تونس: حوار «اللاءات الثلاث» وقطيعة بين السلطة ومعارضيها

عشية الاستفتاء على «دستور جديد»

تونس: حوار «اللاءات الثلاث» وقطيعة بين السلطة ومعارضيها
TT

تونس: حوار «اللاءات الثلاث» وقطيعة بين السلطة ومعارضيها

تونس: حوار «اللاءات الثلاث» وقطيعة بين السلطة ومعارضيها

كشف الرئيس التونسي قيس سعيد في كلمة توجه بها للشعب بمناسبة عيد الفطر، ثم بعد مقابلات مع عميدين متقاعدين لكلية الحقوق، عن «خطة العمل» التي يعتزم المضي فيها لتنفيذ «خارطة الطريق السياسية» التي أعلن عنها العام الماضي، بما في ذلك تنظيم استفتاء شعبي على مشروع دستور جديد وتنظيم انتخابات برلمانية مبكرة. وأعلن سعيد عن استكمال مشروع الدستور الجديد «في ظرف أيام» وعن تنظيم حوار حوله وحول الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد مع الأطراف التي ساندت «الإجراءات الاستثنائية» التي اتخذها منذ 25 يوليو (تموز) الماضي، وبينها حل البرلمان والحكومة والمجلس الأعلى للقضاء و«هيئة الانتخابات». لكن سعيد استبعد أي حوار مع معارضيه، ووضع شروطاً جديدة للمشاركة في المسار السياسي المقبل بينها الموافقة على أن تكون «الاستشارة الإلكترونية» منطلقا للحوار رغم تشكيك قيادة اتحاد الشغل وغالبية الأحزاب فيها وفي نتائجها.
تباينت ردود الفعل في تونس وخارجها على مبادرة قيس سعيد الأخيرة، ولا سيما استخدامه في خطابه مجددا صيغة «اللاءات الثلاث»، أي لا صلح لا تفاوض ولا حوار، مع قيادات حزب «حركة النهضة» وكل الأحزاب والمنظمات التي اتهمته بـ«الانقلاب على الدستور»، والتي عاد إلى اتهامها بـ«الخيانة الوطنية والتآمر مع الخارج وبشن أكثر من 120 ألف هجوم إلكتروني على منصة الاستشارة الإلكترونية».
الرئيس التونسي أعلن، من جهة ثانية، عن مشاركة النقابات في الحوار المقبل. لكنه ذكر أنه سيكون مغايرا لسيناريو «الحوار الوطني» الذي نظم في 2013 برعاية نقابات رجال الأعمال والعمال ونقابة المحامين. والمعروف أنه أسفر عن استقالة حكومة «الترويكا» بزعامة حركة النهضة، وتشكيل «حكومة تكنوقراط» وتنظيم انتخابات جديدة بالتوافق مع زعيم المعارضة - في حينه – الرئيس السابق الراحل الباجي قائد السبسي. غير أن سعيد اعتبر أن ذلك المسار السياسي «لم يكن حواراً ولم يكن وطنياً»، رغم الانتقادات التي وجهها إليه أمين عام نقابات العمال الحالي نور الدين الطبوبي وسلفه حسين العباسي.

- دستور وقانون انتخابي جديدان؟
في هذه الأثناء رحبت «التنسيقيات» المساندة بقوة للرئيس سعيد والمحسوبة على «حراك 25 يوليو (تموز) بما وصفته بـ«خطة العمل» التي أعلن عنها الرئيس وبدأت حملة تجنيد مئات من أعضائها في كل المحافظات بهدف تأسيس مكاتب جهوية لها، وكذلك تنظيم «مظاهرات ضخمة» دعما للرئيس وقراراته، مطالبة إياه بمحاكمة أعضاء في البرلمان والحكومات السابقة و«حل الأحزاب» و«المنظمات» التي حكمت البلاد خلال «العشرية السوداء»، أي فترة ما بعد الإطاحة بحكم الرئيس بن علي في يناير (كانون الثاني) 2011.
كذلك رحب بالقرارات الرئاسية قادة بعض الأطراف السياسية المساندة لسعيد ولمسار «حركة التصحيح»، يتزعمهم الزعيمان اليساريان زهير حمدي من حزب «التيار الشعبي» وعبيد البريكي القيادي النقابي السابق ورئيس «حركة تونس إلى الأمام». واعتبر حمدي والبريكي أن مبادرة الرئيس سعيد الجديدة سوف تمهد لاستفتاء 25 يوليو وانتخاب برلمان جديد قبل نهاية السنة.
- نظام سياسي جديد
أيضاً، تصدر مساندي القرارات الرئاسية في وسائل الإعلام التونسية بعض رموز «الحملة الانتخابية» لسعيد في العام 2019 بينهم أحمد شفتر ورضا شهاب المكي - الملقب بـ«رضا لينين» - ورفاقهما من أنصار «ديمقراطية البناء القاعدي» حسب نظام سياسي شبيه بـ«النظام الجماهيري» الذي اعتمد في ليبيا في عهد رئيسها الراحل معمر القذافي.
ويدعو هؤلاء خلال «الحملات التفسيرية» للمشروع السياسي والقانوني للرئيس سعيد إلى الاستعاضة عن «الاقتراع على القوائم» بـ«الاقتراع على الأفراد»، محليا وجهوياً، ومنع الأحزاب من الترشح. وكذلك، يدعون إلى تعويض «البرلمان» بـ«مجلس نيابي» (أو «مجلس شعب») يجري «تصعيد أعضائه محلياً وجهوياً في المحافظات. ثم تسند لهذا المجلس صلاحيات الإشراف على الدولة وانتخاب الرئيس، مع إمكانية «سحب الثقة» في أي وقت من الوزراء والمسؤولين والنواب، وهو ما يذكر بمنظومة «اللجان الشعبية» و«المؤتمرات الشعبية» و«مؤتمر الشعب العام» و«اللجنة الشعبية العامة» التي حكمت ليبيا حلال العقود التي سبقت إسقاط نظام القذافي في 2011.
- تحفظات... ومعارضة
بيد أن هذه «المقترحات» قوبلت بمعارضة معظم قيادات النقابات والأحزاب، بما في ذلك الأطراف التي رحبت بقرارات 25 يوليو، لكنها قاطعت «الاستشارة الإلكترونية» التي نظمتها رئاسة الجمهورية والحكومة وشارك فيها 6 في المائة فقط من المواطنين. هذا، وكانت تلك «الاستشارة الشعبية الإلكترونية» قد أسفرت - حسب السلطة - عن دعوة إلى تغيير «النظام البرلماني المعدل» الحالي واعتماد النظام الرئاسي بدلاً منه. وأوصت كذلك بإعداد دستور وقانون انتخابي جديدين وفق المشروع الذي سبق أن دعا إليه الرئيس سعيد قبل انتخابات 2019 وبعدها... وتعارضه غالبية الأوساط السياسية والجامعية والحقوقية.
من جهة ثانية، توسعت دائرة المعارضين لمشاريع الرئيس سعيد القانونية والسياسية، وشملت قيادات الأحزاب التي ساندت قراراته في 25 يوليو الماضي، بينها زهير المغزاوي البرلماني والأمين العام لحزب الشعب القومي العربي وسالم الأبيض الوزير السابق للتربية والقيادي في الحزب نفسه، وزعيما حزب التيار الديمقراطي اليساري الوزيران السابقان محمد عبو وغازي الشواشي.
أيضاً قوبلت المبادرة الرئاسية بانتقادات جزئية من قبل قياديين في اتحاد الشغل سبق لهم أن دعوا إلى مقاطعة «الاستشارة الإلكترونية»، ووصفوها بـ«المهزلة»، رغم إصدارهم مواقف رحبت بقرارات 25 يوليو، وأخرى انتقدت بقوة «المنظومة السياسية الحاكمة السابقة» وخاصةً قيادات حركة النهضة والأحزاب التي حكمت البلاد في العشرية الماضية. وفي الوقت نفسه الوقت قوبلت المبادرة الرئاسية بانتقادات شديدة من قبل الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية اليسارية المعارضة، ومن قبل الوزير السابق نجيب الشابي، القيادي في حزب أمل الليبيرالي، بصفته زعيم «جبهة الخلاص الوطني»، التي تضم 10 أطراف سياسية وحزبية، بينها الائتلاف الحاكم السابق وحزب «حراك تونس الإرادة» الذي يتزعمه الرئيس الأسبق الدكتور محمد المنصف المرزوقي.
- تهديدات ومحاكمات
تتزامن كل هذه التطورات مع إعلان الرئيس قيس سعيد إصراره على تنفيذ برنامجه و«خارطة الطريق» التي أعلن عنها بدءا من تنظيم «استفتاء عام» يوم 25 يوليو وانتخابات نيابية يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين. ولقد عقد سعيد لهذا الغرض سلسلة من الاجتماعات المصغرة مع عميدين متقاعدين لكلية الحقوق والعلوم السياسية من بين أساتذته القدامى هما الصادق بلعيد ومحمد الصالح بن عيسى. ولكن عدداً من أبرز أساتذة القانون الدستوري والعلوم السياسية، بينهم شاكر الحوكي وكمال بن مسعود وعبد الرزاق بالمختار وسناء بن عاشور ومنى كريم، شككوا في قابلية هذه الخارطة للتطبيق واعتبروا أنها «غير دستورية وغير قانونية وغير قابلة للتطبيق لوجيستياً بحكم قرب موعد الاستفتاء المقرر لشهر يوليو المقبل»...
وحقاً طعن هؤلاء الأكاديميون خلال تصريحات في وسائل الإعلام وفي مناسبات منها مؤتمرات علمية وسياسية، في «حياد» اللجنة التي تقرر أن يشكلها قصر قرطاج (الرئاسي) لصياغة مشروعي الدستور والقانون الانتخابي والإصلاحات السياسية لأن الصادق بلعيد متقاعد عمره 83 سنة والعميد محمد الصالح بن عيسى متقاعد عمره 74 سنة ويتولى حالياً منصب مساعد الأمين العام لجامعة الدول العربية رئيسا لمكتب تونس بتكليف من الرئيس سعيد نفسه. ومن ثم، اتهم هؤلاء بلعيد وبن عيسي بالانحياز ضد المعارضة ومنظمات المجتمع المدني المستقلة وضد كل الأطراف السياسية والأحزاب والمنظمات التي تحفظت عن «القرارات الاستثنائية» وتطالب بالعودة إلى المسارين الديمقراطي والبرلماني وبتنظيم انتخابات برلمانية مبكرة تشرف عليها «هيئة عليا مستقلة لا تكون تابعة للسلطة التنفيذية».
ويظهر أن ضغوط هؤلاء الأكاديميين وأنصارهم تسببت في تغيير عدد من المساندين السابقين لقرارات 25 يوليو مواقفهم، بينهم أستاذ القانون الدستوري الصغير الزكراوي، الذي أصبح «الأكثر حدة» في انتقاد سياسات قصر قرطاج ومبادراته السياسية. وصار يطعن في قانونيتها ودستوريتها في وسائل الإعلام وخلال المؤتمرات العلمية والندوات السياسية داخل الجامعة وخارجها.
- منظمات حقوقية
بالتوازي، دعت قيادات عدة منظمات حقوقية ليبيرالية ويسارية، بينها منظمة «أنا يقظ»، إلى مقاطعة الاستفتاء والانتخابات و«المشروع السياسي» للرئيس سعيد وأصدرت بلاغات تطالبه بالتراجع أولا عن خطوات حل «الهيئة العليا المستقلة للانتخابات» و«المجلس الأعلى للقضاء» وعن مرسوم استبدالهما بهيئات تختارها السلطة التنفيذية وتحديدا رئاسة الجمهورية...
لكن الرئيس التونسي رد على هؤلاء وعلى كل معارضيه بموقف حازم قائلاً ومشدداً «لا تراجع... ولا عودة إلى الوراء». وعاد في خطابه الجديد الموجه إلى الشعب إلى استخدام صيغة «اللاءات الثلاث: لا صلح لا تفاوض ولا اعتراف». وأعلن أن «الحوار السياسي والاقتصادي سيكون مفتوحا لكنه غير تقليدي ولن يشمل من لم يدعموا حراك 25 يوليو ومن لم يشاركوا في الاستشارة الإلكترونية».
- «الورقة الدولية»
في هذه الأثناء، دخلت العواصم الأوروبية والغربية على خط الأزمة التونسية. وتعاقبت تصريحات رئاسة الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وممثلو البيت الأبيض والكونغرس الأميركي وسفراء مجموعة «الدول السبع الكبار» في تونس، مطالبةً قصر قرطاج بتنظيم «حوار وطني سياسي لا يقصي أحدا ويؤدي إلى عودة البلاد في أقرب وقت إلى المسارين الديمقراطي والبرلماني».
هذا، وأعلن وزير الخارجية الأميركي بلينكن والناطق باسم رئاسة الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي أن واشنطن وبروكسل والعواصم الأوروبية تعتبر أن توفير ما تحتاجه تونس من قروض ودعم مالي فوري لمعالجة أزمتها الاقتصادية الاجتماعية الخانقة «مشروط بالعودة إلى المسارين الديمقراطي والبرلماني وتنظيم حوار تشاركي». لكن الرئيس سعيد رد بحدة على هذه المواقف وعلى سلسلة البلاغات الأميركية والأوروبية التي انتقدته طوال الأشهر الماضية، مجدداً القول والتساؤل أن «تونس دولة مستقلة ذات سيادة»... لما يعبرون عن «القلق» من أوضاعنا وسياساتنا؟ هل عبرنا عن «القلق» بسبب أوضاعهم وصعوباتهم ومشاكلهم الداخلية؟
الغموض يبقى سيد الموقف إزاء فرص تونس في الخروج من هذا المأزق السياسي والدبلوماسي الذي تسبب إلى حد الآن في «تعليق» غالبية برامج الشراكة المالية والعسكرية بين تونس وشركائها الغربيين، وفي حرمانها من تغطية «عجز» موازنة عامي 2021 و2022 الذي يقدر بحوالي 25 مليار دينار تونسي أي أكثر من 8 مليارات دولار أميركي.
ووسط المواجهة بين الديمقراطية و«القوة الصلبة» توسعت الهوة الفاصلة بين الأفرقاء وصناع القرار الاقتصادي والسياسي الوطني. بل وزاد الأوضاع تعقيدا بروز انشقاقات داخل كبرى الأحزاب والنقابات والأطراف السياسية المحسوبة على الرئيس سعيد. وكانت الأوضاع قد استفحلت منذ استقالة نادية عكاشة، «المرأة القوية» في قصر قرطاج خلال العامين الماضيين وكبيرة مستشاري سعيد منذ 2009، ثم «فرارها» إلى فرنسا مع أسرتها وإطلاقها حملة دعائية عنيفة معارضة لوزير الداخلية رضا شرف الدين، المقرب من الرئيس. ومن ثم، تطورت الحملة بسرعة إلى حملات إعلامية متبادلة بين أنصارها وخصومها داخل «تنسيقيات قيس سعيد» ثم إلى «تسريبات خطيرة» روجت إشاعات واتهامات خطيرة ضد الرئيس والمقربين منه، ما تسبب في فتح تحقيق قضائي ضدها غيابياً.
ولقد ردت شخصيات سياسية وإعلامية كثيرة على هذه الأزمة المستفحلة بالدعوة في وسائل الإعلام إلى «تدخل القوى الصلبة»، أي قيادات المؤسستين العسكرية والأمنية. في المقابل، يدعو كثير من السياسيين المنخرطين في «المبادرة الديمقراطية» و«جبهة الخلاص الوطني» إلى معالجة الأزمة عبر «العودة إلى المسارين الديمقراطي والبرلماني» وتنظيم انتخابات مبكرة برلمانية ثم رئاسية... ويعتبرون أن «المؤسسات الديمقراطية وحدها بمقدورها حماية الدولة».

أحمد نجيب الشابي  -  سمير ديلو  -  سميرة الشواشي  -  أسامة الخريجي

من هم زعماء «جبهة الخلاص الوطني» التي تتزعم المعارضة؟
> تشكلت في تونس أخيرا جبهة «الخلاص الوطني» برئاسة المحامي والقيادي اليساري السابق أحمد نجيب الشابي للضغط من أجل «إنقاذ البلاد من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخانقة» وتنظيم انتخابات برلمانية مبكرة. أما أبرز قادة هذه الجبهة فهم:
- أحمد نجيب الشابي، رئيس المكتب السياسي لحزب أمل، وهو حزب ليبيرالي أسسه مع عدة شخصيات وطنية قبل انتخابات 2019 بينها السيدة سلمى اللومي سيدة الأعمال والوزير السابقة للسياحة ثم مديرة مكتب الرئيس الباجي قائد السبسي. وكان الشابي قد لمع في عهدي الرئيسين بورقيبة وبن علي بتزعمه للمعارضة القومية العروبية واليسارية الاشتراكية المعتدلة. وتولى الشابي منصباً وزارياً لمدة قصيرة في أول حكومة بعد سقوط بن علي، ثم استقال وعاد للمعارضة بعدما فاز بعضوية البرلمان الانتقالي في أكتوبر 2011.
- جوهر بن مبارك، أستاذ القانون الدستوري. وهو زعيم يساري طلابي سابق، كان وزيرا مستشاراً في حكومة إلياس الفخفاخ عام 2020. وأسس مع عشرات اليساريين والإسلاميين والمستقلين بعد 25 يوليو مبادرة «مواطنون ضد الانقلاب» التي نظمت عدة مظاهرات وتحركات في تونس بمشاركة آلاف المواطنين والنشطاء السياسيين أغلبهم من الإسلاميين وحركة النهضة.
- أسامة الخريجي، نقيب المهندسين التونسيين السابق. تولى حقيبة وزارة الفلاحة عام 2020 بصفة «مستقل» ضمن القائمة التي دعمتها حركة النهضة وحزب «قلب تونس» وحزب «ائتلاف الكرامة».
- إسلام حمزة، محامية يسارية برزت بتحركاتها المعارضة لمسار 25 يوليو وبدورها في المحاكمات السياسية.
- سمير ديلو، محام ووزير سابق في حكومة 2012 - 2013 برئاسة حمادي الجبالي وعلي العريض. استقال من حركة النهضة مع مئات من رفاقه الذين أسسوا مبادرة «تونسيون من أجل الديمقراطية» ويتأهبون لتأسيس حزب جديد منافس للنهضة.
- الحيبب بوعجيلة، نقابي وسياسي يساري معتدل. أستاذ جامعي وحقوقي مستقل وقيادي سابق في الحزب الديمقراطي التقدمي الذي تزعمه أحمد نجيب الشابي قبل 2011.
- سميرة الشواشي، نائبة رئيس البرلمان المحلول، ونائبة رئيس حزب «قلب تونس» الذي يتزعمه رجل الأعمال والإعلام والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية نبيل القروي.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.