فرنسا... كُتّاب اليمين المتطرف يلجأون للنشر الذاتي هرباً من الرقابة

أسسوا مواقع خاصة على شبكة الإنترنت

فرنسا... كُتّاب اليمين المتطرف يلجأون للنشر الذاتي هرباً من الرقابة
TT

فرنسا... كُتّاب اليمين المتطرف يلجأون للنشر الذاتي هرباً من الرقابة

فرنسا... كُتّاب اليمين المتطرف يلجأون للنشر الذاتي هرباً من الرقابة

لا يزال يُنظر إلى النشر الذاتي على أنه علامة فشل ودليل قاطع على أن الكاتب لم يفلح في إثبات ذاته والوصول إلى القراء، لكن المفارقة اليوم هي أن يتوجه البعض ممن سبق وأن وصلوا للقمة نحو الاتجاه المعاكس، أي أن يتوجه كُتاب حصلوا على اعتراف الوسط وعلى الرواج الشعبي بأعمال تصدرت قائمة المبيعات إلى تبني تجربة النشر الذاتي سواء قسراً أم اختياراً. هذه النزعة الجديدة تخص تحديداً بعض من عُرف بانحيازه لآيديولوجية اليمين المتطرف بعد تعرضهم للرقابة والمقاطعة من قبل دور النشر التقليدية.
تعتبر الكتب السياسية في فرنسا الأكثر قراءة، وإذا أضاف صاحبها على العنوان عبارة: الهجرة، الإسلام أو الغزو الثقافي، أو المهاجرين، فهو لن يحوز على تغطية إعلامية واسعة فحسب، بل على الرواج التجاري والشعبي أيضاً. الأرقام تتحدث عن نفسها: 300 ألف نسخة من الكتاب الأخير للصحافي والمرشح السابق للانتخابات الرئاسية إيريك زمور، وغالبا ما تتصدر كتب الفيلسوفين ميشال أنفري وآلان فينكلكروت المعروفين بغزارة الإنتاج والحضور الإعلامي قائمة المبيعات. الأول باع كتابه «التفكير في الإسلام» 350 ألف نسخة، والثاني باع كتابه «الهوية الحزينة» أكثر من 300 ألف نسخة. ومثال آخر هو رواية «معسكر القديسين» لجان راسباي الكاتب المفضل لليمين المتطرف الفرنسي، التي تخيل فيها هجوم أسطول من المهاجرين الأفارقة على فرنسا، والتي لا تزال من أكثر الروايات مبيعاً بمعدل 100 إلى 500 نسخة يوميا رغم مرور أكثر من خمسين سنة على صدورها.

لكن علاقة دور النشر التقليدية بالكتاب المنحازين لأفكار اليمين المتطرف كثيرا ما تتسم بالاضطراب والسعي المستمر لتحقيق معادلة صعبة: التوفيق بين المصالح المادية واحترام أخلاقيات المهنة التي تستلزم محاربة كل النصوص التي تحث على الكراهية العرقية. تجارب كثيرة وصلت لطريق مسدود وقطيعة لا رجعة فيها. كانت هذه تجربة المؤلف والفنان مارك إدوارد نابي الذي وصفته مجلة «فالور أكتووال» بأنه الكاتب الفرنسي الأكثر رقابة في فرنسا وهو أول من صاغ عبارة «مناهضة النشر» أو محاربة نظام النشر التقليدي بإنشاء نظام نشر بديل. الكاتب كان قد صنع الحدث الأدبي بروايته «مأدبة الحشرات» التي نالت استحسان النقاد ورُشحت للجوائز الأدبية قبل أن تنقلب الأمور رأساً على عقب حين صرح نابي في برنامج تلفزيوني بآراء معادية للسامية، فتعرض على أثرها لهجوم إعلامي واسع، بل وللضرب من طرف صحافي ذي أصول يهودية. لإصدار روايته «الرجل الذي توقف عن الكتابة»، اضطر نابي للجوء إلى النشر الذاتي بسبب رفض دور النشر المعروفة نشرها. التوزيع كان محدوداً (10 آلاف نسخة) لكن الرواية أثارت الانتباه وتم ترشيحها لجائزة رونودو. بعدها قرر الاستغناء نهائيا عن دور النشر التقليدية، وفتح متجرا على الشبكة يعرض فيه إصداراته مباشرة على القراء. الكاتب المعروف بتوجهه المعادي للسامية صرح في أكثر من مناسبة بأن لجوءه للنشر الذاتي هو أحسن قرار اتخذه، فهو إضافة لحصوله على 70 في المائة من الأرباح بدل 12 فإنه «يتمتع بحرية الكتابة التي لا تقدر بثمن». ريتشارد ميليه عرف هو الآخر وضعية مماثلة. وهو كاتب معروف بمواقفه العنصرية المعادية للمهاجرين ولا سيما المسلمين. وكان قد أثار الاستهجان حين صرح في أحد لقاءات إذاعة فرانس كولتور بأن وجود اسم محمد عند أجيال المهاجرين من الشباب شيء غير مقبول في فرنسا. الكاتب لم يتعرض للمقاطعة إلا بعد صدور محاولة نثرية له بعنوان: «في المديح الأدبي لأندرس بريفيك» يبرر فيها جريمة أوسلو التي راح ضحيتها 77 شخصاً بإلقاء اللوم على التنوع الثقافي والمهاجرين، معتبرا القاتل ضحية لأنه فقد هويته بسبب هذا التنوع الثقافي. المقاطعة جاءت تحديداً من دار نشر غاليمار التي فصلته من لجنة قراءتها بعد أن كان أبرز أعضائها، كما فسخت العقود التي تربطها به. ورغم استمراره في النشاط الأدبي، فإن كتاباته المتسمة بالنزعة الشعبوية المتطرفة لم تعد تصدر إلا على موقع الكاتب الخاص على شبكة الإنترنت.

أما رينو كامو الذي اقترن اسمه بكتاب «الاستبدال الكبير» فقد توجه هو الآخر، وبنجاح، نحو طريق النشر الذاتي. وكان كامو ينشر مؤلفاته في دار نشر «بي أو إل» بل وكان من أهم كُتابها، كما نشر أيضا عند «فايار» التي تتمتع بسمعة جيدة، لكن علاقته الوطيدة باليمين المتطرف، وتدخلاته في وسائل الإعلام ومواقع التواصل المتسمة بعدوانية شديدة نحو المهاجرين أثارت الكثير من الاستهجان إلى غاية رفع قضايا ضده أمام العدالة الفرنسية ما جعل مؤسسات النشر التقليدية تقرر وقف تعاونها مع الكاتب الفرنسي. رونو كامو يصدر مؤلفاته اليوم عبر منصة أمازون، معتمدا على النشر الذاتي أو ما يسمى «النشر على نفقة الكاتب»، حيث نشر لغاية الآن أكثر من ثلاثين مؤلفاً بهذه الطريقة. كامو كان قد شرح لمجلة «لير» الفرنسية سير هذه العملية، حيث يتم طبع كل كتاب، حسب الطلب، في بولندا، تقوم بعدها منصة أمازون بتوزيعه في فرنسا أو أي مكان آخر، وهو ما يسمح للكاتب ببيع أكثر من 300 نسخة شهرياً وتحقيق دخل مادي مريح، بما أنه يحصل على أكثر من 70 في المائة من الأرباح والباقي لأمازون. كما يعرض رونو كامو على قرائه أيضاً نظام اشتراك على موقعه الخاص مقابل 40 يورو سنويا، لتمكينهم من الحصول على بعض المضامين الحصرية ولا سيما مدونته الخاصة، وهو ما يضيف لمداخيله السابقة ما يعادل 2000 يورو شهرياً. ويرى الكاتب الفرنسي أن استغناءه عن دور النشر التقليدية منحه حرية كبيرة، كما سمح بالقضاء على كل الوسطاء الذين يستغلون خلاصة عمله للاستحواذ على الأرباح. إيريك زمور الكاتب والمرشح السابق عن تيار اليمين المتطرف الجديد «روكونكيت» ذهب لأبعد من ذلك حين أنشأ دار نشر خاصة به تدعى «روبونبري» بعد أن رفضت دار «ألبان ميشال» التي كان الكاتب يتعاون معها منذ سنوات نشر كتابه «فرنسا لم تقل كلمتها الأخيرة» على أثر إعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية. الكاتب المثير للجدل كان قد صرح لموقع «اكتوواليتي دي ليفر» بأن قرار إنشاء دار نشر جديدة فُرض عليه بعد أن تخلت عنه «ألبان ميشال» رغم أنها سبق وأن نشرت كتباً لمرشحين في الانتخابات. تجربة زمور الأولى مع النشر الذاتي كانت ناجحة بما أن الكتاب حقق نجاحا تجاريا بأكثر من 300 ألف نسخة بيعت عام 2021، وإن كان الكاتب قد استبعد فكرة شراء حقوق كتبه السابقة، إلا أنه أعلن أن كل أعماله المقبلة ستنشر في المؤسسة الجديدة التي أنشأها.



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.