اليمن في قبضة التفاؤل

مقاربات تحديات المجلس الرئاسي ومستقبله... ودور الخليج في دعم الحل النهائي

الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني لدى حضوره آخر أيام مشاورات الرياض بمجلس التعاون الخليجي في السابع من أبريل 2022 (أ.ف.ب)
الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني لدى حضوره آخر أيام مشاورات الرياض بمجلس التعاون الخليجي في السابع من أبريل 2022 (أ.ف.ب)
TT

اليمن في قبضة التفاؤل

الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني لدى حضوره آخر أيام مشاورات الرياض بمجلس التعاون الخليجي في السابع من أبريل 2022 (أ.ف.ب)
الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني لدى حضوره آخر أيام مشاورات الرياض بمجلس التعاون الخليجي في السابع من أبريل 2022 (أ.ف.ب)

قد يكون من السذاجة الحديث عن التفاؤل بعد سبعة أعوام على الانقلاب الحوثي ودخول اليمن في أتون الحرب. لكن التغييرات الأخيرة تجعل اليمن عملياً «في قبضة التفاؤل» بسبب سيناريوهات رسمها يمنيون كانوا قبل شهر وطيلة فترة الحرب ليسوا على وفاق، وأحياناً في حال صراع دائم. وباتوا اليوم متفائلين إما بالسلام وإما بالضغط العسكري الذي قد يتطور لاحقاً إلى حل عسكري ضد الحوثيين.
لم يجتمع اليمنيون مثلما اجتمعوا في الرياض مطلع أبريل (نيسان) 2022. كان الحديث أن المشاورات اليمنية - اليمنية برعاية خليجية ستوازي مؤتمر الحوار الوطني اليمني (2012 – 2013) الذي حضره نحو 500 شخصية من مختلف الأطياف السياسية، إلا أن المشاورات الخليجية استضافت ما يربو على 800 شخصية.
ألهمت المشاورات المشهد اليمني. أعلن تحالف دعم الشرعية في اليمن وقف نار أحادي أعقبته هدنة ثنائية برعاية أممية.
ولم تكن مخرجات المشاورات من حيث العدد أو التنوع كبيرة وحسب، بل بالقرارات التي تمخضت عنها.
توَّج إعلان الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي المشاورات بنقل السلطة إلى مجلس رئاسي، وإنشاء أجهزة استشارية مختلفة، ليضع مستقبل اليمن في مسار جديد، عنوانه التوافق.
وفي محاولة لرسم سيناريوهات المستقبل، استمزجت «الشرق الأوسط» مقاربات باحثين وسياسيين يمنيين وغربيين وسألتهم عن التحديات والرؤى، إلى جانب مدى انعقاد مفاوضات حل نهائي وشامل للأزمة التي بدأت بانقلاب الحوثيين على السلطة عام 2014 وأدخلت اليمن وأهله في كابوس لم ينتهِ رغم كل الجهود الرامية إلى إنهائه.

«لا يمكن قراءة ما استجدّ بمعزل عمّا سبقه، للوصول لتقييم منصف وواقعي للحدث المهم وأثره. ظهور مجلس القيادة الرئاسي مثّل انفراجة واسعة في عدة اتجاهات مصيرية كانت مكبلة برؤية ضيقة للتعامل مع الأزمة اليمنية. لقد استنفد الفريق السابق الكثير من الوقت والإمكانات وجرب كل خياراته في تعامله مع ما هو قائم. ولم تسفر سياساته إلا المزيد من الغرق واستفحال الأزمات وتوالدها مكرّساً للعجز والفشل».
يقول زيد الذاري، وهو عضو المحور السياسي بمشاورات الرياض اليمنية لـ«الشرق الأوسط»: «إن مجلس القيادة المنبثق عن المشاورات اليمنية - اليمنية برعاية أخوية خليجية والحائز توافق طيف واسع من المنضوين تحت عباءة الشرعية يمكن عدّه بداية أكثر وعياً وأكثر إدراكاً لتنوع اليمن وتعدد الفاعلين في جغرافيته». يتابع الذاري: «إن الرهانات على المجلس كبيرة والمسؤوليات جسام من دون شك. وهذا يضعه أمام تحديات متنوعة يمكن الإشارة إلى بعضها».
ويصف آدم بارون، وهو محلل سياسي أميركي يركز على اليمن والخليج، الوساطة الخليجية في اليمن بأنها ذات «تاريخ طويل». ويقول إن «هذه المشاورات (في الرياض) التي يمكن القول إنها تستند إلى مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي لعام 2011 ليست سوى أحدث مثال».
وعن مجلس القيادة الرئاسي اليمني يذهب بارون إلى أن المجلس «من نواحٍ كثيرة يمكن أن يكون مجلس سلام، وذلك في حال وجود أي مفاوضات مع الحوثيين، لكنه أيضاً قد يكون مجلس حرب إذا ما جرى أي تصعيد للصراع»، وقال إن «الوقت وحده كفيل بتحديد ذلك».

- التحديات
يرى كامل الخوداني، عضو المكتب السياسي للمقاومة الوطنية (بقيادة العميد طارق صالح)، أن مجلس القيادة الرئاسي أمامه «تركة ثقيلة بلا شك»، ويقول: «إن أبرز التحديات التي تواجهه خلال الفترة القادمة تتمثل في تفعيل مؤسسات الدولة وعودتها لممارسة مهامها من العاصمة المؤقتة عدن، وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين عبر وقف تدهور العملة الوطنية، وضبط التلاعب بأسعار المواد الغذائية والمشتقات النفطية، وتحصيل إيرادات الدولة بجميع أنواعها للبنك المركزي اليمني، والعمل كمنظومة واحدة مع السلطات المحلية في المناطق المحررة»، متابعاً: «يستطيع مجلس القيادة الرئاسي استثمار هذا الالتفاف الشعبي والإسناد الخليجي والدعم والتأييد الإقليمي والدولي لتجاوز هذه التحديات، وتلبية تطلعات اليمنيين في استعادة دولتهم وإحلال السلام».
«من أبرز التحديات التي كانت أمام المجلس الرئاسي هي العودة للعمل من داخل اليمن، تحديداً من العاصمة (المؤقتة) عدن»، تقول هدى الصراري، وهي محامية يمنية ترأس مؤسسة «دفاع» للحقوق والحريات. وتوضح: «حتى عندما عاد أعضاء المجلس الرئاسي والحكومة وأعضاء مجلس النواب والشورى وهيئة التشاور والمصالحة ينبغي أن تكون هذه العودة دائمة واستمرار أداء مهام الجميع من داخل المناطق المحرَّرة لإعادة الثقة للمواطن وتوفير الخدمات وانتشال التدهور الاقتصادي وانهيار الريال مقابل العملات والسعي إلى التعافي الاقتصادي وتدوير عجلة التنمية وضبط الأمن وتوفير الأمان وإعادة فتح أبواب القضاء أمام المواطنين».
ومن التحديات التي تواجه المجلس الرئاسي «العمل على دمج القوات المسلحة وتنفيذ الشق العسكري والأمني في اتفاقية الرياض، خصوصاً أن لدى بعض الأطراف في المجلس الرئاسي تشكيلات عسكرية». وتضيف رئيسة «دفاع»: «هذا بالإضافة إلى تحريك كل الجبهات في وقت واحد ضد الحوثيين، خصوصاً إذا لم ترضخ الجماعة للسلام وعمدت إلى خرق الهدنة، وهذا أمر وارد وقد عوّدنا الحوثيون على نقض الهدن وأي اتفاقات مبرمة، ودخولهم في أي هدنة ما هو إلا وقت لالتقاط أنفاسهم وإعادة ترتيب صفوفهم، والدليل الهجوم المستميت على مأرب وتعز وإيقاع إصابات وأضرار في صفوف المدنيين».
من ناحيته، يرى عادل شمسان، المحلل السياسي اليمني، أن «التحدي المهم في توحيد الجبهات العسكرية يحتاج أولاً إلى توحيد الجبهة السياسية وإيجاد رؤية جديدة لتنظيم ذلك». ويقول: «هذا ما حدث في مشاورات الرياض»، مستدلاً بـ«تأكيد جميع المكونات الرؤية الجامعة في الانتقال السلمي للسلطة وتغليب مصلحة الوطن أولاً وأخيراً».
وتعتقد سارة العريقي، وهي عضو الائتلاف اليمني للنساء المستقلات، أن «هناك الكثير من الملفات الصعبة والشائكة التي تنتظر المجلس الرئاسي نظراً لطبيعة المرحلة التي فرضتها، ولكن الأولويات التي تتحتم على المجلس الرئاسي الإسراع في وضع الحلول العاجلة لها تكمن في توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية، وصرف مرتبات الموظفين بشكل منتظم، وتحقيق السلام والاستقرار في المناطق الخاضعة له تمهيداً لتحقيق السلام في كل ربوع اليمن». ولا ترى العريقي أن ذلك قد يحدث من دون «تكاتف ودعم كل القوى السياسية ودعم الأشقاء في السعودية والإمارات والمجتمع الدولي الذي نراهن جميعاً على دعمهم السخي».
وينظر الصحافي اليمني فيصل الشبيبي إلى التحديات من عين اقتصادية، إذ يرى أن «الاستقرار وتحسين الاقتصاد -بعيداً عن السياسة- سيكون الاختبار الرئيسي للمجلس، وهو ما إذا كان بإمكانه النجاح في تحسين حياة اليمنيين على الأرض».
لكن الشبيبي لا يغفل أيضاً ما وصفه بأكبر التحديات التي تواجه مجلس القيادة الرئاسي، وأهمها كما يقول: «الدخول في عملية سلام مع الميليشيات الحوثية بعدما تم طرق كل الأبواب مع هذه الجماعة التي تنطلق في تعاملها مع الآخر على أساس عنصري، إضافةً إلى أنها جماعة مؤدلجة لا ترى الحق إلاّ من خلال منظورها هي، وليس من خلال القيم المشتركة مع بقية القوى السياسية الأخرى على الساحة اليمنية، والأهم من ذلك هي تبعيتها المطلقة لإيران وعدم انفرادها بالقرار، الأمر الذي سينعكس سلباً على عملية السلام في المستقبل».

- وساطة خليجية؟
بسؤاله عن مدى إمكانية الوساطة الخليجية للوصول إلى حل نهائي، يقول سرحان بن كروز المنيخر، سفير مجلس التعاون الخليجي لدى اليمن، في تصريح خاص لـ«الشرق الأوسط»: «إن مجلس التعاون سيدعم دائماً وأبداً خيارات الشعب اليمني في إنهاء أزمته من خلال الحل السياسي ليصل اليمن إلى السلام المنشود ويفرغ اليمنيون وبدعم من دول المجلس لبناء وطنهم ضمن منظومته الخليجية العربية، ومتى ما قررت جميع الأطراف اليمنية الانخراط في مفاوضات الحل النهائي الشامل ستجد كل الدعم والترحيب من مجلس التعاون في استضافة تلك المشاورات، كما جرى في المشاورات التي استضافتها دولة الكويت على مدى أكثر من 110 أيام عام 2016».
وبسؤال السياسيين والباحثين عن مدى استضافة الخليج مفاوضات الحل الشامل، وشت الإجابات بثقة يتمتع بها مجلس التعاون الخليجي لدى جميع اليمنيين بمن فيهم الحوثيون، وهو ما أورده السياسي كامل الخوداني في سياق حديثه، إذ قال: «نثق تماماً بأنه لا حل للأزمة اليمنية بعيداً عن الأشقاء في دول الخليج، وهذا ما تعلمه الأطراف كافة بمن فيهم الحوثيون».
ويتكئ عضو المكتب السياسي للمقاومة الوطنية على «الأجواء الإيجابية التي سادت المشاورات اليمنية - اليمنية التي انعقدت في العاصمة السعودية الرياض برعاية وتنظيم الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية»، ويرى أن ذلك المشهد «أكد أن اليمن جزء من المنظومة الخليجية، وأن اليمنيين، قوى سياسية وأفراداً، يرون في الخليج العربي عمقهم وامتدادهم الطبيعي».
ويتمنى فيصل الشبيبي «استمرار دور الأشقاء في مجلس التعاون الخليجي، خصوصاً أن أمن الخليج من أمن اليمن والعكس كما كان يؤكد ذلك دائماً الرئيس السابق علي عبد الله صالح».
وفي معرض تعليقه، قال زيد الذاري: «بالنسبة للخليج واليمن ومفاوضات المستقبل، فالحديث يجب ألا يذهب بعيداً في سوق الدلائل والشروح، فمن المسلّمات أن اليمن جزء من محيطه الخليجي العربي وهم معنيون به، وهو جزء منهم بكل ما للكلمة من معنى ودلالات... من الإنصاف التذكير بأن مواقف دول الخليج وفي المقدمة المملكة كانت الداعمة للتنمية وللاستقرار ولبناء الإنسان اليمني ودعم نجاحاته ابتداءً من التعليم وليس انتهاءً باستقباله في دولهم أو دعم الحكومات اليمنية باستمرار». وأضاف: «مع تغير القيادة السياسية بنشوء مجلس القيادة الرئاسي توفرت فرصة جادة الآن لتجاوز بعض أهم مسببات الأزمة داخلياً والمأمول أن تكون المستجدات في ظل قيادة أبوية وواعية مدخلاً لعودة الأطر العامة للمكونات اليمنية نحو شكلها الطبيعي والبدهي مع جوارنا الخليجي، وأن تُعقد مفاوضات السلام والحوار الوطني في ظل رعاية الإخوة الأشقاء في الخليج وعلى أرضهم».

- سيناريوهات المستقبل
كان جواب المحلل السياسي عادل شمسان لافتاً لدى سؤاله عن توقعاته بسيناريوهات المستقبل اليمني. إذ قال إن «الأيام القادمة حُبلى بالكثير من الأمل والأفعال المتسارعة تؤكد ذلك ويدعمها إعلان الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي استمرار دعمه لليمن وإنجاح مساره الجديد نحو السلام وإنهاء الحرب وعودة اليمن أفضل مما كان وتهيئته ليصبح ضمن منظومة مجلس التعاون الخليجي».
بيد أن المحامية هدى الصراري سردت ما تتوقعه بالبدء في «إجراء تغييرات في الحكومة بناءً على الخبرة والكفاءة ونتمنى ألا تكون المحاصصة الحزبية أحد مقومات هذه الحكومة، وتوحيد الصفوف في إنهاء الانقلاب واستعادة الدولة إما بالوصول للسلام مع الحوثيين وإما بالحل العسكري»، ثم «القيام بما هو مأمول من المجلس الرئاسي من إجراء إصلاحات اقتصادية وتوفير الخدمات للمواطنين ودفع رواتب الموظفين في عموم اليمن وخلق حلول مستدامة عبر تفعيل وتحصيل إيرادات الدولة».
وتنتقل الصراري إلى «تنفيذ الشق العسكري والأمني من اتفاقية الرياض، وإعادة فتح القضاء وتفعيل مؤسسات إنفاذ القانون ومكافحة الفساد وتفعيل أجهزة الرقابة والمحاسبة وتعزيز الشفافية والحوكمة، فضلاً عن مكافحة الإرهاب وتأمين خط الملاحة الدولية».
أما كامل الخوداني فيرى أن «سيناريوهات الحل (لن تتخطى مسارين): الأول، رضوخ الحوثيين لدعوات وجهود إنهاء الحرب وإحلال السلام، وجلوسهم إلى طاولة مفاوضات، وتخليهم عن شعارات الولاية والحق الإلهي في الحكم واحتكامهم لصناديق الاقتراع. الثاني، مسار الحرب لاستعادة العاصمة المختطفة صنعاء وبقية المحافظات الواقعة تحت سيطرته. وهذا ما أكده رئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي بأن المجلس مجلس سلام وحرب، وجاهزيته لكل الخيارات».
وتتفق سارة العريقي مع ما ذهب إلى الخوداني، وتقول: «من المؤكد أن السيناريوهين سيعملان على إنهاء معاناة الشعب اليمني التي طالت وأصبحت قناعات المجتمع الدولي تؤكد ضرورة وقفها».
السيناريو الأفضل بالنسبة للصحافي فيصل الشبيبي «هو الحل السياسي الذي يتمناه الجميع حقناً للدماء وحفاظاً على ما تبقى من مقدرات الدولة... وإن كان -مع الأسف- بعيد المنال»، ويعلل ذلك بسبب «تعنت ميليشيا الحوثي وتمسكها بأفكارها ومعتقداتها الدخيلة المخالفة للواقع والتي تريد فرضها بقوة السلاح على الشعب اليمني، خصوصاً أن تجارب الحكومات اليمنية المتعاقبة معها، في توقيع اتفاقيات سلام كثيرة، دون جدوى، حيث إن الحوثيون ينقضون كل اتفاق يتم معهم منذ اندلاع الحرب الأولى في يونيو (حزيران) 2004 حتى اليوم».



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.