شهادات منشقين عن داعش المتطرفة (3 - 4) : الاشتباكات الدامية مع عشيرة الشعيطات تتسبب في تخلي الكثير من مقاتلي «داعش» عن الحرب

التنظيم يعصف بعناصره المشاركة في مناظرات في مدينة الدانا ويستثني أمراء الولايات

TT

شهادات منشقين عن داعش المتطرفة (3 - 4) : الاشتباكات الدامية مع عشيرة الشعيطات تتسبب في تخلي الكثير من مقاتلي «داعش» عن الحرب

من أهم أسباب انشقاق مقاتلين من تنظيم داعش، تضارب توجهات التنظيم وعدم وجود مرجعية واضحة أو أهداف محددة يسعى لتحقيقها باستثناء شعار «إقامة دولة الخلافة»، وهو أمر بدا في الواقع، وعبر شهور، أنه لا يزيد عن وهم قام بحبكه عدد من القادة لترويجه نظريا، بينما ما يجري على الأرض مغاير تماما.
وتواصل «الشرق الأوسط» نشر شهادات من خمسة، من سوريا وليبيا وتونس، كان يجري تأهيلهم على جانبي الحدود العراقية السورية، لكي يكونوا قادة مستقبلا، وحاربوا مع التنظيم في مناطق دير الزور والبوكمال وحديثة وغيرها، بينما كانت تعليمات ما يطلق عليه القادة «الشرعيون» في داعش، تزيد من حيرتهم بشأن جدوى الاستمرار في التنظيم، بعد صدور الكثير من الفتاوى وعكسها في بضعة أيام، رغم ما ترتب عليها من أعمال قتل وتشريد وفوضى.
وتوقفت الحلقة السابقة عند نذر المواجهة التي بدأت في منطقة البوكمال وهي مدينة سورية قريبة من الحدود مع العراق بين مجموعة الليبي أبو هريرة والجيش الحر. كان عدد مقاتلي داعش قد زاد من 18 مقاتلا إلى 70. بسبب عدم ثقة المقاتلين في الصفقات التي يعقدها قادة التنظيم وآخرهم أبو عمر الشيشاني الذي ترك الجبهة ومضى، دون أن يشرح لأتباعه العلاقة الجديدة التي ينبغي أن تكون بين مقاتلي داعش وكل من جبهة النصرة والجيش الحر.
يقول أبو هريرة إنه فوجئ بأن جبهة النصرة والجيش الحر لم ينضموا لداعش أو يعلنوا الاستتابة أو يبايعوا الخليفة، كما أوحى لهم الشيشاني من قبل. وشعرت مجموعة أبو هريرة بالخوف من الإمدادات التي كانت تصل للجيش الحر، وهنا طلب من جبهة النصرة أن تدخل مع مجموعته في مقاتلة الجيش الحر، إلا أنها نأت بنفسها عن الاقتتال وانحازت إلى ما قالت: إنه رغبتها في «حقن دماء الطرفين».
الاصطدام مع الجيش الحر، وعدم مساندة جبهة النصرة لمقاتلي داعش في تلك المعركة، كما يشرح أبو هريرة أثبت صدق ما كان يتحدث عنه هو وجماعته مع البنعلي والقحطاني وأبو اليمان والشيشاني، بشأن عدم الثقة في خصوم التنظيم، وضرورة الاستتابة لهم قبل أي هدنة أو تعاون معهم.
ويضيف أحد المنشقين التونسيين: «كان الموقف هو أنه إما أن يدخلوا تحت راية دولة (الخلافة) ويأتمروا بأمرها أو قتالهم، كما تنص الفتاوى التي نحارب منذ البداية بناء عليها، ولا قبول بأي مبررات دون هذا الأمر، وإلا يكون هناك تلاعب.. وهذا ما كان في الحقيقة. وجدنا أنفسنا في تلك الحرب أضحوكة. أنت تتصرف وأنت تظن أن هذا سيقف إلى جانبك، لكن حين تبدأ المعركة يقول لك أنا لن أحارب معك. إذن ما العمل؟».
خلال ساعات من بدء تلك المعارك بين «داعش» والجيش الحر، وصل للتنظيم الدموي المزيد من المدد، بعد أن هدد «أبو هريرة: بسحب مجموعته من المنطقة.. وصل من الشمال ومن جهة العراق، مئات المقاتلين وشحنات من الأسلحة وسيارات الدفع الرباعي ومدرعات عسكرية أيضا كان قد جرى الاستيلاء عليها من الحروب مع الجيش العراقي». ويضيف التونسي أنه بهذه التعزيزات التي وصلتنا «حققنا الغلبة على الجيش الحر الذي كان يبدو أنه أسس لمعركة مع 70 مقاتلا من داعش وليس مع عدة مئات كما حدث بعد ذلك».
من جانبه يقول أبو هريرة: في اليوم الأخير، وبعدما أخذنا كل مواقع الجيش الحر تقريبا، إلا موقعا أو موقعين في البوكمال، طلب الجيش الحر مهلة ليسلم سلاحه. أنا ومن معي كنا ضد هذا، لكن قادة داعش ارتكبوا نفس الأخطاء السابقة حين وثقوا في مبادرة الجيش الحر.. فأعطوه المهلة، لكن بعدها بساعتين هربوا. وصدرت لنا الأوامر بأن نعود إلى العراق لدعم إخواننا من جنود الدولة (داعش) في معركة أخرى في حديثة كانت قد وقعت هناك وشهدت مجازر نجونا منها بفضل الله. ومن وراء ألسنة الدخان ظهر أبو شعيب ومجموعته مجددا.
هذه لم تكن المرة الأولى التي يشترك فيها أبو هريرة وأبو شعيب في معارك حديثة، وهي بلدة تقع غرب منطقة الأنبار. لكن الفرق هذه المرة هو أن قوات التحالف الدولي كانت تقصف مواقع داعش بالطيران صباح مساء.. وعلى الأرض تجري عمليات الكر والفر، بين قوات داعش من جانب، والجيش العراقي وحلفائه من الصحوات والحشد الشعبي من جانب آخر.. يقول أبو شعيب: «نهاجم حتى نقترب من السيطرة على المدينة ثم نضطر للتراجع تحت قصف القوات المتمركزة فيها والتي كان يصلها المدد يوما بيوم من قيادة عمليات الأنبار ومن قوات الفرقة السابعة».
خلال الأيام التي لا يكون فيها قتال، كان أبو هريرة يجتمع في محاضرات بالمعسكرات مع مقاتلين آخرين.. «هنا تستطيع أن تعثر على كتب البنعلي وفقهاء آخرين في كل مكان. كانت لنا مطابع حصلنا عليها من المدن التي دخلناها. هذه الكتب غير موجودة على الإنترنت، ربما لأن قادة التنظيم لا يريدونها أن تقع في أيدي شيوخ آخرين حتى لا ينقدوها أو يعرفوا ما فيها من تعليمات عن التعامل مع الكفار والمرتدين وغيرها».
ومرة أخرى يعود الجدل، أكثر حدة من السابق، حول توجهات التنظيم وخطوطه العامة وعلاقاته بـ«القاعدة» والنصرة ومقاتلة العشائر و«المرتدين».. حدث هذا حين جرى تأجيل اقتحام حديثة، وتوجيه دفة المعارك إلى جبهات أخرى أكثر أهمية.. وهنا يقول أبو هريرة: «سألت عن مصير شيخنا الذي سبق وأخبرتك أنه جرى سجنه في مبنى السفارة في الرِّقة.. لكن لم أتمكن من معرفة ما جرى له إلا بعد عدة أسابيع».
يضيف أبو شعيب أن قادة داعش ومساعدي البنعلي كانوا يردون على تشعب الحديث بين المقاتلين عن التكفير وحدود القتل وغموض توجهات التنظيم، بتوزيع مزيد من المطويات والكتيبات، مع التنبيه على ضرورة الالتزام بما فيها.. «من أجل النصر على العدو. ضغوط رهيبة لمنع طرح الأسئلة، وأخيرا أعادوني مع مجموعتي مجددا، إلى سوريا بسبب اندلاع معارك جديدة هناك، قرب دير الزور. وشارك في هذه المعارك أيضا أبو هريرة والتونسيين الثلاثة».. «كنا بضع عشرات معنا 23 سيارة ومدرعة وخمسون مدفعا والكثير من القذائف الصاروخية، إضافة إلى أسلحتنا الشخصية».
قبل الانطلاق إلى دير الزور استقبل هذه المجموعة القتالية، والي الأنبار وعضو المجلس العسكري ومجلس الشورى في داعش، ويدعى أبو أيمن العراقي الذي يقال: إنه قتل فيما بعد في الغارات الحربية. يتذكر أبو شعيب قائلا: فهمت من حديثه أن هناك قلقا بين قادة التنظيم من أفكارنا وأفكار مجموعات أخرى مماثلة لنا، ولهذا أخذ يبرر لماذا كنا نحارب النصرة والجيش الحر، ثم لماذا دخلنا معهما في هدنة، ولماذا عدنا للحرب معهما من جديد.
لقد قُتل منا كثير من الليبيين والجزائريين والتونسيين وغيرهم. والآن يقول أبو أيمن، بكل بساطة، إن تأثير الذين يطرحون مثل هذه الأسئلة لا يختلفون عن أعداء دولة الخلافة.. فخذوا حذركم ولا تتأثروا بدعايات الصحوات والمرتدين. وماذا عن قضية الغنائم التي طرحها الإخوة في جلسة مناظرة الدانا؟ لا مجيب.
ويضيف أحد التونسيين «بعد أن مشينا عدة كيلومترات بجوار نهر الفرات، وعند وصولنا إلى دير الزور مع الفجر، وجدنا أبو أيمن قد سبقنا إلى هناك، وطلب الاجتماع بنا». ومن جانبه يوضح أبو هريرة قائلا: اجتمع بنا، وقال لنا بالحرف، وكانت لهجته مخيفة ومرعبة، إن من يقول بكفر العاذر سأرميه بطلقة في رأسه وأرميه في القمامة.. ومن يُكفِّر الظواهري سأرميه بطلقة في رأسه وأرميه في القمامة.. وإذا أحدٌ كفَّر أحدًا من الدولة (أي من داعش) سأرميه بطلقة في رأسه وأرميه في القمامة.. وإذا وجدت أحدًا يسمع لما يقوله الحازمي (أحد الدعاة ممن ارتبط اسمه بالجدل حول تكفير العاذر) في خطبه سأسجنه وأعاقبه وأرميه بطلقة وأرميه في القمامة».
ويشير أبو شعيب إلى جانب آخر من القصة، ويقول إنه «في الحقيقة، اكتشفت فيما بعد أن تعليمات الوالي أبو أيمن كانت جزءًا من الاستعداد للحرب على عشيرة الشعيطات التي لها قرى في الريف الشرقي لدير الزور».
في البداية قال: إن الشعيطات كفار، ثم في محاضرات اليوم التالي قال: إنهم مرتدون». بينما يوضح أبو هريرة أنه خلال درس الوالي «تذكرت شيخنا الذي تركناه في مبنى السفارة في الرِّقة، لأنه كان قد شرح لنا الفرق الكبير بين الكافر والمرتد».
ويقول التونسي إنه طرح هو الآخر سؤالا للوالي، حول هذا الأمر، وزاد قائلا له إن الشعيطات ينطقون الشهادة ويرفعون الأذان ويصلون في مساجدهم ويحاربون بشار الأسد، فأجاب أنهم يقاتلون الدولة (داعش)، ولذلك وجب التعامل معهم كمرتدين.
يبدو الهدف من الحرب مع الشعيطات مشوشا في ذهن أبو هريرة منذ بدايتها حتى اليوم وهو يروي تجربته. كان العام الجديد قد بدأ والرياح تهب على دير الزور من الشمال بينما السماء خالية من السحب. وبعد ذلك بعدة أيام انصرف مساعد الوالي، وترك المقاتلين هناك قرب تخوم الشعيطات، وأرسل بدلا منه مندوبا آخر يحل محله. وعرف من هذا المندوب، وهو عراقي يكنى أبو حمزة، أن شيخ المجموعة الغائب قد جرى نقله من مقر السفارة بـ«الرِّقة» إلى سجن في المدينة نفسها، تمهيدا لعرضه على المحكمة الشرعية.
يواصل أبو شعيب: لم يمهلنا الشعيطات للتفكير فيما يحدث أو إيجاد تفسير لزج التنظيم الذي نقاتل معه، بشيخنا في السجن.. هجم علينا عدد من أبناء الشعيطات بمجرد اقترابنا من تخومهم.. «فصرنا نقتل كل من نجده منهم في طريقنا. في البداية قاتلناهم على أساس أنهم كفار، ما اختلفنا، لكن بعد ذلك نقل لنا المندوب أبو حمزة تفسيرا من الدولة يقول إن السبب في قتالهم هو لأنهم يحاربون الدولة.. بينما نحن كنا نقول هم كفار. هناك فرق».
بعد ذلك جاء مدد.. مقاتلون وأسلحة وسيارات. وجاء مندوبون آخرون للدولة من قادة الدولة ومن الوالي.. «صاروا يقولون لنا إن الشعيطات مرتدون.. قلنا لهم لماذا؟ فقالوا لأنهم قاتلوا الدولة. قلنا إذن ليسوا كفارا وبالتالي المسألة لا تتساوى، لكن لم يكن هناك أحد ليشرح أو يجيب أو يعطي إفادة ناجعة».
وكان قد سقط في هذه المعارك المئات من أبناء الشعيطات بين قتيل وأسير. لكن أبو حمزة، وبعد كل هذا، كما يقول أبو شعيب أمر بالاحتفاظ بمن نأسره من أولاد الشعيطات، حيا، ولا نقتله. جمعهم في المؤخرة، وعرض عليهم الاستتابة ومبايعة الدولة والحرب في صفوفها. من يوافق يجري نقله للتدريب في المعسكرات في الأنبار، ومن يرفض يُقتل.
يقول أبو هريرة إنه بعد هذه الوقائع قرر التوقف عن الاشتراك في العمليات القتالية. وكذلك فعل أبو شعيب وعدد آخر من المجموعات لا سيما تلك التي ينخرط فيها ليبيون وتونسيون وجزائريون.
وأخذ ينأى بنفسه عن التواجد في المعسكرات، خاصة أنه كان في الأسابيع السابقة يتردد على مقار «معهد تخريج الشرعيين للدولة (داعش)»، التي كان يديرها في السابق رجل شهير بين المقاتلين العرب والأجانب، يدعى عثمان، وهو قيادي ومفتي في التنظيم، ويعتقد أنه قتل في غارة جوية في مدينة عين العرب في وقت سابق عن تلك الأيام.
كان مقر المعهد الشرعي الذي توجه إليه أبو هريرة يقع في مدينة الرقة. يقول: «اعتزلت القتال، وصرت أبحث في أمور ديني. كنت أشك بكفر الدولة (داعش) لكنني لم أكن متيقنا من ذلك. كنت أعلم بحربها على الموحدين، وهذا أمر يخالف الدين.. أدركت أنني تورطت معها في أعمال لا ترضي الله». لكن رحلة الخروج من داعش لم تكن سهلة.
أما أبو شعيب فقد توصل إلى قناعات مماثلة، بل بدأ في إعادة قراءة الحالة التي أصبح عليها مع داعش. وخرجت أفكاره مغايرة مقارنة بالمرة الأولى التي التحق فيها بهذا التنظيم عند اجتياحه للأراضي السورية.
يقول، وقد بدا أنه يتحول إلى فقيه يبحث لنفسه عن طريق جديد، إن «الدنيا تغيرت أمام عينيه.. يرى دنيا جديدة». وبعد أن يؤكد على تفاصيل تخص قضية العقيدة و«الانقياد والتسليم والخضوع والذل والانكسار بين يدي الله عز وجل»، يتطرق مرة أخرى إلى تنظيم داعش الذي كان أحد مقاتليه ودعاته، قائلا إن داعش «جعلت لنفسها وجماعتها الحق المطلق لرعاية القتال وجعلت هذا أصلاً مطردًا، بل كفرت من خالفها فيه، والعجب كل العجب بأنها لم تكفر من خالفها فيما تعتقده وتزعم أنها تنظر له ألا وهو حقيقة التوحيد».
وبعد هجره للتنظيم.. وبعد تأمل وقراءة يبدأ أبو شعيب في نقض معتقدات داعش وهو يدعو لأفرادها بـ«الهداية»، قائلا: «سنبدأ إن شاء الله في نقض معتقد هذه الجماعة التي أسأل الله أن ييسر لأفرادها الهداية، وأن يعلموا أنهم على باطل وإن زعموا أنهم يقاتلون، فالقتال ليس هو ميزان لمعرفة الحق من الباطل.. وكما أنه لا يستدل بالفرع على صحة الأصل.. أيضا لا يمكن أن يستدل بالقتال على صحة التوحيد. هذا ما يجب أن يكون واضحًا عند هذه الجماعة التي لا هم لها إلا القتال».
ويضيف أن جماعة داعش «تعتقد أن الإسلام يكون بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله، ومن ثمَّ نجدها تضطرب حينما تحكم لمن لم يأت بهذا الأصل، أو خالفه». ويقول إن هذا أمر عجيب. وهو هنا يشير إلى فتاوى سابقة منسوبة لتركي البنعلي، أحد كبار قيادات التنظيم وأحد كبار الداعين لانضمام الشباب له من أصقاع العالم.
ويضيف: هذه الجماعة بدأت تعادي عداء واضحًا من أنكر عليهم، أو أنقض شيئا، ولو أنه لا يمس المعتقد، وذلك مثلما حدث معي، مشيرا في هذه الواقعة إلى جلسة المناظرة بين قادة داعشيين حول تطبيق الحدود وتقسيم الغنائم. كانت تلك الجلسة بحسب أبو شعيب السوري، في مدينة الدانا، التابعة لمحافظة إدلب.
كان من بين الكوادر والقيادات والقضاة الحضور أبو عبد الله الليبي، وأبو المقداد الليبي، وأبو جهاد الشيشاني، وأبو البراء المدني، وأبو شعيب المصري وأبو الأثير وأبو بكر القحطاني.
ويواصل قائلا إن جلسة المناظرة كانت في «تطبيق الحدود في ديار الكفر»، و«تقسيم الغنائم التي كانوا يأخذونها بحجة أنها لبيت مال المسلمين».. وعليه، وبناء على ما جرى في هذه المناظرة، سجنوا أبو شعيب المصري وأبو البراء المدني، لأنهما قالا حقًا، وأنهما رأيا الأخطاء.. ثم بدأ العصف والتنكيل بكل من جهر بانتقاد الدولة.
يتساءل أبو شعيب السوري في أسى: «هل على هذا يكون عمل من يدعي الدين والاستمساك به؟ هل هكذا يعامل من يرى عليك خطأ ويريد إصلاحه؟ أين الرجوع إلى الكتاب والسنة؟». ويعود أبو شعيب إلى جانب آخر يتعلق بتجربته مع داعش قائلا إن الأمر الآخر «الحكم بغير ما أنزل الله الذي تفشى فيهم».
ويشير إلى تجارب مريرة عاشها جنود التنظيم على أيدي الكثير من أمراء المعسكرات، خاصة أن بعض محاكم داعش كانت تعمل جنبا إلى جنب مع محاكم نظام بشار الأسد، إلى جانب تزايد الخلافات الفقهية إلى درجة وقوع الاشتباكات في الحواجز وعلى الطرق، في شرق سوريا، كما حدث مع مجموعة شباب من داعش ينتمون لمدينة بن قردان التونسية، ما أدى إلى ابتعادهم عن تعليمات قادة التنظيم والعمل كمجموعة منفصلة.
ويتحدث أبو شعيب عن الكثير من الوقائع الأخرى من بينها اشتباكات بين عناصر داعش، وصلت إلى حد رفع الأسلحة على بعضهم بعضا، بعد خلافات فقهية حول ما إذا كان الرئيس المصري الأسبق مرسي يستحق وصفه بالطاغوت أم لا.. «سحب أحدهم بندقيته وأراد إطلاق النار على خصمه في المجادلة».
وأخذ أبو شعيب على داعش اشتراكها في القضاء مع فصائل أخرى، دون سند من الفقه أو الشريعة، قائلا إن هذا «دليل على أن القوم يميلون إلى القتال وكسب الناس ولو على حساب العقيدة.. يعني الذي ترى فيه مصلحة تفعله وإن كان فيه مخالفة للمعتقد».
ويضرب مثلا بواقعة جرت أثناء وجوده في صفوف داعش تتعلق بقبر جد العثمانيين، سليمان شاه، الموجود في شمال سوريا، قرب الحدود مع تركيا. يقول إن وفدا رفيع المستوى دخل لزيارة قبر سليمان شاه في مدينة تل أبيض، وهي مدينة تحت سيطرة الدولة (داعش) ويرى جنود التنظيم ذلك فلا يحركون ساكنًا، بذريعة السمع والطاعة في الشرك.. يدخل الجنود ويخرجون للتناوب على حراسة هذا الضريح، ويقول لك قادة التنظيم إنهم يفعلون هذا، رغم مخالفته للشرع، لأنهم لا يريدون أن تقوم تركيا بغلق الحدود أمام عناصر التنظيم.
وينتقل أبو شعيب إلى جانب آخر يبدو أنه قاسم مشترك لدى الشبان الذين نفضوا أيديهم من داعش. ويقول: بل العجب الذي لاحظته في الدولة تنوع العقائد.. هناك من يكفِّر الجيش الحر، وهناك من لا يكفره، بل كان يقاتل معه وينافح ويدافع عنه من أمثال المسؤول عن المخيمات الدعوية لداعش.. بل بعضهم يزور الجيش الحر ويبقى عنده، والأمر الآخر يقبضون على الدروز، ثم يطلقون سراحهم ولا تفهم كيف ولماذا؟ كذلك قادة داعش لا يحاكمون أمراء التنظيم إطلاقا.. تجدهم بسيارات فارهة ولديهم أفضل الأسلحة، وإن أخطأوا لا يحاكمونهم، ولا يحرضون الجنود على القتال للتخلص منهم مثلما يحدث ضد من هم ليسوا في مرتبة أمراء المناطق. كما أنهم لا يدخلون المعارك، لأنهم أمراء في داعش.
ويواصل أبو شعيب موضحا أن التنظيم ناصب عددا من جنود وفقهاء شجعان من داعش العداء لا لشيء إلا لأنهم قالوا الصدق في وجه القادة الكبار. هؤلاء جهروا بالأسئلة والانتقادات، فكان مصيرهم إما القتل أو الأسر، وأذكر منهم أبو البراء المدني، وأبو عمر الكويتي، وأبو الحوراء الجزائري، وأبو جعفر الحطاب التونسي، وأبو قسورة التونسي، وأبو عبيدة التونسي، وأبو مصعب التونسي، وأبو نعيم التونسي، وأبو القعقاع الشامي، وأبو يزيد الحموي، وأبو معاوية الحموي، وأبو عمر الحموي، وأبو معاوية النصاري.



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري