لماذا نقرأ الكلاسيكيات؟

إيتالو كالفينو يكشف عن الخصائص التي تتشاركها

غلاف «المعتمد الغربي»  -  غلاف «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟»  -  غلاف «كيف نقرأ ولماذا»
غلاف «المعتمد الغربي» - غلاف «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟» - غلاف «كيف نقرأ ولماذا»
TT

لماذا نقرأ الكلاسيكيات؟

غلاف «المعتمد الغربي»  -  غلاف «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟»  -  غلاف «كيف نقرأ ولماذا»
غلاف «المعتمد الغربي» - غلاف «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟» - غلاف «كيف نقرأ ولماذا»

يرى بعضُ الدارسين لتأريخ الأفكار وصناعة السياسات الثقافية أن شيوع قراءة الكلاسيكيات (أدبية أو علمية أو فلسفية) إنما يمثل أحد الروافد التي تساهم في تشكيل العقل المتحضر القادر على التعامل الخلاق مع الحاضر بكل تعقيداته. غالباً ما تُصنفُ هذه الكلاسيكيات في هيئة معتمدات (Canons) تلقى هوى متزايداً وإقبالاً حثيثاً، ويجري التثقيف بشأن أهميتها والترويج لها على صعيد المدارس والجامعات ووسائل النشر المعروفة. لغرض بيان أهمية دراسة هذه الكلاسيكيات يمكن - على سبيل المثال - الرجوع إلى العملين التاليين لأحد أقطاب الدراسات الكلاسيكية، وأعني به الراحل هارولد بلوم:
- العمل الأول عنوانه «كيف نقرأ ولماذا؟»
- العمل الثاني عنوانه «المُعتمد الغربي: مدرسة العصور وكُتُبُها»
والكتابان مترجمان إلى العربية (اختار مترجم الكتاب الثاني مفردة «التقليد» بدلاً من مفردة «المُعتَمَد» كمقابل لمفردة «Canon» الإنجليزية).
في كتاب صغير الحجم، لا يتجاوز الثلاثمائة صفحة، عنوانه «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟» يقدمُ لنا الروائي والكاتب الراحل إيتالو كالفينو (1923 – 1985) سياحة لذيذة في عالم بهيج من الأعمال التي استحقت صفة كونها كلاسيكية. صدر الكتاب عن «دار المدى» العراقية عام 2021 بترجمة دلال نصر الله، وهو في الأصل تجميعة لسلسلة مقالات كتبها الروائي الراحل بشأن أعمال كلاسيكية محددة في تواريخ مختلفة من حياته.
كالفينو كاتب محبب إلى الروح، وكل من سبق له قراءة أحد أعماله لن ينسى البصمة المميزة له. لا أحسبُ أن من قرأ «السيد بالومار» أو «قلعة المصائر المتقاطعة» أو «ناسك في باريس» أو «لو أن مسافراً في ليلة شتاء»... إلخ يمكن أن ينسى هذه الأعمال المميزة؛ لكنْ فضلاً عن أعماله الروائية فإن كالفينو منظرٌ رفيع الشأن في فلسفة الأدب والكتابة الروائية وتأشير معالم الذائقة الأدبية الرفيعة.
سيجدُ القارئ في هذا الكتاب حشداً من تفاصيل مثيرة عن أعمال أظن أن القليل منها كان جزءاً من ذاكرته القرائية وخزينه الأدبي؛ أما معظمها فهي مما ستواجه القارئ للمرة الأولى. ليس أمر الجدة من عدمها بذي شأن. الأمر الأكثر أهمية هو الكيفية التي يشرحُ بها كاتب متمرسٌ مثل كالفينو تضاريس العظمة ومكامن المقدرة الإنسانية الفائقة في تناول المعضلات الوجودية، وجعلها ترتقي فوق كل المحددات المحلية؛ الأمر الذي جعلها تستحق وصفها بأنها كلاسيكيات عالمية. سيقرأ المرء عن أوفيد وتجربته الكونية، وعن أوديسات كثرٍ في الأوديسة، وعن الفارس تيرانت، وعن أورلاندو الثائر، وعن جيرولامو كاردانو، وعن كتاب «الطبيعة» لغاليليو غاليلي، وعن المعرفة باعتبارها سحابة غبارية عند ستندال. وسيشهدُ القارئ حشوداً من أسماء ربما عرفها وقرأ لها من قبلُ: بلزاك، ديكنز، فلوبير، تولستوي، كونراد، باسترناك، همنغواي، بورخس، بافيزي... إلخ؛ لكن هؤلاء الذين كتب عنهم كالفينو وأعمل فيهم مبضعه التشريحي الذكي ليسوا هم الذين عرفهم القارئ، وقرأ لهم من قبلُ بل هم شخوصٌ مبتكرون لروائيين غير أولئك، وهنا تكمن فرادة كتاب كالفينو.
يستحق الفصل التمهيدي الأول من الكتاب، الذي جعله كالفينو عنوان الكتاب بأكمله «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟» قراءة متفحصة من جانب القارئ مرة ومرتين وثلاثاً وحتى أكثر. إنها الأطروحة التي يكشف لنا فيها كالفينو عن المعايير الإجرائية التي تَسِمُ الكتب التي تستحقُ أن تكون كلاسيكية. هذه المعايير ليست مقايسات مدرسية جامدة بقدر ما هي كشوفات عن عقل فلسفي تشرب قراءة الكلاسيكيات منذ أزمان بعيدة وعرف جوانب الفرادة الكامنة فيها. ربما سيشهدُ القارئ بنفسه في غير موضعٍ أن بعض هذه المعايير الإجرائية ربما كان هو ذاته قد اعتمدها فيما سبق معياراً لتقييم الكتب التي قرأها، وبموجبها عد تلك الأعمال كتباً عظيمة.
يقدمُ كالفينو المعايير التالية للأعمال الكلاسيكية. من الواضح تماماً أن المقاربة هنا هي ذات أساس مرتبط بسايكولوجية القراءة لدى القارئ وطريقة تشكيل عالمه الفكري:
- الكتب الكلاسيكية هي التي يشيرُ إليها أغلب الناس بعبارة «أنا أعيد قراءة...» بدلاً من «أنا أقرأ...». إذن الكتب الكلاسيكية هي مما يعيدُ الناس قراءته بين حين وحين.
- قراءة كتاب عظيم للمرة الأولى في مرحلة النضج تبعثُ في النفس متعة استثنائية تختلف عن قراءته في عمر الشباب.
- الكتب الكلاسيكية تمثلُ ثروة لمن قرأوها مرات عدة وعشقوها؛ في حين أن قيمتها أقل لمن حالفهم الحظ وقرأوها مرة واحدة عابرة.
- للكتب الكلاسيكية وقعٌ يميزها سواء أوْقَعَتْ في ذاكرتنا وقعاً لا يندثر أم تنكرت بين تلافيف ذاكرتنا واستقرت بهيئة لا وعي جمعي أو فردي.
- سيكون الكتاب كلاسيكياً إذا شعرنا أن قراءته تجربة جديدة كلياً.
- الكتاب الكلاسيكي هو ما نكتشف فيه شيئاً جديداً كلما أعدنا قراءته.
- الكتاب الكلاسيكي كتابٌ لا ينضبُ محتواه.
- الكتب الكلاسيكية هي تلك الكتب التي نلاحظ فيها تأثرها بكتب سبقتها من ناحية، ونلمسُ تأثيرها في ثقافة أو مجموعة ثقافات (من جانب العادات واللغة) من ناحية أخرى.
- الكتب الكلاسيكية هي الكتب التي نعتقدُ أننا أحطنا بمضمونها مما قيل لنا عنها؛ لكننا نكتشفُ بعد قراءتها أنها أكثر أصالة ومقدرة على ابتكار الأفكار، وتنافي توقعاتنا عنها قبل قراءتها.
- الكتاب الكلاسيكي هو مما لا يمكن اختزال قيمته بقراءة كتب أخرى تحكي عنه. لا بد من قراءته هو بذاته. القراءات الأخرى ليست بديلاً عنه.
- الكتب الكلاسيكية ذات قيمة كونية تتجاوز محددات الزمان والمكان والبيئة والطرازات الثقافية.
- الكتب الكلاسيكية تهمك وتعينُك على تعريف ذاتك على ضوء تآلفك واختلافك عنها.
- الكتب الكلاسيكية تحولُ متاعب الحاضر إلى مجرد خلفية صوتية شبيهة بالموسيقى التصويرية التي تتشارك بها كل الأفلام السينمائية. لا يمكن الاستفادة من الكتب الكلاسيكية بمعزل عن تلك الخلفية حتى لو كانت ضوضائية منفرة للروح.
ثمة أمرٌ أجدهُ ذا أهمية استثنائية ما وجدتُ تناولاً له في أطروحة كالفينو بشأن الكتب الكلاسيكية. يختص هذا الأمر بموضوعة القِدَم الزمني: هل الأعمال الكلاسيكية هي بالضرورة أعمال قديمة؟ وهل يكون التقادم الزمني سبباً لزيادة الجرعة الكلاسيكية في الأعمال الكلاسيكية أصلاً؟
لدي أطروحتي الخاصة بهذا الشأن. نعم، أظن أن الكلاسيكيات تصبح أكثر كلاسيكية مع التقادم الزمني؛ ومع أن بعض الأعمال المعاصرة صارت توصف بأنها كلاسيكية (مثل أعمال توني موريسون ومارغريت آتوود) لكن يمكن وصف هذه الكلاسيكية المعاصرة بأنها كلاسيكية موضوعاتية وليست كلاسيكية توحي بالفخامة التي تنطوي عليها المحاورات الأفلاطونية أو المسرحيات الشكسبيرية أو أطروحات تولستوي النبوئية المكنونة في رواياته. هل نتخيلُ - مثلاً - أن مارغريت آتوود أو توني موريسون يمكن أن يكتبا نصاً كالآتي يخاطبُ فيه سقراط مواطنيه الأثينيين قبل إعدامه:
يا رجال أثينا... أشعرُ بالامتنان، وأنا صديق لكم؛ لكن برغم ذلك، وطالما كانت فيّ قدرة على تنسم الهواء فلن أنكفئ عن الاشتغال في الفلسفة وحضكم على التفكر والمساءلة.... (وهنا يسألهم): ألا تشعرون بالخجل من أنفسكم وجشعكم في تملك كل ما تستطيعون بلوغه من غنى وصيت وأوسمة نصر ونياشين فخار في الوقت الذي لم تكلفوا فيه أنفسكم عناء التفكر - ولو بفكرة عابرة - في الحكمة أو الحقيقة، أو في الحالة الفضلى الممكنة التي يمكن أن تكون عليها أرواحكم؟ لا أحسبُ أن أمراً كهذا يمكن أن يحصل مع أي كاتب أو روائي معاصر لأسباب مجتمعية وسياسية وفكرية كثيرة.
يبدو لي أن جوهر العظمة الإنسانية في الأعمال الكلاسيكية إنما يجد مسوغاً له في الفيسيولوجيا الدماغية. أدمغتنا تتطورُ بفعل قوانين البيولوجيا التطورية، وكلما جابهت أدمغتنا بيئات جديدة أبدت سلوكيات جديدة. كان سقراط - مثلاً - يعيشُ وسط بيئة معروفة في توصيفاتها التقنية، حيث عيشُ الإنسان ليبلغ ثلاثين سنة كان يعد أمراً بطولياً نادراً. الطبيعة كانت قاسية حينذاك، ولم يفلت من قبضتها سوى بضعة من المحظوظين. كان الإنسان في مواجهة مباشرة مع الحقائق الكبرى للمرض والجوع والموت، ولم تكن له فسحة للتفكر خارج نطاق العقل البدائي (بالمعنى الإنثروبولوجي للبدائية)، ومعروفٌ أن هذا التماس المباشر مع الحقائق الوجودية الكبرى في الحياة إنما يجعلُ عقولنا وقلوبنا وأرواحنا تتمثلُ هذه الحقائق في تعبيرات شتى ذات مصداقية ضاربة. عندما يكون الفرد بمواجهة يومية مباشرة مع المرض والجوع والموت فستُستثار كل قدراته البشرية الممكنة لمعاكسة هذه الحقائق، وسيلجأ لتفعيل كل قواه المادية ومنتجاته الرمزية لمواجهة هذه الأعباء الوجودية المهددة للحياة. الأمر ليس هنا لعبة تخييلات فنتازية أو ميدان مسرحيات فكرية. لكن مع تقدم الإنسان وارتقائه المادي والفكري تناقصت قدرات العناصر الطبيعية من جوع أو مرض أو موت في إنهاء حياته بصورة مبكرة، كما طرأت على مشهد الحياة اليومية مصنوعات بشرية اصطنعها الإنسان اصطناعاً ولم يلقها في ميدان الوجود الطبيعي، وترتب على هذا الارتقاء التقني تغيير فسيولوجي حثيث في بنية أدمغتنا البشرية وطريقة تفاعلها مع الصور البيئية المستجدة. لا أحسبُ أن كاتباً معاصراً مهما تعاظمت قدراته الكتابية يمكن أن يقدم لنا صوراً بارعة في التعامل مع معضلات الموت والحياة مثلما فعل أعاظم الكلاسيكيين الأوائل. هل نتخيلُ كاتباً معاصراً يقدمُ لنا سلسلة من الخبرات البشرية الرفيعة مثلما فعل أفلاطون في محاوراته الفلسفية العظيمة؟
الخلاصة كما أراها هي: ستبقى الأعمال الكلاسيكية خزاناً لا ينضب من الحكمة البشرية، وستتعاظم مناسيب العظمة الكامنة فيها مع تقادم الزمن، وكلما قرأنا هذه الأعمال على ضوء خبرتنا المعاصرة فسنكتشف زوايا مخبوءة فيها لم تصلها مجساتنا من قبل.



العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً
TT

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

تلتقط هدى بركات، في روايتها الجديدة «هند أو أجمل امرأة في العالم» الصادرة عن «دار الآداب» لحظة موت الأم. تلك الهنيهة المفصلية القاصمة، التي تنقل المرء من حالة عيشه اللحظوية، إلى مراجعة الذات واستقراء الذاكرة وإعادة ترتيب الماضي، على ضوء الفقد العضوي الباتر. هكذا تترك الروائية لبطلتها المصابة بمرض «الأكروميغاليا»، أو تضخم الأطراف، حرية أن تمضي جيئة وذهاباً على خط الزمن، في محاولة للتصالح مع الذات والذوات الأخرى التي أحاطتها.

حين تموت الأم

ماتت الأم إذن، وها هي هنادي تعود للوطن، وتجد نفسها في تلك الأماكن القديمة التي عرفتها برفقة والدتها، لكنها هذه المرة وحيدة، ومعها زادها الثقيل من الصور والحكايات التي انقضت، وتجربتها القاسية في الغربة، وحاضرها الصعب، وقد تعرضت البلاد لعواصف من الأحداث الأليمة، لعل آخرها انفجار مرفأ بيروت، الذي تبدو آثاره جلية في الرواية، وفي حياة الأهالي.

بالرواية شخصيات عدة: الأم التي رحلت وتركت خلفها علاقتها المتوترة مع هنادي، وهند الشقيقة التي رحلت باكراً، والجيران (أم منصور)، والعمات وعامل الإنترنت أحمد، والحبيب رشيد، وآخرون، يظهرون سريعاً ويغيبون. غير أن القصة تبدو للقارئ وكأنها «مونولوغ» طويل بسبب أن الراوية - هنادي التي على لسانها يدور السرد، وتتفرد وحدها بأن تحكي لنا قصتها، من وجهة نظرها وكما تراها، من زاوية خاصة بسبب المرض النادر الذي تعاني منه وجعل حياتها متفردة أيضاً. فهو ينتج عن اضطراب هرموني لا يجعل الشكل مشوهاً والرأس متضخماً، والجسد متعملقاً، والشعر كالإبر، فحسب، بل يتطور بمرور الوقت ويتسبب بإعاقات، وعلل تودي بصاحبها، أو في أحسن الأحوال تتسبب بتدهور صحته.

حال هنادي نعيشه معها وهو يتردى مع تقدم العمر، ويسهم أيضاً في تأجيج الذاكرة، وتفتيق الجراح. المشكلة تبدأ باكراً، حين تلحظ الأم المفتونة بالجمال أن هنادي التي أرادتها بدلاً عن ابنتها الفقيدة هند بجمالها الأخاذ، لن تكون كما تمنتها، بل ستجلب لها شفقة الآخرين ونظراتهم المواربة، عندما تبدأ تفقد حسنها، وتظهر عليها آثار المرض. «بدأت عظام رأسي تكبر على غير اتساق. ذقني يبرز بقوة» تقول هنادي: «وفكاي صارا كفكي رجل تجاوز المراهقة، مباعداً بين أسناني. عظام الحاجبين انتفخت كما عند القردة، وتكورت جبهتي وتحززت كطابة مبعوجة، وفقد صوتي نعومة صوت البنات».

لم تستسغ الأم الأمر ولم تتقبله، لذلك تحجب هنادي عن أعين الناس، تضعها في العلّية، تخبئها هناك، تناولها الأكل، وما يلزم، وربما غابت عن البيت لوقت، ونسيتها. بينما تقضي هي وقتها بقراءة تلك المجلات والكتب التي تركها والدها قبل أن يغيب. وحين يسأل عنها أحد من المعارف، تقول الأم عنها، إنها سافرت عند عمتها.

تحاول هنادي أن تجد المبررات لجفاء والدتها: «حرام أمي حبيبتي. مسكينة. كان ذلك فوق طاقتها. كانت تتعذب أكثر مني من بلوتي». لقد أصيبت الأم بصدمة من مرض ابنتها؛ وباتت تختفي وتنام في غرفتها بالساعات، تخرج من البيت ولا تعود، تستفيق في الليل وتبحلق بعينين مشدوهتين، كمن يستيقظ من كابوس.

البحث عن الذات

لا إحساس من هنادي بالضيم، إذن، بقدر ما هي الرغبة في الانفصال عن الأم، لكن عمتها التي لجأت إليها ترسلها بهدف العلاج، عند عمة أخرى في باريس، لن تعثر عليها أبداً. في المقابل، تقع هنادي في مطبات وتتعرف على شخصيات لكل منها سمتها، هناك غلوريا الراقصة النيجيرية التي تحنو عليها، وفرنسوا الذي يتبين لها بعد ذلك أنه رشيد، الجزائري الأصل، المبتور الذراع، صاحب الماضي الغامض، تربطها به صلة حب لم تكتمل، وسرعان ما يرجع إلى حياة التشرد والمخدرات. هذا ما سيقودها إلى رجعة باتجاه الوطن.

قليلاً ما انشغلت الروايات العربية بالعلاقة بين الأهل وأولادهم الذين يعانون من عاهات، وصلات تشوبها الكثير من التعقيدات، قد تتراوح بين الحب الجارف النابع من الشفقة، والنفور المتأتي من رفض القبول بواقع قاسٍ له تبعات ممتدة في الزمن. لكن هنادي، لا تحقد ولا تكره، بقدر ما تبحث عن نوافذ حب لتريح نفسها. «وأنا في بحثي الدائم بل المحموم عن أصول الحب وأغراضه، وخاصة حب الأم، أي حب أمي لي، كنت أحفر في كامل كياني كل معلومة أقرأها أينما وجدت». استشعرت هذا الحب مثلاً، حين أصيبت بالجدري، رأت لهفة أمها عليها. فحب الأم حقيقة لا شك فيها، إلا في بعض حالات الخلل الهرموني الشاذة. هذا كله لترتاح وتقول إن الأمر قدري، ولا مسؤولية لأحد: «أنا ملكة الهواجس... ملكة الحظ السيئ».

هنادي شخصية أقرب إلى اللطف والدعة، والأم تبدو وكأنها تمتلك الشيء وضده، لها سمات متناقضة، مما يصعّب على الابنة العائدة، بناء شخصيتها من جديد، تحاول كي تحرر نفسها من عبء العلاقة المتوترة مع الأم أن تجد لها مبررات لسوء مزاجها: «ربما صارت أمي قاسية ومنعزلة ولئيمة، أنا أيضاً قد أصبح كذلك، حين يشتد علي الألم. تصبح رؤية الناس أو سماع أصواتهم عذاباً خالصاً».

مناجاة الكائنات

وفيما يشبه الهروب أو مؤانسة الذات تلجأ هنادي إلى مصاحبة الشجر والنبات، والقطة زكية، التي ترافقها في يومياتها، والكلب رامبو، وشجرة التين الموجودة في الشرفة، وشجرة الصفصاف. تقضي وقتاً مع رشيد، وآخر مع الميكانيكي نبيل ونكتشف جانباً من شخصية هنادي وهي تتعرف على عالم جديد، عبر الإنترنت بمعونة أحمد العامل الباكستاني قرب منزلها. لكن الكاتبة تبقي كل هذه الشخصيات في خدمة الكشف عن أبعاد شخصية هنادي، وتلك العلاقة الملتبسة مع أمها، وكأنما هي حكاية نسائية أكثر من أي شيء آخر. ونساء لهن تجربة خاصة، لسن كبقية النساء. فالعلاقة بين الأم وشقيقها، بقيت متشنجة، ومع والدها لم تكن سهلة. هنادي هي الأخرى، كان حظها مع الرجال يتحرك صعوداً ونزولاً، لتنتهي في عزلتها.

هي أيضاً رحلة بحث الابنة الغائبة التي تشعر بالندم على ما فات. هربت لتريح والدتها منها. «هربي كان صفقة لصالحنا نحن الاثنتان... لكنها قد تكون تغيرت وندمت وحين ندمت لم يعد بمقدورها أن تجدني، وأن تعتذر مني».

تتحرى حقيقة شخصية الأم من رائحة الشراشف والنبش في الأغراض، ورق مخبأ، «لماذا احتفظت أمي بمزقة الجريدة هذه وقد طوتها بعناية؟ هل تكون نسيتها أو أضاعتها بين غيرها من الأوراق وتاهت عنها تماماً؟».

إيقاع هادئ

النص يسير وفق إيقاع هادئ، وبطيء، يواكب حركة هنادي التي تفتقد للحيوية بسبب المرض، إلى أن نكتشف في النهاية سرّ والدها، وقصته المثيرة، التي خبأتها الأم عنها. وهو ما يربط النص قليلاً بما نشهد من أحداث حالية. حيث إن الأب ذهب إلى إسرائيل مع العملاء الذين هربوا بعد حرب التحرير عام 2000 لا لأنه عميل بل اعتقد أنها وسيلة للهروب من وجه العدالة بعد ارتكاب جريمة بطريق الخطأ ومطاردته بهدف الثأر. ظن أن العودة إلى الوطن ستكون متاحة لاحقاً، لكنه بقي هناك، وفي إسرائيل صارت له حياة أخرى، نكتشفها في نهاية الرواية.

صحيح أن تيمة الحرب ليست في مركز القصة، لكنها مبثوثة فيها، هي في الخلفية من خلال غياب الأب وانكفائه عن الصورة، ثم حين يشكل المفاجأة بنهايته غير المتوقعة، ونكتشف أسراره الصادمة. الحرب حاضرة في التفاصيل اليومية، في تعامل الناس مع بعضهم، في انقطاع الماء، في غياب الكهرباء، وأزمات العيش.

رواية تأملية، هادئة، مشغولة بالحفر الداخلي الباطني، أكثر من عنايتها بالصخب الخارج والإيقاع الحياتي للبطلة. وهي مواكبة حميمة لامرأة مريضة، تكافح وحيدة، دون تبرّم كي تصل إلى نهايتها بسلام.