تمثال «ديليسبس»... صراع الفن والسياسة

كتاب يبحث في أسباب رفض إقامته بمصر وأسطورته «المزعومة»

تمثال ديليسبس
تمثال ديليسبس
TT

تمثال «ديليسبس»... صراع الفن والسياسة

تمثال ديليسبس
تمثال ديليسبس

لم تخل صراعات الفن والسياسة على مر التاريخ من قصص وحكايات، بعضها لا يزال صالحاً لإثارة الدهشة والأسئلة، خصوصاً حين يختلط الفن بالسياسة ويصبح مطية لها، من بين هذه القصص قصة تمثال ديليسبس المهندس الفرنسي صاحب مشروع حفر قناة السويس. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 1855 وفد النحات الفرنسي فريدريك أوجست باتولدي، إلى مصر، ضمن بعثة فرنسية علمية وفنية لدراسة الشرق هدفها تصوير آثار مصر وفلسطين، وكان عمره في ذلك الوقت 21 عاماً.
انبهر الفنان الشاب بضخامة الآثار المصرية وما تنطوي عليه من دقة وجمال، وفي أبريل (نيسان) 1869 عاد بارتولدي إلى الإسكندرية ومعه لوحة مرسومة بألوان مائية لمشروع الفنار الضخم الذي يريد أن يقيمه لتتويج المدخل الجنوبي لقناة السويس، تحديداً في الجزيرة الخضراء التي تقع في منتصف الطرف الشمالي لخليج السويس.
كان تمثال «بارتولدي» المقترح يمثل فلاحة مصرية بطول 28 متراً، على رأسها طرحة وتاج، وتحمل في يدها اليسرى مشعل الحرية، وهي واقفة على قاعدة طولها 15 متراً فوق الجزيرة الخضراء.
التقى بارتولدي مع المهندس فرديناند ديليسبس، مهندس مشروع حفر القناة والشخصية المثيرة للجدل في التاريخ المصري الحديث، وعرض عليه مشروع التمثال، إلا أن ديليسبس لم يبد أي حماس لإقامة هذا التمثال المهم. هنا ذهب بارتولدي إلى الخديوي إسماعيل، حاكم البلاد، وعرض عليه الرسوم وأعجب الخديوي بالتمثال، لكنه لم يعد بالموافقة على إقامته، نظراً للأزمة المالية الطاحنة التي كانت تعاني منها مصر آنذاك، مقترحاً إقامة هذا التمثال في الشمال عند منطقة بور فؤاد، بعد ذلك تأكد أن ديليسبس رفض هذا التمثال الجميل، نظراً لضخامته وقدرته على لفت الأنظار، وهو الحريص دوماً على أن يكون وحده محط الأنظار والأضواء، حسب ما يذهب إليه الباحث محمد الشافعي في كتابه «ديليسبس... الأسطورة الكاذبة» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، الذي يتهم ديليسبس بلعب دور تخريبي في السياسة المصرية، وتمهيد الطريق لوقوع البلاد تحت نير الاستعمار البريطاني.
وحسب المؤلف، فإنه بعد افتتاح القناة في نوفمبر 1869، فقد باتولدي الأمل في إقامة تمثاله في مصر، نظراً لتعنت ديليسبس، فقام في الفترة من 1870 - 1875 - مستوحياً تمثال ديليسبس المرفوض - بالانتهاء من عمل «الماكيت» الأول لتمثال الحرية الشهير، وجعل طوله 31 متراً ويرمز لسيدة تحررت من قيود الاستبداد، وتمسك في يدها اليمنى مشعلاً للحرية وفي يدها اليسرى كتاب منقوش عليه بأحرف لاتينية «4 يوليو (تموز) 1876»، وهو تاريخ استقلال الولايات المتحدة الأميركية، وعلى رأس التمثال تاج مكون من سبعة أسنة تمثل أشعة ترمز إلى البحار السبعة، وتم افتتاح التمثال 1886 على جزيرة الحرية بخليج نيويورك.
ويرى المؤلف أن النحات الفرنسي قرر أن ينتقم، لكنه للأسف الشديد خلط ما بين ديليسبس ومصر، حيث أقام في عام 1875 تمثالاً آخر للعالم الفرنسي شامبليون الذي نجح في فك رموز اللغة الهيروغليفية، وهو يقف واضعاً حذاءه على رأس الملك أخناتون المشروخ، في إهانة بالغة للحضارة المصرية، والتمثال موجود في قلب باريس، حيث ترفض الحكومات الفرنسية المتعاقبة التخلص من تلك الإهانة البشعة للحضارة المصرية، حسب الشافعي.
بعد وفاة ديليسبس في 7 ديسمبر (كانون الأول) 1894، اكتشفت شركة القناة وجود اعتمادات مالية فاتفقت على إقامة تمثال يخلد ذكراه تكلف مليوني فرنك، وقام بتصميمه الفنان الفرنسي إمانويل فرميم، لتتم إماطة اللثام عن وجهه في 17 نوفمبر 1899، أي بعد ثلاثين عاماً من افتتاح القناة، وبعد خمس سنوات من رحيل صاحبه. ظل هذا التمثال يمثل، تعبير الشافعي، «جرحاً في الضمير الوطني المصري» إلى أن قام الزعيم جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956، وتعمد أن يكون اسم «ديليسبس» هو كلمة السر لبدء عملية السيطرة على شركة قناة السويس ومقراتها المختلفة، حيث توالت الأحداث سريعة ليبدأ العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1956 بمشاركة إنجلترا وفرنسا وإسرائيل. وحاول المقاومون من أبناء بورسعيد تحطيم تمثال ديلسبس بالديناميت.
عاد الجدل بسبب هذا التمثال إلى الواجهة مرة أخرى، حين طالب البعض بعودته باعتباره أثراً سياحياً، بينما رأى فيه آخرون جزءاً من تاريخ مدينة بورسعيد، بينما على الجانب الآخر هناك من يراه رمزاً للاستعمار البغيض ويجب التخلص منه نهائياً، ومن هؤلاء مؤلف هذا الكتاب، ليقبع التمثال بالنهاية في مخازن القناة.
يذكر أن ديليسبس (1805 – 1894) كان قد نجح في إقناع سعيد باشا والي مصر بتنفيذ فكرة شق قناة مائية تربط البحرين المتوسط والأحمر، وأدار القناة بعد افتتاحها عام 1869، ولعب دوراً في دفع مصر إلى بيع نصيبها من الأسهم في شركة قناة السويس، وفرض رقابة مالية فرنسية وإنجليزية على الخزانة المصرية، وهو ما مهد للاحتلال الإنجليزي عام 1882، حينما سمح ديليسبس باستخدام قوات الاحتلال لقناة السويس.



قطع أثرية يونانية من موقع الدُّور

ثلاث قطع أثرية من موقع الدُّور في أم القيوين
ثلاث قطع أثرية من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

قطع أثرية يونانية من موقع الدُّور

ثلاث قطع أثرية من موقع الدُّور في أم القيوين
ثلاث قطع أثرية من موقع الدُّور في أم القيوين

* هناك حضور فني يوناني متواضع ظهر على مدى قرون في نواحٍ متفرقة من جزيرة العرب الشاسعة

يحتل موقع الدُّور مكانة بارزة في سلسلة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال التنقيب المتواصلة في دولة الإمارات العربية؛ حيث يتبع إمارة أم القيوين، ويجاور الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة. عُثر في هذا الموقع على مجموعات كبيرة من اللقى المتعدّدة الأشكال والتقنيات، منها مجموعة تحمل طابعاً يونانياً كلاسيكياً يتجلّى في مواضيعها كما في أسلوبها.

خرج موقع الدُّور من الظلمة إلى النور في مطلع سبعينات القرن الماضي، وظهرت أطلاله حين باشرت أربع بعثات تنقيب أوروبية العمل فيه خلال الفترة الممتدة من 1987 إلى 1995، وتبيّن أن هذه الأطلال تعود إلى مستوطنة تحوي حصناً ومعبداً ومباني، تعود إلى الفترة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الأول للميلاد. تقع هذه المستوطنة على خور ضحل يُعرف بخور البيضاء، وتحتل مساحة نحو 5 كيلومترات مربعة، وتشكّل امتداداً لموقع من أبرز مواقع الإمارات، هو موقع مليحة الذي يتبع اليوم إمارة الشارقة. يتميّز هذان الموقعان بروابطهما الثقافية المتعدّدة، وتشهد لهذه التعدّدية مجموعات اللقى المختلفة التي خرجت منهما، وبينها تلك التي تعكس أثراً يونانياً واضحاً.

يحوي موقع الدُّور معبداً شبه مربّع الشكل، يتميّز بمدخلين متقابلين من جهتي الشرق والغرب. كشفت أعمال المسح في هذا المعبد عن مجموعة من اللقى، منها قطعتان معدنيّتان تعتمدان مادة البرونز، شكّلت كلّ منهما في الأصل قاعدة لتمثال ضاع أثره. تبدو إحدى هاتين القاعدتين دائرية الشكل، وتخلو من أي زينة. وتبدو الأخرى مكعّبة، ويبلغ عرضها 9.5 سنتيمترات، وتتميّز بحضور تمثال آدمي نصفي يتوسّط واجهتها. يتبع هذا التمثال تقنية النقش الناتئ، ويصوّر شاباً أمرد في وضعية المواجهة، يرتدي ما يُعرف باسم التوجة، وهي اللباس الخاص بمواطني الإمبراطورية الرومانية القدماء دون العبيد، ويتكوّن من رداء أبيض متفاوت الطول، يلتف حول الجسم على شكل عباءة.

تنسكب هذه التوجة على الكتفين، وتكشفان عن طرف الصدر الأعلى. يستقر الوجه فوق عنق عريض وقصير يرتفع وسط هاتين الكتفين. الملامح كلاسيكية، وتتبع التجسيم الواقعي بنسبه التشريحية الحسّية، وتتمثّل في وجه دائري، مع خدين مكتنزين، وأنف قصير، وعينين صغيرتين تنظران إلى الأمام. يعلو هذا الوجه شعر كثيف يلتفّ من حول الوجنتين ويحجب الأذنين، ويتكوّن هذا الشعر من خصل دائرية لولبية متلاصقة تهب هذا الوجه اليوناني لمسة شرقية. يصعب تحديد هويّة هذا الشاب الأمرد، والأرجح أنه يمثّل شاباً مجرّداً فحسب، كما نرى في الميراث الفني اليوناني وامتداده الروماني بروافده المتعدّدة.

يحضر هذا الأثر الروماني في مجموعة من القطع الخزفية المنمنمة التي شكّلت في الأساس جزءاً من الحلى التزيينية، منها قطع على شكل عناقيد من العنب، وقطع على شكل قبضة يد، تظهر فيها إصبع الإبهام بين إصبع السبابة وإصبع الوسطى. في هذا الميدان، تبرز قطعة تمثّل امرأة تقف منتصبة، رافعة ذراعها نحو الأعلى في اتجاه رأسها المنحني بشكل طفيف. وصل هذا المجسّم المنمنم بشكل كامل، ولم يضع منه سوى طرف الذراع اليسرى، ويمثّل من دون أدنى شك أفروديت، سيدة الحب والجمال والغواية في العالم الإغريقي.

حسب الروايات المتناقلة، خرجت أفروديت من مياه البحر فأثارت بحسنها الذي لا يضاهيه حسنٌ كلَّ من وقع نظره عليها. دخلت جبل الأولمب، معقل أسياد الكون، فأشعلت غيرة منافساتها من النساء فيما سعى الذكور إلى غوايتها. أحبّت العديد، منهم من كان من أسياد السماء، ومنهم من كان من البشر، كما أنّها كانت وراء العديد من قصص الحب الخالدة. في الحقبة الرومانيّة، نزلت من الأولمب إلى تل الكابيتول حيث دُعيت باسم فينوس، ولم تفقد هنا شيئاً من سحرها الخارق. بقي اسمها مرادفاً للجمال الأنثوي بعمقه الحسّي. روى اللاتين عنها فصولاً جديدة في الحب والفتنة، وكرّسوا لها شهر أبريل (نيسان) حيث الطبيعة تشهد دائماً لتجدّد الحياة.

يحضر هذا الأثر الروماني كذلك في قطع من العقيق الأحمر، منها قطعة بيضاوية يبلغ طولها 1.4 سنتيمتر، تحمل نقشاً يصوّر امرأة منتصبة في وضعية جانبية، وإلى جانبها أفعى تمتدّ أفقياً من خلف قدميها. ترتدي هذه المرأة لباساً طويلاً مع حزام يلتف حول خصرها، وتعتمر خوذة عسكرية كبيرة، وتحمل بيدها اليمنى ترساً بيضاوياً عريضاً، وتمسك بيدها اليسرى رمحاً طويلاً تلقي به فوق كتفها. تُمثّل هذه المحاربة بشكل لا لبس فيه سيدة أخرى من سيدات جبل الأولمب، هي أثينا، سيدة الحكمة والقوة، وحامية المدينة التي سُمّيت باسمها.

تعدّدت الروايات في ولادة هذه السيّدة، وتقول الرواية الأقدم إن زيوس البعيد النظر، سيد أسياد الأولمب، وحاكم أولئك الذين لا يموتون، اتخذ زوجة أولى تنتمي إلى العرق السابق لزمن أسياد الأولمب، وهي ميتيس، أم الفكر والتبصّر والبصيرة، فحبلت منه، ولما كانت على وشك أن تنجب، ابتلعها في بطنه، خوفاً من أن تنجب ابناً يقضي عليه، كما قضى هو من قبل على والده، وما إن فعل ذلك حتى أصابه صداع شديد، فجاءه سيّد الحدادة هيفايستوس حاملاً فأسه، وضربه بها على رأسه، فخرجت منه أثينا بكامل لباسها وأسلحتها وهي تصرخ صرخات الحرب. في الميدان الأدبي كما في الميدان الفنّي، عُرفت أثينا بلباسها العسكري، كما عُرفت بعدد من الرموز التصويرية، على رأسها الأفعى الحامية. وتظهر سيدة الحكمة والقوة بهذا اللباس برفقة هذه الأفعى على حجر العقيق الأحمر في موقع الدُّور.

تشهد هذه القطع الصغيرة على حضور الأثر الفني اليوناني في هذه الناحية من شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وهو الأثر الذي يظهر كذلك في مواقع عدة من البحرين، كما في جزيرة فيلكا الكويتية، وموقعَي قرية الفاو وثاج في المملكة العربية السعودية. تشكّل هذه الشواهد مجموعة فنية متنوّعة، تقابلها مجموعة أخرى تفوقها في الحجم مصدرها اليمن القديم في جنوب جزيرة العرب، وتشهد هاتان المجموعتان لحضور فني يوناني متواضع، ظهر على مدى قرون في نواحٍ متفرقة من جزيرة العرب الشاسعة.