فيلم «النبي» يستلهم حياة جبران خليل جبران و«الربيع العربي»

مأخوذ عن كتابه الأشهر ومصنوع برهافة فنية عالية

الميترا وكاملة في فيلم «النبي»، و مصطفى في طريقه إلى الميناء
الميترا وكاملة في فيلم «النبي»، و مصطفى في طريقه إلى الميناء
TT

فيلم «النبي» يستلهم حياة جبران خليل جبران و«الربيع العربي»

الميترا وكاملة في فيلم «النبي»، و مصطفى في طريقه إلى الميناء
الميترا وكاملة في فيلم «النبي»، و مصطفى في طريقه إلى الميناء

وسط صخب الأفلام التجارية العملاقة، يبدو فيلم «النبي» المأخوذ عن الكتاب الشهير لجبران خليل جبران، وأطلقته الممثلة سلمى حايك من بيروت نهاية الشهر الماضي، وكأنه لا يشبه أفلاما أخرى غيره؛ فهو ليس روائيًا طويلاً، ولا يحاول أن يتشبه بسواه من أفلام الرسوم المتحركة العنفية، أحيانا، التي تصنع لتجتذب أكبر عدد ممكن من المتفرجين. يبدو هذا العمل، في صيغته والجمهور الذي يستهدفه، وكأنما أنتج ليبقى طويلاً، وليشاهده الصغار والكبار، بروح تناسب، من حيث رومانسيتها وإنسانيتها الشفافة، الكتاب الذي أخذ عنه. هكذا أريد للفيلم أن يعيش إلى جانب الكتاب، حياة تهم التواقين إلى السمو بالنفس والفكر وفتح نوافذ التأمل، بعيدًا عن البهرجة والضخامة، قريبًا من الشغل الفني المتقن.
مع عشرة مخرجين على رأسهم المشرف الأساسي وكاتب السيناريو رودجرز الرز، الذي سبق له أن أخرج «الأسد الملك»، وبتمويل تسعة من المنتجين بينهم سلمى حايك، وكاتب الموسيقى التصويرية البديع غابريل يارد، وفريق عمل فني كبير، يعيش المتفرج 84 دقيقة من المتعة الإبداعية.
الميترا التي كانت في الكتاب، هي العرافة وأول من سعى إلى المصطفى، نراها في الفيلم طفلة بريئة، ذات ملامح لطيفة ومحببة، ترافقه وتسعى لمساعدته، مع أنها تعاني صعوبة في النطق لا تتغلب عليها إلا في اللحظات الأخيرة.
والدة الميترا، كاملة في الفيلم، مستوحى اسمها وشخصيتها من والدة جبران خليل جبران، وتعمل مثلها في خدمة البيوت، وتنطق بصوت سلمى حايك. وهي شخصية دخيلة على النص الأصلي، لكنها أدخلت على الموضوع حيوية سينمائية يفتقدها كتاب جبران الشاعري، ولها ملامح والدة جبران التي رحلت مع أولادها الأربعة إلى أميركا وأعالتهم من عرق جبينها.
مصطفى بطل الكتاب، تماما كما جبران، رسام وأديب وصاحب حكمة في كلماته، مطرود من رحمة السلطة، في أورفاليس (المدينة المتخيلة عند جبران) التي يزورها وتدور فيها أحداث الكتاب - الفيلم، وتهمته الأساسية أنه شاعر وأفكاره تثير الفوضى.
مصطفى سجين، مع بداية الفيلم، يطلق سراحه للتو، بعد سبع سنوات من الأسر، ويساق إلى الميناء لنفيه من هناك وإعادته إلى بلاده.
ما بين المنزل الذي سجن فيه مصطفى وأطلق سراحه منه والميناء الذي سيغادر من شواطئه، تدور كل الأحداث. المصطفى يمشي مع سجانيه، وأهل أورفاليس يتجمعون حوله، يحاولون استمهاله للإفادة من حكمته والتحدث إليه، وهو يجيب برحابة ومحبة، فيما تحاول الميترا إعاقة المسير صوب الميناء وتأخيره قدر الممكن، مرة بإلهاء الحرس، ومرة أخرى بافتعال المشكلات أو تدبير المقالب. وما بين النص الرفيع لكتاب «النبي» الذي اشترطت «لجنة جبران خليل جبران» على منتجي الفيلم عدم المساس به، وتوظيفه كما هو من دون تعديل أو تبديل - وحسنًا فعلت - وتلك التعديلات الإضافية على الشخصيات، والقفشات الظريفة والطريفة التي أضيفت إلى القصة، يجمع الفيلم ما بين الأدب والطرفة والواقعية.
الكتاب الذي طبع منذ عام 1923 في أميركا وترجم إلى 40 لغة، وبيعت ملايين النسخ منه لغاية اليوم، تتحدث مقاطعه الـ26 عن المحبة، والحرية، والصداقة، والموت، والدين، والجمال، واللذة، وغيرها، بجمل بات بعضها مأثورًا لكثرة تردادها على ألسن الناس، لا سيما تلك التي تتطرق إلى العمل والزواج والأبناء. المصطفى في الفيلم الذي أطلق سراحه وأمر بترحيله، يطلب إليه الأهالي وهو يمر بين الناس، في أورفاليس، أن يقدم نصائحه، فنراه يلقي أقواله المنثورة في الكتاب في مناسبات عدة، إحداها حفلة عرس، اللطيف فيها لأن أجواءها لبنانية. ربما أنها المرة الأولى التي نرى فيها البيئة اللبنانية في فيلم تحريك، والمائدة بتنويعاتها، وأكلة «مقادم الغنم» الشعبية التي يسيل لها اللعاب، والموسيقى والرقص العربيين. الملامح شرقية، والمكان يتحدث عن ذاته، من دون أن يعطي له اسما جغرافيا محددا. إننا في أورفاليس المدينة التي ابتكرتها مخيلة جبران، وأضيفت عليها اللمسات السينمائية لتزيدها شبها بلبنان. فمرة نرى الجبال والوديان، وكأننا في مكان مشابه لبلدة بشري التي ولد فيها جبران، ومرة أخرى نرى مصطفى في أسواق لا تختلف كثيرا عن تلك الضيقة الشعبية التي يمكن أن نزورها في أي مدينة عربية، وتارة ثالثة هو في بيت محتوياته شرقية كأي بيت عربي، وهناك المآذن، والغسيل المنشور على الحبال والآثار الرومانية التي تذكر ببعلبك. ملامح الشخصيات التي يقابلها جبران هي طالعة من هذه البيئة أيضًا. حين يبدأ، في كل مرة، المصطفى يجيب سائليه، تتحول الشاشة إلى مكان لعرض رسومات فنية، تتناسب وطبيعة النص.
وعلى الرغم من صعوبة توظيف هذه النصوص الجميلة والشاعرية، في فيلم تحريك، فإن المخرجين العشرة بقيادة رودجرز الرز، قاموا بعمل بديع بحيث يتزاوج كل مقطع من المقاطع برسوم ذات طابع خاص بها، وكأنما نحن أمام عوالم مختلفة في كل مرة، لكنها تبقى جميعها تدور في إطار شرقي روحاني، وكثيرًا ما نراها تستعير من لوحات جبران بعض ملامحها أو من الموزاييك الإسلامي روحها. وقد تمكن غابريال يارد بموسيقاه التي تمزج الشرقي بالغربي، من ابتكار مقطوعات مذهلة حقًا في تناغمها مع المشاهد، على الرغم من أنه يقول بأن الموسيقى كتبت حتى قبل رؤيته لهذه اللوحات.
تحقق حلم قديم لسلمى حايك إذن، التي لم يعلق في ذهنها من غرفة جدها الذي توفي وهي صغيرة، سوى صورة كتاب «النبي» الذي كان يحب أن يقرأه إلى جانب سريره. وتمكنت من أن تهدي هذا الجد اللبناني الذي يبدو أنه لم يبق له من وطنه في مهجره المكسيكي البعيد سوى كلمات جبران، فيلمًا فنيًا ومشغولا بحب كبير وتفان واضح. وحايك زوجة الملياردير الفرنسي المعروف فرنسوا بينو، تمكنت من إقناع المشاركين في الفيلم بأن يتقاضوا مبالغ الحد الأدنى كي تتبرع بإرادات الفيلم للأعمال الخيرية، كما تمكنت من جعل منتجين من لبنان وكندا والإمارات وفرنسا وأميركا وقطر، يدخلون في مشروع، تعتبره هي نفسها مغامرة، لكنها، في الوقت نفسه، تستحق أن تخاض.
«النبي» بصيغته السينمائية، يجعل مصطفى رهين دولة ديكتاتورية، وسلطة تفرض عليه أثناء مسيره إلى الميناء، إما التراجع عن أفكاره أو الموت، لكن السلطة وتحت ضغط الجماهير المعتصمة، التي يشبه تجمعها ما نشاهده في ساحات الربيع العربي، تتوصل مع مصطفى إلى صيغة تصالحية تحفظ السلم.
مسير المصطفى في السوق، وصوله إلى الميناء، وداعه لأهالي أورفاليس، كل ذلك يتم في أجواء تشبه إلى حد بعيد ما يمكن أن نراه في مدينة جبيل اللبنانية، أو مدينة متوسطية ساحلية أخرى. إنه فيلم عن الحرية، والدفاع عنها بالكلمة، وتحرر الشعب من الطغيان بالحكمة والمعرفة، وذود الناس المستميت عن شاعرهم، وبمعنى آخر صوت ضميرهم.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.