قراءة مسلسل «للموت 2» على مستويين، تضعنا أمام نتيجة ستبدو متفاوتة. المستوى التجاري يحقق المطلوب منه، بعد جزء أول شكل حالة. كان على الجزء الثاني أن يؤكد حضوراً يراهن على «القوة»، وإلا وضع نفسه في موقف محرج. المستوى الفني مصاب بشطحة. يفرط في صب الزيت على النار حد تصاعد الرائحة. جماهيرياً، العمل في ذروة الصخب، حضوره على «السوشيال ميديا» يطغى، ومغامرات أبطاله جزء من يوميات الناس وضجيج المواقع. فنياً، لا مفر من الاعتراف ببعض «الخبصة».
كل شيء متوقع في مسلسل يلعب جمهوره على الأصابع، ويجعله لا يعرف رأسه من قدميه. الثبات في نص نادين جابر مسألة مستحيلة. وما يرتكز على وضعية، ينقلب فجأة إلى وضعية مضادة. فرص النجاة شبه معدومة، والتوق إلى بداية جديدة شقاء يضاف إلى ماضي الشخصيات. الحرب سيدة الجبهات والهدنة لعد الخسائر، وما يجري في الأحياء الفقيرة لا يقل ضراوة عما يحتدم في نفوس الأثرياء.
تقلب الموازين وتتغير المعادلات، ولا يبقى شيء على حاله مع انفراط تحالف «سحر» (ماغي بو غصن) و«ريم» (دانييلا رحمة). يشهد المخرج فيليب أسمر على باب الجحيم مفتوحاً على مصراعيه، فيصوره بلمعة. التهديد بالقتل كشربة الماء، والصراخ يكاد يصم الأذنين. فخ المسلسل في الشعرة المقطوعة بين الحماسة والمبالغة. الحقيقة أنه منتظر وقدرته على حبس النفس هائلة. لا تمر حلقة من دون خض المشاهد، وثمة لقطات تجعله يفتح فمه تحت وقع الدهشة. إنما المبالغة تجد تربة خصبة وسط حقل الألغام. اجتثاثها كان ليضيف نقاطاً إلى مستواه الفني.
التركيبة تتغذى بالصدمة، فلا غرابة بعودة «عمر» (باسم مغنية) من الموت بعد الحريق. المسلسل «مكشوف» بقدر كونه مزنراً بمفاجآت ثقيلة. وسبب «انكشافه» هو أوراق قوته، فيجر المشاهد إلى التفكير خارج القالب. قد تتوقع نجاة «عمر»، واستعمال «سحر» كل أسلحتها للانتقام من «ريم» بعد مقتل «أمير» (بديع أبو شقرا)، لكن من كان ليترقب خطة «أمين» (فادي أبي سمرا) للإيقاع بـ«سارية» (كارول عبود) وسلبها مالها؟ لا غرابة في دناءته وقبح قلبه أمام سلطان المال، إلا أن الأمور حين تبلغ حد الاتجار بزوجته وجسدها، فهنا الأسئلة المتعلقة بتعمد الذهاب إلى «الإكيستريم» في الكتابة، تصبح مشروعة.
في المعركة المفتوحة على كل الاحتمالات، الويل لمن لا يملك أنفاساً طويلة. دوامة الثأر تسبب الدوار الحاد، والرأس لا يعود قادراً على التحمل. قسوة الحياة على الطفولة في الشوارع، وتحول البشر إلى أرقام، والبراءة إلى ضحايا تجارة المخدرات، فصل آخر من انهمار الحمم الحارقة. الدور المتوحش تقدمه ليليان نمري بفظاظة المحترفة، وهي هنا كثير من الواقع اللاإنساني وشيء من لعبة «الإكيستريم» المراد منها تسديد كفوف على وجه مشاهد لا يعرف من أين تأتيه الضربة.
ليس هذا الجزء مناسباً لإظهار قدرات ممثل مجتهد كمحمد الأحمد. انتقاله من وضعية المأكول حقه في الجزء الأول، إلى رجل مافيا يهرب السلاح وينفذ عمليات الاغتيال ويطلق الرصاص بدم بارد، لم يصب تماماً في مصلحته. ما ينقذه هي مفاتيح النجم، فيدوزن بها المواقف الحائرة ما بين الاندفاع والصمت ويوظف النظرات في المكان الصحيح، بديلاً من الصراخ.
في ميزان القوى، ترجح كفة «سحر». الدور «صاروخي» في حالة ماغي بو غصن الممسكة به من عنقه. لم تخذله ولم يخذلها. بركان مشاعر متضاربة، رأفة وحب مقابل الجريمة والعقاب. مجموعة نساء في امرأة، جميعهن مقنعات. شوارعيتها في كباش خاسر مع رغبتها المستحيلة بأن تصبح ربة بيت وتنجب طفلاً. يمنحها النص شيئاً من القدرات الاستثنائية، فتخطط وتنفذ وتوقع الجميع تحت رحمتها.
على ضفاف الماضي الأليم، تتمدد «ريم» بجراحها. أصعب ما تواجهه المرأة هي الخيارات المحدودة، كأن تلزم على المفاضلة بين ابنتها وحبيبها. دانييلا رحمة تملأ مكانها ولا يزاحمها أحد في ساحتها. الأمومة المطعونة في خاصرتها، والحب المولود من رحم مبتورة، يصيبانها في صميمها.
السؤال مطروح عن احتمال التفكير بجزء ثالث، استناداً إلى اتساع الجماهيرية، وهذا يتطلب تروياً. لن يهدر «عمر» ما تبقى من حياته بعد النجاة، وفي رقبته رد الجميل حيال منقذته «جنى» (جويل داغر) المخدوعة عاطفياً ووالدها «شفيق» (كميل سلامة) الواقع تحت تأثير «سحر». باسم مغنية فنان في إدارة الشخصية. يجعلها على صلة بالناس، رغم أخطائها. يتحرك بارتياح في أكثر الأماكن وعورة.
بجانب الأبطال الأربعة وجبهاتهم التي لا تهدأ، يوميات من حياة اللبنانيين. في الحي الشعبي حيث انقطاع الكهرباء وتقنين المولدات، وحيث يموت الأطفال بنار الشمعة، تحمل «حنان» (رندا كعدي)، و«أم محمود» (ختام اللحام) هموم الموجوعين. نجمة على رأس نص يقارب مرض الألزهايمر بجمالية حزينة. فمن خلال القدير أحمد الزين، يستعاد لبنان المنارة والمجد العتيق. حبه لـ«حنان» نبل المسلسل.
كانت كارول عبود ضحكة العمل قبل أن تتخذ خطاً آخر. هنا حاجة المرأة إلى الحب والاحتواء، ومن فرط التعطش إلى حضن، تقع في غرام أول رجل يظهر اهتماماً. «للموت 2» أحد منعطفاتها، بشخصية لها مفرداتها وقد أصبحت على الألسن.
رندا كعدي من أجمل الأمهات في الدراما اللبنانية، تمثل بطيبة قلبها وعذوبة أعماقها. تحتضن تالين بو رجيلي بشخصية الصغيرة المشاغبة «خلود» وتخرجها على مهل من ماضيها. أمومتها ممتدة إلى «لميس» ومشاكلها. ريان الحركة بتخبطات المراهقة وصدماتها، توازن بين الهدوء والعصف. يبقى وسام صباغ ودوجا حجازي. لا يمكن أن تكون الحياة عادلة مع بشر لا حول لهم ولا قوة. ترقص «رامونا» لتسدد ديوناً ورطها بها زوجها، وتتألق بالفجيعة حين يحترق ولداها. «محمود» وجع الشاب الآدمي في بلد يرسل الأوادم إلى جهنم.