكد الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنها لا تفرق بين مواطنيها على أساس القومية أو اللغة أو اللون أو المذهب، مبررة تعطيل بعض مواد الدستور الخاصة بضمان حريات وحقوق تلك الأقليات، بقسوة اعتبارات الأمن القومي وظروف عدم الاستقرار الإقليمي التي لا تسمح بذلك في الوقت الحاضر، ترتئي تلك الأقليات أن ثمة خللا ما يكتنف أسلوب تعاطي النظام الإيراني مع قضيتي المواطنة والتنمية إزاء المناطق التي تعيش فيها أفرادها. فبخصوص المواطنة، لا يتورع النظام الإيراني عن ممارسة التمييز ضد مواطني الأقليات في صور شتى ما بين استبعادهم من تولي المناصب الرفيعة في الدولة، وهو تمييز محمي من قبل الدستور الإيراني الذي يحتوي على مواد عنصرية. فرغم أن المادة 19 من الفصل الثالث منه تنص على عدم التمييز بين الإيرانيين على أساس عرقي، فإن المادة 12 تتجاهل حق التنوع الإثني والحرية الدينية إذ تنص على أن المذهب الجعفري الإثني عشري هو المذهب الرسمي للدولة، كما تلزم المادة 121 رئيس البلاد بحماية هذا المذهب بكافة الوسائل، واشترط الدستور أيضا على من يتولى رئاسة الدولة أن يكون من أصل إيراني ويحمل الجنسية الإيرانية، ويكون مؤمنا ومعتقدا بمبادئ جمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمي للبلاد، وهو ما يصادر على حق المسلمين السنة من أكراد وتركمان وعرب وغيرهم في هذا المضمار.
كذلك، تعاني الأقليات في إيران من وطأة القيود التي تعوقها عن مباشرة حقوقها الثقافية رغم أن الدستور الإيراني ينص في البندين 15 و19 على حق الأقليات في استعمال لغاتهم في المجالات التعليمية والثقافية، حيث تمنع السلطات بناء أي مسجد للسنة بالعاصمة طهران رغم وجود كنائس ومعابد يهودية وحتى أماكن عبادة لأتباع الديانات الوثنية كالزرادشتية. وفيما يتعلق بالتنمية، تشكو تلك الأقليات من تهميش نظام طهران لها وتقصيره في تنمية الأقاليم التي تعيش بها، كما تعامله بعنف واستعلاء مع سكانها، لا سيما بعد أن أوكلت السلطات أمن المنطقة الحدودية إلى قوات الحرس الثوري بزعم التصدي لتهريب وتجارة المخدرات في ظل الوجود الأميركي العسكري بالمنطقة.
ولا تقتصر الاتهامات للنظام الإيراني بممارسة التمييز الممنهج ضد الأقليات الإثنية في بلاده على ممثلي تلك الأقليات فحسب، وإنما اتسعت لتشمل جهات دولية وإقليمية. فمن جانبها، أدانت منظمة هيومن رايتس ووتش ما سمته اضطهاد الأقليات في إيران، وجاء في تقرير لها أنه «لا يزال أبناء الأقليات العرقية والدينية في إيران عرضة للتمييز، بل وللاضطهاد». وأشارت إلى «معاناة البلوش من عدم تمثيلهم في الحكومة المحلية». وفي سياق مواز، ورغم قيامها مؤخرا بإدراج تنظيم «جند الله» على «قائمة الإرهاب الأميركية» بعد أن أعلنت أنه استوفى، من وجهة نظرها، المواصفات الأميركية في هذا الصدد، ألقت واشنطن باللائمة، في أعمال العنف الطائفي التي تجتاح إيران، على ممارسات طهران التمييزية ضد السنة هناك. فرغم إدانتها لحوادث التفجير التي يقوم بها التنظيم داخل إيران، بما فيها ذلك الأخير، أوردت تسريبات «ويكيليكس» الأخيرة بشأن إيران عبر برقية صادرة من السفارة الأميركية بالعاصمة الأذرية باكو وموجهة إلى واشنطن بتاريخ 12 يونيو (حزيران) 2009 تحميل واشنطن تصرفات الرئيس الإيراني نجاد المعادية للسنة، مسؤولية الاضطرابات والتدهور الأمني في إقليم بلوشستان - سيستان. وأوردت البرقية أن مصادر عسكرية أذرية بينت قلق بلادها من تصاعد العنف بين الأقليات الإيرانية والحكومة، وأن أذربيجان التي تشارك إيران حدودا طولها أكثر من 430 كيلومترا لا تريد جارا مضطربا داخليا.
وأكدت المصادر أيضا أن الرئيس أحمدي نجاد يرتكب ممارسات معادية ومستفزة للسنة في إيران مثل التعرض لمشايخهم ومضايقتهم في صلاتهم والإغارة على مساجدهم. كما أمر أحمدي نجاد بعدة حملات استعراضية للتنكيل بالسنة خلال السنين الماضية. وقالت المصادر - وفق البرقية - إن ما يثير قلق بلادهم أن تلك الممارسات، وإلى جانبها نسبة البطالة المرتفعة والشعور بالتمييز وقلة الخدمات الحكومية، قد ساهمت جميعها في تكوين غضب كامن في نفوس البلوش الإيرانيين، حتى صاروا ينعتون الحكومة المركزية بطهران بـ«العدو»، وإن أحمدي نجاد تعمد إثارة البلوش السنة، عندما عين حليفه وأقرب أعوانه حبيب الله ديهموردا، الذي وصفته المصادر بالغبي والدموي واتهمته بكراهية السنة، حاكما على بلوشستان.
يعقوب التستري مسؤول المكتب الإعلامي لحركة النضال العربي لتحرير الأحواز، التي تأسست عام 1999، يقول لـ«الشرق الأوسط» إن الحركة تناضل من أجل تحرير الأحواز أرضا وشعبا بكل السبل المشروعة. يضيف: «شهدت الأحواز منذ مارس (آذار) الماضي مظاهرات واحتجاجات متواصلة ضد السياسات (الإجرامية للاحتلال الفارسي) على رأسها سياسة الاستيطان والاعتقالات والإعدامات العشوائية بحق أبناء شعبنا العزل. ويقول إن المظاهرات توسعت لتشمل عدة مدن أحوازية كمدينة الأحواز العاصمة والمحمرة والسوس. وبعد عدة أسابيع انضم الشعب الكردي لانتفاضة شعبنا بعد أن تظاهر الآلاف من أبناء شرق كردستان في مدينة مهاباد دفاعا عن كرامة وشرف الفتاة الكردية فريناز خسروي، ردا على القمع الوحشي للمظاهرات السلمية لشعبنا».
وقال إن النظام الإيراني لا يثق بالأقليات القومية أو الطائفية، وهناك علويون في إيران وأيضا لا يثق بهم. مؤخرا تم فتح مراكز دينية لهم ويتم التعامل معهم مجاملة للنظام السوري ومحاولة لاستمالتهم ويطلق عليهم هناك طائفة تسمى الـ«يارسان» قريبة منهم، قريبون جدا من العلويين ويتعرض هؤلاء لاضطهاد شديد من قبل الملالي.
وتتضارب المعلومات إزاء حجم السنة في إيران، فوفقا للإحصاءات الرسمية فهم يشكلون 10 في المائة من السكان، لكن مصادر سنية تقول إنهم يشكلون ثلث حجم السكان البالغ 74 مليون نسمة، في حين تقول مصادر مستقلة إنهم يشكلون ما بين 15 و20 في المائة من السكان وهم مقسمون إلى العرقيات الرئيسية الثلاث الأكراد والبلوش والتركمان، إضافة إلى العرب بإقليم خوزستان الذي كان يسمى عربستان قبل أن تضمه إيران إليها عام 1925. ويسكن هؤلاء قرب حدود إيران مع باكستان وأفغانستان، والعراق وتركمانستان.
وبينما يعاني البلوش والزرادشتيون التهميش والتمييز ضدهم، يعاني الأذريون الأتراك في إيران من بعض التمييز والغبن ففي مباراة لكرة القدم بثها التلفزيون الإيراني قبل أشهر، تضمنت هتافات مناهضة لهم بمدينة «تبريز» عاصمة إقليم أذربيجان الشرقي ذات الأغلبية التركية في شمال غربي إيران، حيث أطلق المشجعون شعارات تنعت الأتراك بالغباء. واندلعت الاحتجاجات بعدما أطلق مشجعو فريق بيروزي الإيراني خلال المباراة مع فريق تراكتورسازي التبريزي شعارات مسيئة ضد الأتراك وبثها التلفزيون الرسمي الذي كان ينقل المباراة مباشرة الأمر الذي أثار مشاعر الكثير من المواطنين الترك. وأطلق المتظاهرون الأتراك الغاضبون شعارات قومية أكدوا خلالها تمسكهم بهويتهم التركية واتهموا السلطات الإيرانية بانتهاج سياسات مناهضة لهويتهم واعتقل الأمن الإيراني العشرات من المشاركين في المظاهرات.
ومن خلال الهتافات التي رددها المتظاهرون الأتراك في مدينة تبريز، أكدوا على اسم الخليج العربي إلى جانب تسميتهم لبحر قزوين بالبحر التركي حيث هتفوا «بحر قزوين بحيرة لنا والخليج للعرب» إلى جانب شعارات أخرى من قبيل «ليعلم الجميع أننی ترکي» و«تحيا أذربيجان» و«أذربيجان موطننا والهلال والنجمة علمنا» و«الديمقراطية حقنا نناضل ضد الاستبداد» و«إننا مستعدون للشهادة إننا أحفاد بابك خورمدين».
عمر الخانزاده، السكرتير العام لحزب كادحي كردستان، قال إن ممارسات نظام الملالي الخارجية وأطماعه التمددية والتنكيل والاستمرار في سياسة التنكيل والقمع بحق الأقليات القومية والطائفية جعل صبر الشعب الإيراني ينفذ كسر حاجز الخوف من شبح الباسيج والحرس الثوري. لم يعد شعبنا تحمل مزيدا من ممارسات هذا النظام الطائفي، والاحتجاجات الأخيرة والانتفاضة في شرق كردستان كانت دليلا واضحا على أن إيران داخليا على صفيح ساخن، وجاءت أيضا لتؤكد أن النظام الإيراني رغم يده الطولى في بلدان الجوار الإقليمي فإن أحكام قبضتها الحديدة على الداخل أصبحت مهددة.
ويؤكد أن الانتفاضة التي اندلعت مؤخرا في شرق كردستان ضد نظام الطائفي في إيران سوف تستمر رغم تهديدات الاطلاعات (جهاز الاستخبارات الإيرانية) والباسيج (الحرس الثوري الإيراني) للنشطاء الكرد في كردستان إيران والذين ينظمون الاحتجاجات ويقودون حملات التضامن مع مهاباد التي شهدت موجة غضب تحولت إلى انتفاضة عارمة اتسعت رقعتها لتشمل غالبية المدن في شرق كردستان، على أثرها أعلنت حكومة الملالي قوانين الطوارئ في كثير من المدن الكردية المنتفضة وعلى رأسهم مهاباد.
من جهته قال رئيس حزب الكادحين الثوريين الإيراني عبد الله مهتدي، إن «إيران تلعب دورًا سلبيًا في منطقة الشرق الأوسط، وهي السبب الأساسي في الاضطرابات التي تشهدها كل من اليمن والعراق والبحرين ولبنان والخليج العربي، وهي التي تمنع سقوط نظام الأسد في سوريا، وسيطرة حزب الله في لبنان، ودعم الحوثيين في اليمن، وهي التي دفعت العراق إلى الأزمة من خلال دعمها سياسة رئيس الحكومة العراقي السابق نوري المالكي، وتعد العامل الرئيسي للاضطرابات في البحرين، والخليج العربي». وأضاف مهتدي أن النظام الإيراني لا يخفي مطامعه في المنطقة من خلال تصريحات كبار القيادات الإيرانية، ومنهم علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي لمح في تصريحات سابقة إلى أنهم «يخططون لتأسيس الإمبراطورية الشيعية وهذه المطامع ستربك المنطقة وستطيل أمد التوترات».

الأكراد..الخطر المحدق

لا يمكن الجزم بعدد كرد إيران في ظل غياب مرجع ذي صدقية كافية بهذا الصدد، خاصة أن تعداد الأقليات يعد سلاحا سياسيا في منطقة الشرق الأوسط التي تعج بالأقليات والطموحات الانفصالية. وبحسب بعض المصادر غير الكردية، تتفاوت التقديرات لأعداد الكرد ما بين 7 في المائة إلى 9 في المائة من إجمالي سكان إيران، لكن المصادر الكردية تذهب أبعد من ذلك. والأقرب إلى الحقيقة أن الكرد هم العرقية الثالثة في البلاد بعد الفرس والأذريين، ويتركز وجودهم في جبال زاغروس على امتداد الحدود مع تركيا والعراق. وهم موزعون على أربع محافظات هي: أذربيجان الغربية، كردستان، كرمنشاه، إيلام.
ولم تعترف إيران يوما ما بخصوصية العرق الكردي، وللكرد الإيرانيين تجربة تاريخية في إقامة حكم مستقل، ألا وهو دولة «مهاباد» التي لم تدم إلا فترة وجيزة ولكنها كانت كافية لتلهم الشعور الكردي - عامة والإيراني منه خاصة - بالاستقلال. وحينما قامت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.



بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.