شيرين أبو عاقلة... ابنة القدس التي هجرت الهندسة إلى الصحافة

صورة مأخوذة من مقطع فيديو  تظهر جثة الصحافية شيرين أبو عاقلة (يسار) بعد إصابتها (رويترز)
صورة مأخوذة من مقطع فيديو تظهر جثة الصحافية شيرين أبو عاقلة (يسار) بعد إصابتها (رويترز)
TT

شيرين أبو عاقلة... ابنة القدس التي هجرت الهندسة إلى الصحافة

صورة مأخوذة من مقطع فيديو  تظهر جثة الصحافية شيرين أبو عاقلة (يسار) بعد إصابتها (رويترز)
صورة مأخوذة من مقطع فيديو تظهر جثة الصحافية شيرين أبو عاقلة (يسار) بعد إصابتها (رويترز)

هي دائماً في قلب الميدان. أمام الكاميرا وخلفها الشارع الفلسطيني. وسط الرصاص أو الغاز المسيل للدموع أو أمام الحواجز الإسرائيلية، تقف الصحافية المخضرمة شيرين أبو عاقلة تنقل لنا الحدث. على مدار ثلاثة عقود، حتى صارت اليوم هي الحدث، لتترك لنا صورتها الأخيرة وهي ترتدي زي وخوذة الصحافة، التي عاشت وماتت من أجلها.
«أنا ابنة القدس.. اليوم القدس بتحزن. وضع القدس مخنوق جداً جداً»... بهذه الكلمات تصف أبو عاقلة مدينتها التي ولدت فيها، في حوار حديث تم تداوله لها عبر مواقع التواصل حين كانت تجلس السيدة الفلسطينية على درج المسجد الأقصى. تحكي عن سعادتها للنشاط الاقتصادي في رحاب القدس. تحكي عن الوطن الذي حلمت به وماتت قبل أن تراه كما في أحلامها.

أبو عاقلة تحدرت من عائلة فلسطينية مسيحية من بيت لحم، ولدت في عام 1971، ثم درست في مدرسة راهبات الوردية في القدس الشرقية. انجذبت أبو عاقلة للصحافة المكتوبة في بداية طريقها، بعد أن تركت الهندسة المعمارية بعد عام واحد لتختار عملاً «قريباً من الناس»، لتحصل على درجة البكالوريوس في جامعة اليرموك في الأردن.
عقب التخرج، عادت أبو عاقلة إلى فلسطين وعملت في مواقع عدة، مثل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وقناة «عمان» الفضائية، وإذاعة «مونت كارلو»، ثم إذاعة «صوت فلسطين»، التي انتقلت منها إلى قناة «الجزيرة»، لتصبح من الرعيل الأول للمراسلين في القناة منذ عام 1997.

قضت أبو عاقلة ربع قرن في تغطية فصول الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. بإطلالة بسيطة، ومكياج قليل، وأحياناً من دونه، تطل أبو عاقلة على جمهورها، ظلت مؤمنة بحق هذا الجمهور في المعرفة، وفي قلب كل تصعيد ميداني تكون حاضرة بنقل الصورة، ورغم الرصاصة التي قتلتها اليوم، كانت تحرص على سلامتها وسلامة الطاقم الإعلامي معها في كل مرة، حسبما ذكرت أبو عاقلة في حوار تلفزيوني معها في عام 2017.
تحكي أبو عاقلة عن عملها «أنا لست مشاكسة. شخصية هادئة. أخاف بالطبع من طبيعي عملي أحياناً. لكن في لحظات معينة أنسى هذا الخوف. نحنا ما بنرمي حالنا في الموت. رقم واحد سلامة الطاقم ورقم اثنين إنجاز شو بيصير».

انحيازها للميدان لم يكن سهلاً. ترك لها مشاكل صحية في التنفس وحساسية أعلى نتيجة استنشاق الغاز المسيل للدموع. لتصنع الشجاعة من أبو عاقلة مراسلة صحافية مخضرمة تنقل معاناة الفلسطينيين، وتروي حكايات الأسرى، ويوميات الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.
برزت أبو عاقلة خلال تغطية أخبار الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث كانت تتنقل من القدس الشرقية إلى مدن الضفة الغربية كافة، وفي حديث سابق، قالت أبو عاقلة، إن السلطات الإسرائيلية دائماً ما كانت تتهمها بتصوير مناطق أمنية، وأضافت أنها كانت تشعر باستمرار بأنها مستهدفة، وأنها في مواجهة قوات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المسلحين.

كانت أبو عاقلة أول صحافية عربية يسمح لها بدخول سجن عسقلان في عام 2005، حيث قابلت الأسرى الفلسطينيين الذين أصدرت محاكم إسرائيلية أحكاماً طويلة بالسجن في حقهم.
ولفظت أبو عاقلة اليوم (الأربعاء) أنفاسها الأخيرة بعد إصابتها بعيار ناري في رأسها خلال تغطيتها عملية للجيش الإسرائيلي في جنين في الضفة الغربية المحتلة، حسبما أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية.
واليوم (الأربعاء)، جال مشيعون حاملين جثمان أبو عاقلة الذي لُفّ بالعلم الفلسطيني في شوارع مدينة جنين قبل نقلها إلى مركز الطب العدلي في مستشفى جامعة النجاح الجامعي في نابلس. ومن المتوقع تشييع جثمانها غداً (الخميس) في جنازة رسمية من مقر الرئاسة الفلسطينية (المقاطعة) في مدينة رام الله قبل نقله إلى القدس.

وأدانت جهات عربية ودولية مقتل أبو عاقلة، ووصفت الرئاسة الفلسطينية الحادث بـ«جريمة إعدام» الجيش الإسرائيلي للصحافية أبو عاقلة، محمّلة الحكومة الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن الحادثة «التي هي جزء من سياسة يومية ينتهجها الاحتلال بحق أبناء شعبنا وأرضه ومقدساته».



«مساعدة الصمّ»... مبادرة تُثلج قلب مجتمع منسيّ في لبنان

مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)
مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)
TT

«مساعدة الصمّ»... مبادرة تُثلج قلب مجتمع منسيّ في لبنان

مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)
مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)

قد ينشغل اللبنانيون في زمن الحرب بأخبارها وأحوال النازحين وكيفية تأمين حاجاتهم. لكنّ قلةً منهم فكّرت بجزء من المجتمع اللبناني؛ هم الأشخاص الصمّ. فهؤلاء يفتقدون القدرة على السمع وسط حرب شرسة. لا أصوات القذائف والصواريخ، ولا الانفجارات والمسيّرات. ولا يدركون إعلانات التحذير المسبقة لمنطقة ستتعرّض للقصف. وقد تكمُن خطورة أوضاعهم في إهمال الدولة الكبير لهم. فهي، كما مراكز رسمية ومستشفيات ووسائل إعلام، لا تعيرهم الاهتمام الكافي. فتغيب لغة الإشارة التي يفهمونها، ليصبح تواصلهم مع العالم الخارجي صعباً.

من هذا المنطلق، ولدت مبادرة «مساعدة الصمّ»، فتولاها فريق من اللبنانيين على رأسهم نائلة الحارس المولودة من أب وأم يعانيان المشكلة عينها. درست لغة الإشارة وتعاملت من خلالها معهما منذ الصغر؛ الأمر الذي دفع بأصدقائها الصمّ، ملاك أرناؤوط، وهشام سلمان، وعبد الله الحكيم، للجوء إليها. معاً، نظّموا مبادرة هدفها الاعتناء بهؤلاء الأشخاص، وتقديم المساعدات المطلوبة لتجاوز المرحلة.

بلغة الإشارة يحدُث التفاهم مع الأشخاص الصمّ (نائلة الحارس)

تقول نائلة الحارس لـ«الشرق الأوسط» إنّ القصة بدأت مع صديقتها ملاك بعد نزوح أهلها الصمّ إلى منزلها في بيروت هرباً من القصف في بلدتهم الجنوبية، فتوسّعت، من خلالهم، دائرة الاهتمام بأصدقائهم وجيرانهم. وعندما وجدت ملاك أنّ الأمر بات يستدعي فريقاً لإنجاز المهمّات، أطلقت مع هشام وعبد الله المبادرة: «اتصلوا بي لأكون جسر تواصل مع الجمعيات المهتمّة بتقديم المساعدات. هكذا كبُرت المبادرة ليصبح عدد النازحين الصمّ الذين نهتم بهم نحو 600 شخص».

لا تواصل بين الصمّ والعالم الخارجي. فهم لا يستطيعون سماع أخبار الحرب عبر وسائل الإعلام، ولا يملكون «لاب توب» ولا أدوات تكنولوجية تخوّلهم الاطّلاع عليها لحماية أنفسهم. كما أنّ لا دورات تعليمية تُنظَّم من أجلهم ليتمكّنوا من ذلك.

كي تلبّي نائلة الحارس رغبات الصمّ وتجد فرصاً لمساعدتهم، كان عليها التفكير بحلّ سريع: «لأنني أدرس لغة الإشارة والترجمة، دعوتُ من خلال منشور على حسابي الإلكتروني متطوّعين لهذه المهمّات. عدد من طلابي تجاوب، واستطعتُ معهم الانكباب على هذه القضية على أرض الواقع».

معظم الصمّ الذين تعتني بهم المبادرة في البيوت. بعضهم يلازم منزله أو يحلّ ضيفاً على أبنائه أو جيرانه.

يؤمّن فريق «مساعدة الصمّ» جميع حاجاتهم من مساعدات غذائية وصحية وغيرها. لا تواصل من المبادرة مع جهات رسمية. اعتمادها الأكبر على جمعيات خيرية تعرُض التعاون.

كل ما يستطيع الصمّ الشعور به عند حصول انفجار، هو ارتجاج الأرض بهم. «إنها إشارة مباشرة يتلقّونها، فيدركون أنّ انفجاراً أو اختراقاً لجدار الصوت حدث. ينتابهم قلق دائم لانفصالهم عمّا يجري في الخارج»، مؤكدةً أنْ لا إصابات حدثت حتى اليوم معهم، «عدا حادثة واحدة في مدينة صور، فرغم تبليغ عائلة الشخص الأصمّ بضرورة مغادرة منزلهم، أصرّوا على البقاء، فلاقوا حتفهم جميعاً».

ولدت فكرة المبادرة في ظلّ مصاعب يواجهها الأشخاص الصمّ (نائلة الحارس)

وتشير إلى أنّ لغة الإشارة أسهل مما يظنّه بعضهم: «نحرّك أيدينا عندما نتحدّث، ولغة الاشارة تتألّف من هذه الحركات اليومية التي نؤدّيها خلال الكلام. كما أن تعلّمها يستغرق نحو 10 أسابيع في مرحلة أولى. ويمكن تطويرها وتوسيعها بشكل أفضل مع تكثيف الدروس والتمارين».

عدد الصمّ في لبنان نحو 15 ألف شخص. أما النازحون منهم، فقلّة، بينهم مَن لجأ إلى مراكز إيواء بسبب ندرة المعلومات حول هذا الموضوع. كما أنّ كثيرين منهم لا يزالون يسكنون بيوتهم في بعلبك والبقاع وبيروت.

بالنسبة إلى نائلة الحارس، يتمتّع الأشخاص الصمّ بنسبة ذكاء عالية وإحساس مرهف: «إنهم مستعدّون لبذل أي جهد لفهم ما يقوله الآخر. يقرأون ملامح الوجه وحركات الشفتين والأيدي. وإنْ كانوا لا يعرفون قواعد لغة الإشارة، فيستطيعون تدبُّر أنفسهم».

يغيب الاهتمام تماماً من مراكز وجهات رسمية بالأشخاص الصمّ (نائلة الحارس)

إهمال الدولة اللبنانية لمجتمع الصمّ يبرز في محطّات عدّة. إن توجّهوا إلى مستشفى مثلاً، فليس هناك من يستطيع مساعدتهم: «ينبغي أن يتوافر في المراكز الرسمية، أسوةً بالخاصة، متخصّصون بلغة الإشارة. المشكلات كثيرة في كيفية تواصلهم مع الآخر. فالممرض في مستشفى قد لا يعرف كيفية سؤالهم عن زمرة دمهم. وليس هناك مَن يساعدهم لتقديم أوراق ووثائق في دعوى قضائية. هذه الثغر وغيرها تحضُر في مراكز ودوائر رسمية».

تختم نائلة الحارس: «التحدّي في الاستمرار بمساعدة الأشخاص الصمّ. فالإعانات التي نتلقّاها اليوم بالكاد تكفينا لأيام وأسابيع. على أي جمعية أو جهة مُساعدة أخذ هؤلاء في الحسبان. فتُدمَج مساعدات الأشخاص العاديين مع مساعدات الصمّ، وبذلك نضمن استمرارهم لأطول وقت».