شهادات منشقين عن داعش المتطرفة (3 - 4) : الاشتباكات الدامية مع عشيرة الشعيطات تتسبب في تخلي الكثير من مقاتلي «داعش» عن الحرب

التنظيم يعصف بعناصره المشاركة في مناظرات في مدينة الدانا ويستثني أمراء الولايات

TT

شهادات منشقين عن داعش المتطرفة (3 - 4) : الاشتباكات الدامية مع عشيرة الشعيطات تتسبب في تخلي الكثير من مقاتلي «داعش» عن الحرب

من أهم أسباب انشقاق مقاتلين من تنظيم داعش، تضارب توجهات التنظيم وعدم وجود مرجعية واضحة أو أهداف محددة يسعى لتحقيقها باستثناء شعار «إقامة دولة الخلافة»، وهو أمر بدا في الواقع، وعبر شهور، أنه لا يزيد عن وهم قام بحبكه عدد من القادة لترويجه نظريا، بينما ما يجري على الأرض مغاير تماما.
وتواصل «الشرق الأوسط» نشر شهادات من خمسة، من سوريا وليبيا وتونس، كان يجري تأهيلهم على جانبي الحدود العراقية السورية، لكي يكونوا قادة مستقبلا، وحاربوا مع التنظيم في مناطق دير الزور والبوكمال وحديثة وغيرها، بينما كانت تعليمات ما يطلق عليه القادة «الشرعيون» في داعش، تزيد من حيرتهم بشأن جدوى الاستمرار في التنظيم، بعد صدور الكثير من الفتاوى وعكسها في بضعة أيام، رغم ما ترتب عليها من أعمال قتل وتشريد وفوضى.
وتوقفت الحلقة السابقة عند نذر المواجهة التي بدأت في منطقة البوكمال وهي مدينة سورية قريبة من الحدود مع العراق بين مجموعة الليبي أبو هريرة والجيش الحر. كان عدد مقاتلي داعش قد زاد من 18 مقاتلا إلى 70. بسبب عدم ثقة المقاتلين في الصفقات التي يعقدها قادة التنظيم وآخرهم أبو عمر الشيشاني الذي ترك الجبهة ومضى، دون أن يشرح لأتباعه العلاقة الجديدة التي ينبغي أن تكون بين مقاتلي داعش وكل من جبهة النصرة والجيش الحر.
يقول أبو هريرة إنه فوجئ بأن جبهة النصرة والجيش الحر لم ينضموا لداعش أو يعلنوا الاستتابة أو يبايعوا الخليفة، كما أوحى لهم الشيشاني من قبل. وشعرت مجموعة أبو هريرة بالخوف من الإمدادات التي كانت تصل للجيش الحر، وهنا طلب من جبهة النصرة أن تدخل مع مجموعته في مقاتلة الجيش الحر، إلا أنها نأت بنفسها عن الاقتتال وانحازت إلى ما قالت: إنه رغبتها في «حقن دماء الطرفين».
الاصطدام مع الجيش الحر، وعدم مساندة جبهة النصرة لمقاتلي داعش في تلك المعركة، كما يشرح أبو هريرة أثبت صدق ما كان يتحدث عنه هو وجماعته مع البنعلي والقحطاني وأبو اليمان والشيشاني، بشأن عدم الثقة في خصوم التنظيم، وضرورة الاستتابة لهم قبل أي هدنة أو تعاون معهم.
ويضيف أحد المنشقين التونسيين: «كان الموقف هو أنه إما أن يدخلوا تحت راية دولة (الخلافة) ويأتمروا بأمرها أو قتالهم، كما تنص الفتاوى التي نحارب منذ البداية بناء عليها، ولا قبول بأي مبررات دون هذا الأمر، وإلا يكون هناك تلاعب.. وهذا ما كان في الحقيقة. وجدنا أنفسنا في تلك الحرب أضحوكة. أنت تتصرف وأنت تظن أن هذا سيقف إلى جانبك، لكن حين تبدأ المعركة يقول لك أنا لن أحارب معك. إذن ما العمل؟».
خلال ساعات من بدء تلك المعارك بين «داعش» والجيش الحر، وصل للتنظيم الدموي المزيد من المدد، بعد أن هدد «أبو هريرة: بسحب مجموعته من المنطقة.. وصل من الشمال ومن جهة العراق، مئات المقاتلين وشحنات من الأسلحة وسيارات الدفع الرباعي ومدرعات عسكرية أيضا كان قد جرى الاستيلاء عليها من الحروب مع الجيش العراقي». ويضيف التونسي أنه بهذه التعزيزات التي وصلتنا «حققنا الغلبة على الجيش الحر الذي كان يبدو أنه أسس لمعركة مع 70 مقاتلا من داعش وليس مع عدة مئات كما حدث بعد ذلك».
من جانبه يقول أبو هريرة: في اليوم الأخير، وبعدما أخذنا كل مواقع الجيش الحر تقريبا، إلا موقعا أو موقعين في البوكمال، طلب الجيش الحر مهلة ليسلم سلاحه. أنا ومن معي كنا ضد هذا، لكن قادة داعش ارتكبوا نفس الأخطاء السابقة حين وثقوا في مبادرة الجيش الحر.. فأعطوه المهلة، لكن بعدها بساعتين هربوا. وصدرت لنا الأوامر بأن نعود إلى العراق لدعم إخواننا من جنود الدولة (داعش) في معركة أخرى في حديثة كانت قد وقعت هناك وشهدت مجازر نجونا منها بفضل الله. ومن وراء ألسنة الدخان ظهر أبو شعيب ومجموعته مجددا.
هذه لم تكن المرة الأولى التي يشترك فيها أبو هريرة وأبو شعيب في معارك حديثة، وهي بلدة تقع غرب منطقة الأنبار. لكن الفرق هذه المرة هو أن قوات التحالف الدولي كانت تقصف مواقع داعش بالطيران صباح مساء.. وعلى الأرض تجري عمليات الكر والفر، بين قوات داعش من جانب، والجيش العراقي وحلفائه من الصحوات والحشد الشعبي من جانب آخر.. يقول أبو شعيب: «نهاجم حتى نقترب من السيطرة على المدينة ثم نضطر للتراجع تحت قصف القوات المتمركزة فيها والتي كان يصلها المدد يوما بيوم من قيادة عمليات الأنبار ومن قوات الفرقة السابعة».
خلال الأيام التي لا يكون فيها قتال، كان أبو هريرة يجتمع في محاضرات بالمعسكرات مع مقاتلين آخرين.. «هنا تستطيع أن تعثر على كتب البنعلي وفقهاء آخرين في كل مكان. كانت لنا مطابع حصلنا عليها من المدن التي دخلناها. هذه الكتب غير موجودة على الإنترنت، ربما لأن قادة التنظيم لا يريدونها أن تقع في أيدي شيوخ آخرين حتى لا ينقدوها أو يعرفوا ما فيها من تعليمات عن التعامل مع الكفار والمرتدين وغيرها».
ومرة أخرى يعود الجدل، أكثر حدة من السابق، حول توجهات التنظيم وخطوطه العامة وعلاقاته بـ«القاعدة» والنصرة ومقاتلة العشائر و«المرتدين».. حدث هذا حين جرى تأجيل اقتحام حديثة، وتوجيه دفة المعارك إلى جبهات أخرى أكثر أهمية.. وهنا يقول أبو هريرة: «سألت عن مصير شيخنا الذي سبق وأخبرتك أنه جرى سجنه في مبنى السفارة في الرِّقة.. لكن لم أتمكن من معرفة ما جرى له إلا بعد عدة أسابيع».
يضيف أبو شعيب أن قادة داعش ومساعدي البنعلي كانوا يردون على تشعب الحديث بين المقاتلين عن التكفير وحدود القتل وغموض توجهات التنظيم، بتوزيع مزيد من المطويات والكتيبات، مع التنبيه على ضرورة الالتزام بما فيها.. «من أجل النصر على العدو. ضغوط رهيبة لمنع طرح الأسئلة، وأخيرا أعادوني مع مجموعتي مجددا، إلى سوريا بسبب اندلاع معارك جديدة هناك، قرب دير الزور. وشارك في هذه المعارك أيضا أبو هريرة والتونسيين الثلاثة».. «كنا بضع عشرات معنا 23 سيارة ومدرعة وخمسون مدفعا والكثير من القذائف الصاروخية، إضافة إلى أسلحتنا الشخصية».
قبل الانطلاق إلى دير الزور استقبل هذه المجموعة القتالية، والي الأنبار وعضو المجلس العسكري ومجلس الشورى في داعش، ويدعى أبو أيمن العراقي الذي يقال: إنه قتل فيما بعد في الغارات الحربية. يتذكر أبو شعيب قائلا: فهمت من حديثه أن هناك قلقا بين قادة التنظيم من أفكارنا وأفكار مجموعات أخرى مماثلة لنا، ولهذا أخذ يبرر لماذا كنا نحارب النصرة والجيش الحر، ثم لماذا دخلنا معهما في هدنة، ولماذا عدنا للحرب معهما من جديد.
لقد قُتل منا كثير من الليبيين والجزائريين والتونسيين وغيرهم. والآن يقول أبو أيمن، بكل بساطة، إن تأثير الذين يطرحون مثل هذه الأسئلة لا يختلفون عن أعداء دولة الخلافة.. فخذوا حذركم ولا تتأثروا بدعايات الصحوات والمرتدين. وماذا عن قضية الغنائم التي طرحها الإخوة في جلسة مناظرة الدانا؟ لا مجيب.
ويضيف أحد التونسيين «بعد أن مشينا عدة كيلومترات بجوار نهر الفرات، وعند وصولنا إلى دير الزور مع الفجر، وجدنا أبو أيمن قد سبقنا إلى هناك، وطلب الاجتماع بنا». ومن جانبه يوضح أبو هريرة قائلا: اجتمع بنا، وقال لنا بالحرف، وكانت لهجته مخيفة ومرعبة، إن من يقول بكفر العاذر سأرميه بطلقة في رأسه وأرميه في القمامة.. ومن يُكفِّر الظواهري سأرميه بطلقة في رأسه وأرميه في القمامة.. وإذا أحدٌ كفَّر أحدًا من الدولة (أي من داعش) سأرميه بطلقة في رأسه وأرميه في القمامة.. وإذا وجدت أحدًا يسمع لما يقوله الحازمي (أحد الدعاة ممن ارتبط اسمه بالجدل حول تكفير العاذر) في خطبه سأسجنه وأعاقبه وأرميه بطلقة وأرميه في القمامة».
ويشير أبو شعيب إلى جانب آخر من القصة، ويقول إنه «في الحقيقة، اكتشفت فيما بعد أن تعليمات الوالي أبو أيمن كانت جزءًا من الاستعداد للحرب على عشيرة الشعيطات التي لها قرى في الريف الشرقي لدير الزور».
في البداية قال: إن الشعيطات كفار، ثم في محاضرات اليوم التالي قال: إنهم مرتدون». بينما يوضح أبو هريرة أنه خلال درس الوالي «تذكرت شيخنا الذي تركناه في مبنى السفارة في الرِّقة، لأنه كان قد شرح لنا الفرق الكبير بين الكافر والمرتد».
ويقول التونسي إنه طرح هو الآخر سؤالا للوالي، حول هذا الأمر، وزاد قائلا له إن الشعيطات ينطقون الشهادة ويرفعون الأذان ويصلون في مساجدهم ويحاربون بشار الأسد، فأجاب أنهم يقاتلون الدولة (داعش)، ولذلك وجب التعامل معهم كمرتدين.
يبدو الهدف من الحرب مع الشعيطات مشوشا في ذهن أبو هريرة منذ بدايتها حتى اليوم وهو يروي تجربته. كان العام الجديد قد بدأ والرياح تهب على دير الزور من الشمال بينما السماء خالية من السحب. وبعد ذلك بعدة أيام انصرف مساعد الوالي، وترك المقاتلين هناك قرب تخوم الشعيطات، وأرسل بدلا منه مندوبا آخر يحل محله. وعرف من هذا المندوب، وهو عراقي يكنى أبو حمزة، أن شيخ المجموعة الغائب قد جرى نقله من مقر السفارة بـ«الرِّقة» إلى سجن في المدينة نفسها، تمهيدا لعرضه على المحكمة الشرعية.
يواصل أبو شعيب: لم يمهلنا الشعيطات للتفكير فيما يحدث أو إيجاد تفسير لزج التنظيم الذي نقاتل معه، بشيخنا في السجن.. هجم علينا عدد من أبناء الشعيطات بمجرد اقترابنا من تخومهم.. «فصرنا نقتل كل من نجده منهم في طريقنا. في البداية قاتلناهم على أساس أنهم كفار، ما اختلفنا، لكن بعد ذلك نقل لنا المندوب أبو حمزة تفسيرا من الدولة يقول إن السبب في قتالهم هو لأنهم يحاربون الدولة.. بينما نحن كنا نقول هم كفار. هناك فرق».
بعد ذلك جاء مدد.. مقاتلون وأسلحة وسيارات. وجاء مندوبون آخرون للدولة من قادة الدولة ومن الوالي.. «صاروا يقولون لنا إن الشعيطات مرتدون.. قلنا لهم لماذا؟ فقالوا لأنهم قاتلوا الدولة. قلنا إذن ليسوا كفارا وبالتالي المسألة لا تتساوى، لكن لم يكن هناك أحد ليشرح أو يجيب أو يعطي إفادة ناجعة».
وكان قد سقط في هذه المعارك المئات من أبناء الشعيطات بين قتيل وأسير. لكن أبو حمزة، وبعد كل هذا، كما يقول أبو شعيب أمر بالاحتفاظ بمن نأسره من أولاد الشعيطات، حيا، ولا نقتله. جمعهم في المؤخرة، وعرض عليهم الاستتابة ومبايعة الدولة والحرب في صفوفها. من يوافق يجري نقله للتدريب في المعسكرات في الأنبار، ومن يرفض يُقتل.
يقول أبو هريرة إنه بعد هذه الوقائع قرر التوقف عن الاشتراك في العمليات القتالية. وكذلك فعل أبو شعيب وعدد آخر من المجموعات لا سيما تلك التي ينخرط فيها ليبيون وتونسيون وجزائريون.
وأخذ ينأى بنفسه عن التواجد في المعسكرات، خاصة أنه كان في الأسابيع السابقة يتردد على مقار «معهد تخريج الشرعيين للدولة (داعش)»، التي كان يديرها في السابق رجل شهير بين المقاتلين العرب والأجانب، يدعى عثمان، وهو قيادي ومفتي في التنظيم، ويعتقد أنه قتل في غارة جوية في مدينة عين العرب في وقت سابق عن تلك الأيام.
كان مقر المعهد الشرعي الذي توجه إليه أبو هريرة يقع في مدينة الرقة. يقول: «اعتزلت القتال، وصرت أبحث في أمور ديني. كنت أشك بكفر الدولة (داعش) لكنني لم أكن متيقنا من ذلك. كنت أعلم بحربها على الموحدين، وهذا أمر يخالف الدين.. أدركت أنني تورطت معها في أعمال لا ترضي الله». لكن رحلة الخروج من داعش لم تكن سهلة.
أما أبو شعيب فقد توصل إلى قناعات مماثلة، بل بدأ في إعادة قراءة الحالة التي أصبح عليها مع داعش. وخرجت أفكاره مغايرة مقارنة بالمرة الأولى التي التحق فيها بهذا التنظيم عند اجتياحه للأراضي السورية.
يقول، وقد بدا أنه يتحول إلى فقيه يبحث لنفسه عن طريق جديد، إن «الدنيا تغيرت أمام عينيه.. يرى دنيا جديدة». وبعد أن يؤكد على تفاصيل تخص قضية العقيدة و«الانقياد والتسليم والخضوع والذل والانكسار بين يدي الله عز وجل»، يتطرق مرة أخرى إلى تنظيم داعش الذي كان أحد مقاتليه ودعاته، قائلا إن داعش «جعلت لنفسها وجماعتها الحق المطلق لرعاية القتال وجعلت هذا أصلاً مطردًا، بل كفرت من خالفها فيه، والعجب كل العجب بأنها لم تكفر من خالفها فيما تعتقده وتزعم أنها تنظر له ألا وهو حقيقة التوحيد».
وبعد هجره للتنظيم.. وبعد تأمل وقراءة يبدأ أبو شعيب في نقض معتقدات داعش وهو يدعو لأفرادها بـ«الهداية»، قائلا: «سنبدأ إن شاء الله في نقض معتقد هذه الجماعة التي أسأل الله أن ييسر لأفرادها الهداية، وأن يعلموا أنهم على باطل وإن زعموا أنهم يقاتلون، فالقتال ليس هو ميزان لمعرفة الحق من الباطل.. وكما أنه لا يستدل بالفرع على صحة الأصل.. أيضا لا يمكن أن يستدل بالقتال على صحة التوحيد. هذا ما يجب أن يكون واضحًا عند هذه الجماعة التي لا هم لها إلا القتال».
ويضيف أن جماعة داعش «تعتقد أن الإسلام يكون بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله، ومن ثمَّ نجدها تضطرب حينما تحكم لمن لم يأت بهذا الأصل، أو خالفه». ويقول إن هذا أمر عجيب. وهو هنا يشير إلى فتاوى سابقة منسوبة لتركي البنعلي، أحد كبار قيادات التنظيم وأحد كبار الداعين لانضمام الشباب له من أصقاع العالم.
ويضيف: هذه الجماعة بدأت تعادي عداء واضحًا من أنكر عليهم، أو أنقض شيئا، ولو أنه لا يمس المعتقد، وذلك مثلما حدث معي، مشيرا في هذه الواقعة إلى جلسة المناظرة بين قادة داعشيين حول تطبيق الحدود وتقسيم الغنائم. كانت تلك الجلسة بحسب أبو شعيب السوري، في مدينة الدانا، التابعة لمحافظة إدلب.
كان من بين الكوادر والقيادات والقضاة الحضور أبو عبد الله الليبي، وأبو المقداد الليبي، وأبو جهاد الشيشاني، وأبو البراء المدني، وأبو شعيب المصري وأبو الأثير وأبو بكر القحطاني.
ويواصل قائلا إن جلسة المناظرة كانت في «تطبيق الحدود في ديار الكفر»، و«تقسيم الغنائم التي كانوا يأخذونها بحجة أنها لبيت مال المسلمين».. وعليه، وبناء على ما جرى في هذه المناظرة، سجنوا أبو شعيب المصري وأبو البراء المدني، لأنهما قالا حقًا، وأنهما رأيا الأخطاء.. ثم بدأ العصف والتنكيل بكل من جهر بانتقاد الدولة.
يتساءل أبو شعيب السوري في أسى: «هل على هذا يكون عمل من يدعي الدين والاستمساك به؟ هل هكذا يعامل من يرى عليك خطأ ويريد إصلاحه؟ أين الرجوع إلى الكتاب والسنة؟». ويعود أبو شعيب إلى جانب آخر يتعلق بتجربته مع داعش قائلا إن الأمر الآخر «الحكم بغير ما أنزل الله الذي تفشى فيهم».
ويشير إلى تجارب مريرة عاشها جنود التنظيم على أيدي الكثير من أمراء المعسكرات، خاصة أن بعض محاكم داعش كانت تعمل جنبا إلى جنب مع محاكم نظام بشار الأسد، إلى جانب تزايد الخلافات الفقهية إلى درجة وقوع الاشتباكات في الحواجز وعلى الطرق، في شرق سوريا، كما حدث مع مجموعة شباب من داعش ينتمون لمدينة بن قردان التونسية، ما أدى إلى ابتعادهم عن تعليمات قادة التنظيم والعمل كمجموعة منفصلة.
ويتحدث أبو شعيب عن الكثير من الوقائع الأخرى من بينها اشتباكات بين عناصر داعش، وصلت إلى حد رفع الأسلحة على بعضهم بعضا، بعد خلافات فقهية حول ما إذا كان الرئيس المصري الأسبق مرسي يستحق وصفه بالطاغوت أم لا.. «سحب أحدهم بندقيته وأراد إطلاق النار على خصمه في المجادلة».
وأخذ أبو شعيب على داعش اشتراكها في القضاء مع فصائل أخرى، دون سند من الفقه أو الشريعة، قائلا إن هذا «دليل على أن القوم يميلون إلى القتال وكسب الناس ولو على حساب العقيدة.. يعني الذي ترى فيه مصلحة تفعله وإن كان فيه مخالفة للمعتقد».
ويضرب مثلا بواقعة جرت أثناء وجوده في صفوف داعش تتعلق بقبر جد العثمانيين، سليمان شاه، الموجود في شمال سوريا، قرب الحدود مع تركيا. يقول إن وفدا رفيع المستوى دخل لزيارة قبر سليمان شاه في مدينة تل أبيض، وهي مدينة تحت سيطرة الدولة (داعش) ويرى جنود التنظيم ذلك فلا يحركون ساكنًا، بذريعة السمع والطاعة في الشرك.. يدخل الجنود ويخرجون للتناوب على حراسة هذا الضريح، ويقول لك قادة التنظيم إنهم يفعلون هذا، رغم مخالفته للشرع، لأنهم لا يريدون أن تقوم تركيا بغلق الحدود أمام عناصر التنظيم.
وينتقل أبو شعيب إلى جانب آخر يبدو أنه قاسم مشترك لدى الشبان الذين نفضوا أيديهم من داعش. ويقول: بل العجب الذي لاحظته في الدولة تنوع العقائد.. هناك من يكفِّر الجيش الحر، وهناك من لا يكفره، بل كان يقاتل معه وينافح ويدافع عنه من أمثال المسؤول عن المخيمات الدعوية لداعش.. بل بعضهم يزور الجيش الحر ويبقى عنده، والأمر الآخر يقبضون على الدروز، ثم يطلقون سراحهم ولا تفهم كيف ولماذا؟ كذلك قادة داعش لا يحاكمون أمراء التنظيم إطلاقا.. تجدهم بسيارات فارهة ولديهم أفضل الأسلحة، وإن أخطأوا لا يحاكمونهم، ولا يحرضون الجنود على القتال للتخلص منهم مثلما يحدث ضد من هم ليسوا في مرتبة أمراء المناطق. كما أنهم لا يدخلون المعارك، لأنهم أمراء في داعش.
ويواصل أبو شعيب موضحا أن التنظيم ناصب عددا من جنود وفقهاء شجعان من داعش العداء لا لشيء إلا لأنهم قالوا الصدق في وجه القادة الكبار. هؤلاء جهروا بالأسئلة والانتقادات، فكان مصيرهم إما القتل أو الأسر، وأذكر منهم أبو البراء المدني، وأبو عمر الكويتي، وأبو الحوراء الجزائري، وأبو جعفر الحطاب التونسي، وأبو قسورة التونسي، وأبو عبيدة التونسي، وأبو مصعب التونسي، وأبو نعيم التونسي، وأبو القعقاع الشامي، وأبو يزيد الحموي، وأبو معاوية الحموي، وأبو عمر الحموي، وأبو معاوية النصاري.



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.