على رغم انشغال العالم منذ نحو شهرين بالعواقب المدمرة للحرب التي تخوضها روسيا ضد أوكرانيا، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أنها لا تزال تعتبر الصين المنافس الاستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة التي تكرس حالياً الكثير من الوقت والجهد لمنع الكرملين من تحقيق أهدافه.
يعتقد المسؤولون الأميركيون أن «الفشل الاستراتيجي» للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوروبياً سيؤدي إلى «لجم هيمنة» حليفه الصيني شي جينبينغ آسيوياً... انطلاقاً أولاً من بحر الصين الجنوبي.
إذا كان البحر الأبيض المتوسط مساحة استراتيجية لوقوعه بين ثلاث قارات: آسيا وأوروبا وأفريقيا ولكونه ممراً ملاحياً أساسياً للموارد النفطية والتجارية، فإن بحر الصين الجنوبي يعد أهم منطقة مائية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي. يمر من خلاله نحو ثلث التجارة العالمية. وهو أيضاً البحر الأخطر الذي يمكن أن يشهد مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة والصين. تظهر الدلالة الأبرز على هذا الاحتمال في إصرار الولايات المتحدة، ومعها دول أخرى في المنطقة مثل كوريا الجنوبية واليابان والفلبين وفيتنام وغيرها، على اعتبار هذا البحر ممراً ملاحياً دولياً ومفتوحاً، في حين تؤكد الصين باستمرار أنه جزء من أراضيها وبحارها الداخلية، على غرار تعاملها مع تايوان التي تصر على الاستقلال.
هناك من يعتقد أن أي نجاح للرئيس الروسي في أوكرانيا يمكن أن يفتح شهية نظيره الصيني في استخدام القوة العسكرية لـ«إعادة» الجزيرة التي سيادة الوطن الأم. وينذر هذا الاحتمال بمواجهة خطيرة جرى تجنبها حتى الآن بين السفن الحربية الصينية والأميركية التي تتحرك بكثافة في المنطقة، في حين يحذّر الجيش الصيني باستمرار من تحليق الطائرات الأميركية فوق قطعه البحرية. وفي يوليو (تموز) الماضي، أجرت كل من الولايات المتحدة والصين تدريبات بحرية متنافسة في بحر الصين الجنوبي. وفي ظل «التنافس الاستراتيجي المتنامي» بين واشنطن وبكين، يخشى المتابعون شبح وقوع حادث يمكن أن يؤدي إلى مواجهة عسكرية أكبر بين البلدين العملاقين، على الأقل على غرار مواجهتهما خلال الحرب الكورية في الخمسينات من القرن الماضي.
دول متشاطئة ومصالح متضاربة
يحتل بحر الصين الجنوبي حيز الصدارة في الصين والفلبين وفيتنام وماليزيا وبروناي وتايوان، وهي دول توجد لديها مطالبات متداخلة في هذا البحر الغني بالموارد، والذي يلعب دوراً حيوياً في التجارة الدولية. يشكل هذا البحر مادة رئيسية في المنافسة على الانتخابات الرئاسية الفلبينية الشهر المقبل، إذ يتبارى المرشحان فرديناند «بونغ بونغ» ماركوس جونيور والرئيس رودريغو دوتيرتي في اتخاذ مواقف أكثر حزماً تجاه الصين.
وبالإضافة إلى «الاستفزازات» العسكرية الجوية أخيراً، يثير بناء الصين ثلاث جزر صناعية في بحر الصين الجنوبي مخاوف تايوان حيال ما إذا كان ينبغي عليها تمديد مدرج جزيرة تايبينغ للتعامل مع طائرات حربية أكبر. وقال قائد القوات الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادي جون أكويلينو في أواخر الشهر الماضي، إن الجيش الصيني «أكمل عسكرة الجزر الصناعية الثلاث، وسلّحها بأنظمة صواريخ مضادة للسفن ومضادة للطائرات ومعدات ليزر وتشويش وطائرات مقاتلة».
وكذلك أثارت الاتفاقية الأمنية الموقّعة حديثاً بين الصين وجزر سليمان باسم «إعلان شنغهاي» مخاوف دولية من أن بكين تكثف جهودها للحصول على ما تسميه «الحقوق التاريخية» على بحر الصين الجنوبي بأكمله، علماً بأن ذلك حصل بعد ساعات فقط من إعلان واشنطن أنها سترسل مسؤولين إلى جزر سليمان للتعبير عن المخاوف الأميركية من احتمال إقامة موطئ قدم للصين عسكرياً في هذه الجزر.
وفي موازاة هذه الخطوة، بدأت الصين في إرسال طائراتها المقاتلة «جاي 20» وهي الأكثر تقدماً لديها، للقيام بدوريات في بحر الصين الشرقي. وذكرت صحيفة «غلوبال تايمز» الحكومية الصينية، أن النشر يهدف إلى «حماية أفضل لأمن المجال الجوي الصيني والمصالح البحرية» لبكين.
توتر... في اليوبيل الذهبي
يتزامن التوتر المتصاعد في بحر الصين الجنوبي هذا العام مع إحياء الولايات المتحدة والصين اليوبيل الذهبي لعلاقتهما الحديثة. يستعيد المسؤولون الحاليون التقارب التاريخي الذي حصل بين البلدين عام 1972 حين سافر الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر إلى بكين، حيث اجتمعا مع الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ، وأحدثت هذا الزيارة «زلزالاً جيو - سياسياً». أدى «الأسبوع الذي غيّر العالم»، وفقاً لوصف الرئيس نيكسون نفسه، إلى تجاوز عقدين من العداء بين الصين الشيوعية والولايات المتحدة، علماً بأن جذور العداء بينهما تعود إلى الحرب الأهلية الصينية، بسبب دعم الولايات المتحدة للقوميين المعادين للشيوعية. خسر القوميون الحرب في نهاية المطاف وفرّوا إلى فورموزا (تايوان) عام 1949. ويوضح رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ريتشارد هاس، أن تايوان «بقيت مثار جدل» بين واشنطن وبكين. بيد أن «الدبلوماسية الإبداعية كانت في أفضل حالاتها»، حين اعترفت الولايات المتحدة بمبدأ «الصين الواحدة» من دون التخلي عن حق تقرير المصير للتايوانيين، وبـ«ضرورة التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع».
وعلى رغم التحسن المطرد للعلاقات خلال العقود الماضية، عاد التوتر ليتجلى بين البلدين، ليس فقط بسبب تايوان، بل أيضاً بعدما أصبحت الصين أكثر حزماً في الخارج، بالإضافة إلى ميلها المتزايد إلى «عسكرة» بحر الصين الجنوبي، الذي «يمكن أن يشكل بؤرة لحرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين»، وفقاً لبعض المراقبين الذين يجادلون بأن الجهود لدمج الصين في نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة كان «مجرد خيال غير حكيم».
صيد في «المياه العكرة»
يُعتقد على نطاق واسع أن بحر الصين الجنوبي يشكل حيزاً مهماً للاصطياد في «المياه العكرة» بين الولايات المتحدة والصين. ينقل الباحث والمؤرخ الأميركي دانيال يارغين عن الدبلوماسي السنغافوري الذي قاد المفاوضات لإنشاء اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار تومي كوه أن «المواجهة حول بحر الصين الجنوبي لها مستويات عديدة من التعقيد. لا يتعلق الأمر فقط بجسم مائي واحد، أو حدود واحدة» لأن «بحر الصين الجنوبي يتعلق بالقانون، والسلطة، والموارد، والتاريخ». يذكر في كتابه «الخريطة الجديدة» مَن وصفهم بأنهم «أربعة أشباح» لرجال رحلوا منذ زمن طويل، لكن ظلهم بقي في هذا البحر؛ لأنهم من الشخصيات التاريخية التي صارت رمزاً لـ«الخلافات حول السيادة وحرية الملاحة، وتنافس القوات البحرية، وكذلك الحرب وتكاليفها». وهؤلاء ألهموا قائد البحرية الصينية المتقاعد الأميرال وو شينغلي الذي شغل هذا المنصب بين عامي 2006 و2017 بعدما تولى مهمات أخرى بالغة الأهمية وأشرف على تطوير البحرية الصينية لتمكينها من منافسة البحرية الأميركية.
أما الأشباح التاريخية الأربعة، فهم: أعظم ملاح في الصين، ومحام هولندي صاغ الملخص القانوني الذي يدعم الآن الحجة الأميركية ضد مزاعم الصين، وأميرال أميركي قدمت فلسفاته أساساً لتوسع كل من البحريتين الأميركية والصينية، وكاتب بريطاني جادل بأن تكاليف النزاع باهظة للغاية حتى بالنسبة إلى الذين سينتصرون.
الأشباح الأربعة
تمثل رحلات تشينغ هي، وهو اسم أعطي له بعد جلبه إلى الصين من بلاد المسلمين قبل أكثر من 600 عام قبل أن يصير أعظم بحّار لديها، التجسيد العظيم «للنشاطات الصينية في بحر الصين الجنوبي» ومطالبات بكين التاريخية المبنية على إرثه الباقي فيما يسمى الآن «خط الفواصل التسع» لهذا البحر.
ويظهر الشبح الثاني في المحامي الهولندي هوغو غروتيوس الذي قدم سردية معاكسة، واضعاً الأسس القانونية لمفهوم حرية المرور عبر محيطات العالم، ليجسد «سيادة القانون» في مقابل إرث التاريخ. ومن المفارقات المهمة أن «أبي قانون البحار» فعل ذلك قبل نحو ستة قرون أيضاً، بعدما هاجمت السفن الهولندية سفينة برتغالية في بحر الصين الجنوبي انتقاماً للهجمات البرتغالية على السفن الهولندية عبر العالم. وكان هذا بمثابة بداية صراع عالمي بين البرتغال والهولنديين للسيطرة على المستعمرات في جنوب شرقي آسيا.
أما الشبح الثالث، فهو شخص استثنائي برز في عهد الرئيس الأميركي تيودور روزفلت الذي سعى حين كان مساعداً لوزير البحرية عام 1897 من أجل بناء قوة بحرية أميركية أقوى. وهو تأثر بالأميرال ألفريد ثاير ماهان الذي تهيمن أفكاره على خلافات اليوم حول بحر الصين الجنوبي واصطدام القوة البحرية الأميركية والصينية. وعندما توفي ماهان عام 1914، كتب روزفلت «لم يكن هناك أي شخص آخر في فصله، أو في أي مكان قريب منه». وبعد عقود، لاحظ الخبير الاستراتيجي إدوارد ميد إيرل، أن «قلة من الأشخاص يتركون بصمة عميقة على الأحداث العالمية مثل تلك التي تركها ماهان». وهذه البصمة واضحة اليوم في الصين، وبخاصة في بحر الصين الجنوبي.
وبرز الشبح الرابع في الكاتب البريطاني الحائز جائزة نوبل للسلام نورمان أنجيل الذي كان يجادل في الثلاثينات من القرن الماضي بأن الحرب بين ألمانيا وبريطانيا يجب ألا تكون حتمية. وأثبتت العواقب الكارثية للحرب أنه كان على حق لأن التكاليف الدائمة تفوق بكثير كل ما كان يمكن ربحه في معركة معينة. وهذه الرسالة تطارد التوترات المتصاعدة اليوم بين الولايات المتحدة والصين في بحر الصين الجنوبي.
السجال القانوني الحالي
في محاولة لتأكيد سيادتها، لا تكتفي الصين ببناء قواعد عسكرية وجزر صناعية في المياه الضحلة لبحر الصين الجنوبي، بل تضمن مناهجها الدراسية خرائط تظهر أن حدود الصين تلامس سواحل الدول الأخرى. ويتعلم أطفال المدارس الصينية منذ عقود أن حدود بلادهم تمتد لأكثر من ألف ميل حتى ساحل ماليزيا. وتستند بكين في ادعاءاتها الرسمية إلى أن «النشاطات الصينية في بحر الصين الجنوبي تعود إلى أكثر من ألفي عام»، وبالتالي فإن لها «أساساً في القانون الدولي، بما في ذلك القانون العرفي للاكتشاف والاحتلال والمسمى التاريخي». وترد الولايات المتحدة رسمياً بأن بحر الصين الجنوبي، بموجب القانون الدولي، هو مياه مفتوحة يُطلق عليها اسم «المشاع البحري لآسيا»، أي لجميع الدول. وتوافقها في ذلك دول مثل أستراليا وبريطانيا واليابان. وتؤكد وزارة الخارجية الأميركية، أن الصين «ليس لديها أي أساس قانوني» في مطالبها التي «تشكل أكبر تهديد لحرية البحار في العصر الحديث».
أي مقاربة؟
يتوافق الباحثان الأميركيان إيلي راتنر وهيو وايت في فهمهما لاستراتيجية الولايات المتحدة الرافضة للسيطرة الصينية على بحر الصين الجنوبي. يعتقدان أن إدارة الرئيس بايدن «لم تأخذ بعد خطورة التحدي الصيني على محمل الجد». غير أنهما يختلفان حيال ما إذا كانت الولايات المتحدة «تستطيع وينبغي أن تفعل أي شيء لوقف الانزلاق نحو مجال النفوذ الصيني في آسيا». يرجح وايت أن دول جنوب شرقي آسيا لن تقبل المساعدة الأميركية لتحصين جزرها، وأن الحلفاء الإقليميين الآخرين، مثل أستراليا أو اليابان، لن يكونوا مستعدين للقيام بالأدوار المطلوبة منهم. لكن راتنر يعتقد أن الخوف الإقليمي من انتقام الصين يشكل «حافزاً» لإجراءات إضافية غير عسكرية، بما في ذلك مشاركة الولايات المتحدة في اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي، أو بعض المبادرات الطموحة بالقدر نفسه بشأن التجارة والاستثمار التي تقدم للدول الإقليمية بديلاً عن الاعتماد الاقتصادي المتزايد على الصين. ويرفض القول إنه «لا توجد الآن طريقة للرد بشكل فعال ضد الصين في بحر الصين الجنوبي دون وجود مخاطر وقوع حرب كبيرة»، معتبراً أن الخوف من عدم الانزلاق نحو الهيمنة الصينية في جنوب شرقي آسيا يشكل «خطراً أكبر على أمن الولايات المتحدة وازدهارها»؛ لأن الإقرار بالهيمنة الصينية هو أكبر تهديد يواجه الولايات المتحدة (ودولاً أخرى مثل أستراليا والفلبين واليابان) في آسيا».
وعلى رغم إصرار الرئيس شي جينبينغ على «المصالح الأساسية» للصين، تشير التجربة إلى أنه يمكن إجبار الصين على «نهج أكثر اعتدالاً» في بحر الصين الجنوبي، وهذا «لن يحصل إلا إذا واصلت الولايات المتحدة سياستها الحازمة في المنطقة». ومن هذا المنطلق، يدعو راتنر إلى «سياسة أميركية أكثر قوة». لكن وايت يقول، إن «هذه مهمة صعبة» وتستوجب «التزاماً حقيقياً لمنع الهيمنة الصينية على بحر الصين الجنوبي».