عاد الرئيس الفرنسي ليهتم مجدداً بالملف الأوكراني والحرب الدائرة هناك منذ 24 فبراير (شباط) الماضي. وكان إيمانويل ماكرون قد ابتعد قليلاً عنه بسبب الانتخابات الرئاسية التي فاز بها، ووفّرت له إقامة 5 سنوات إضافية في قصر الإليزيه. واستغل ماكرون أول فرصة أتيحت له، أول من أمس، ليعرض رؤيته للحرب في أوكرانيا، وخصوصاً لإظهار أنها تختلف عن الرؤية الأميركية التي ترى باريس أنها «تتخطى» النزاع الحالي لفرض توازنات جديدة مختلفة مع روسيا. وليست المرة الأولى التي تفترق فيها رؤيتا العاصمتين، إذ سبق لـماكرون أن امتنع عن وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ«مجرم حرب» وهو التعبير الذي استخدمه الرئيس بايدن أكثر من مرة. ثم لاحقاً، رفض ماكرون الالتحاق بنظيره الأميركي في اعتبار أن الجرائم التي ارتكبتها القوات الروسية في أوكرانيا تعد بمثابة «إبادة جماعية»، وحرص على تعداد الشروط القانونية التي تتيح استخدام هذا التعبير. ثم تتعين الإشارة إلى أن ماكرون يعد الزعيم الغربي الوحيد الذي ما زال على تواصل مع بوتين، وبعد أن زاره في موسكو يوم 7 فبراير، بقي على تواصل هاتفي معه لبحث تطورات الحرب والدعوة إلى وقف لإطلاق النار وشروط التفاوض الجارية بين موسكو وكييف، التي لم تعطِ أي نتيجة فعلية.
اليوم، نقطة الخلاف بين باريس وبرلين من جهة، وواشنطن ولندن وبعض الأوروبيين من جهة أخرى، تتناول أهداف الحرب في أوكرانيا والشروط الواجب توافرها لوضع حد لها. ومنطلق باريس أن الحل لا يمكن إلا أن يكون سياسياً ومن خلال المفاوضات. واستغل ماكرون الخطاب الذي ألقاه في البرلمان الأوروبي ليبعث بمجموعة رسائل إلى كييف، ولكن أيضاً إلى واشنطن خصوصاً، وللتحذير من إعادة ارتكاب أخطاء تاريخية كلفت أوروبا حروباً ومآسي. وقال ماكرون: «غداً سيكون لدينا سلام (بين أوكرانيا وروسيا) يتعين علينا أن نبنيه. دعونا لا ننسى ذلك أبداً، وسيتعين علينا القيام بذلك مع أوكرانيا وروسيا حول طاولة المفاوضات... لكن هذا لن يحصل من خلال الفرض أو استبعاد بعضنا بعضاً، ولا من خلال الإذلال» في إشارة إلى روسيا.
وفي المساء عينه، ولكن هذه المرة من برلين عقب لقائه المستشار الألماني، عاد ماكرون ليوضح رؤيته، في المؤتمر الصحافي المشترك مع أولاف شولتس، إذ اعتبر أن المطلوب اليوم هو «السعي إلى تحقيق وقف إطلاق النار بأسرع وقت ممكن» بحيث يفتح الطريق لإطلاق المفاوضات وتحقيق السلام وانسحاب القوات الروسية من المناطق التي احتلتها. وأضاف ماكرون، لمزيد من الوضوح، أن باريس عازمة على دعم كييف في المفاوضات المرتقبة، التي لا يمكن أن تحصل إلا وفق الشروط التي يراها الطرف الأوكراني، مشدداً على أن هدف بلاده هو «الوقوف إلى جانب سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، لا أكثر ولا أقل». وفي نظره، فإن المفاوضات التي يمكن أن تحصل «بعد وقف إطلاق النار ستكون الشيء الوحيد الذي يسمح باستعادة السلام». ولحظ ماكرون دوراً مزدوجاً لأوروبا، إذ عليها من جهة أن تساهم في الضمانات الأمنية التي تطلبها أوكرانيا، وأن تلعب دورها في عملية إعادة إعمار هذا البلد. وفي السياق عينه، رأى شولتس أنه «من المهم دفع تخفيف حدة التصعيد قدماً فيما يتعلق بلغة الخطاب على أي حال»، داعياً إلى اتخاذ خطوات «حاسمة» قريباً لإنهاء الصراع. وفي أي حال، حذّر المستشار الألماني من أن كييف «لن تقبل بسلام مفروض» يفرض عليها شروطاً تمس بسيادتها وسلامة أراضيها لا تستطيع قبولها، في إشارة إلى رغبة روسيا في انتزاع اعتراف رسمي من أوكرانيا بسيادتها على شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو في العام 2014، بالإضافة إلى اعترافها باستقلال جمهوريتي الدونباس الانفصاليتين.
هذه المقاربة الفرنسية - الألمانية تبتعد عن الطرح الأميركي. ووفق مصادر متابعة لتطورات الحرب في أوكرانيا، فإن الملاحظ أن «أهداف الحرب قد تغيرت، ليس فقط من المنظور الروسي، لكن أيضاً من المنظور الأطلسي - الأميركي خصوصاً». وترى هذه المصادر في التصريحات التي صدرت عن وزيري الدفاع والخارجية الأميركيين عقب اجتماع ممثلي 40 دولة في قاعدة رامشتاين الأطلسية في غرب ألمانيا، وأيضاً في قرار واشنطن مضاعفة مساعدتها لأوكرانيا 10 مرات قياساً لما قدمته في الشهرين الأولين من الحرب، دلائل قوية على وجود أهداف تتخطى أوكرانيا، وتندرج في سياق التنافس الاستراتيجي بين روسيا والحلف. وفي هذا الإطار، عكست تصريحات الجنرال لويد أوستن، بمناسبة زيارة مزدوجة له ولنظيره أنطوني بلينكن، إلى كييف، تحولاً كبيراً في الأهداف الأميركية، إذ قال إن ما تريده واشنطن من الآن وصاعداً هو أن «ترى روسيا ضعيفة، إلى درجة ألا تكون قادرة على القيام بأشياء كالتي تقوم بها في غزو أوكرانيا». أما بلينكن فقد اعتبر أن مساعدة كييف، هدفها تمكينها من استعادة السيطرة على جميع أراضيها، بما فيها الدونباس وشبه جزيرة القرم. يضاف إلى ذلك أن الأدبيات الرائجة حالياً في واشنطن ترى أن ثمة إمكانية لإلحاق الهزيمة بالقوات الروسية في أوكرانيا وإنزالها من مرتبتها كقوة عظمى قادرة ورائدة. الأمر الذي يفسر تخلي واشنطن عن أي تحفظات، لجهة توفير جميع أنواع الأسلحة الدفاعية والهجومية لأوكرانيا، وخصوصاً مدّها بالمعلومات الاستخبارية كافة التي تمكنها من إنزال ضربات مريرة بالقوات الروسية.
وترى باريس، «ومعها ألمانيا»، أن هذه المقاربة بالغة الخطورة، وقناعتها أن الرئيس بوتين لا يمكنه القبول بأن تُدحر قواته في جواره المباشر، رغم أنه تخلى على ما يبدو عن طموحاته الأولى التي كان يهدف إلى تحقيقها في مرحلة الغزو الأولى، أي السيطرة على كييف وإزاحة الحكومة الحالية واستبدالها بحكومة موالية لموسكو تستجيب لمتطلباتها وشروطها التي تتضمن فرض حالة الحياد عليها ونزع سلاحها واجتثاث النازيين منها. لذا، فإن الرئيس الفرنسي الذي أعلن أكثر من مرة تضامن بلاده مع أوكرانيا، يرى أن الأمر الملحّ اليوم، وفق ما يفهم من تصريحاته، ليس تحقيق الانتصار الميداني ودحر القوات الروسية، بل تمكين كييف من الدفاع عن أراضيها والدفع باتجاه وقف سريع لإطلاق النار والجلوس إلى طاولة المفاوضات ودعم موقف الحكومة الأوكرانية خلالها وتبني شروطها، وليس الحلول مكانها. وكان ماكرون بالغ الصراحة حول هذه النقطة بالذات، إذ أعلن من إستراسبورغ أنه «يعود للأوكرانيين وحدهم أن يحددوا شروط المفاوضات» مع روسيا، مضيفاً أن «مسؤوليتنا تكمن في الحصول على وقف لإطلاق النار والحرص على عدم تمدد النزاع لباقي الأراضي الأوروبية». وفي أي حال، تؤكد باريس أنها لا تتخلى عن سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، وهي تتمسك بذلك «لا أكثر ولا أقل». لكن السيناريو الفرنسي - الألماني يفترض، حتى يتحقق، أن تقبل روسيا السير فيه.
والحال أنه لا شيء حتى اليوم يشي بأنها على استعداد لوقف حربها على أوكرانيا، وأنها جاهزة للخوض في مفاوضات جدية، ما يعني عملياً أن المقاربة الفرنسية تبقى «نظرية» بانتظار أن تتوفر شروط ميدانية تدفع في هذا الاتجاه.
باريس وبرلين تبتعدان عن المقاربة الأميركية لمسار الحرب في أوكرانيا
ماكرون وشولتس يريدان وقفاً سريعاً لإطلاق النار تعقبه مفاوضات جدية... وواشنطن تركز على إلحاق الهزيمة بالقوات الروسية
باريس وبرلين تبتعدان عن المقاربة الأميركية لمسار الحرب في أوكرانيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة