ما هي الحدود بين النظرية والآيديولوجيا؟

كتاب موسوعي في سياحة فكرية عبر التاريخ

ما هي الحدود بين النظرية والآيديولوجيا؟
TT

ما هي الحدود بين النظرية والآيديولوجيا؟

ما هي الحدود بين النظرية والآيديولوجيا؟

غالباً ما نسمع عن النظريات في المجال العلمي وليس الآيديولوجيات فنقول: نظرية النسبية لأينشتاين ونظرية التطور لداروين ونظرية التجاذب الكوني لنيوتن...، فما الذي يسمح بإطلاق لقب نظرية على منجز علمي معين؟ على ماذا تتوفر النظرية لتكون نظرية؟ وما دام أن العلم يمتاز بأكبر قدر من الدقة والموضوعية، فهل يسعفنا في إعطاء صورة نموذجية عن معنى النظرية؟ إن النظرية في العلم، باعتباره رمزاً للدقة والموضوعية، هي بمثابة افتراض ذهني، الغرض منه إيجاد حل لمعضلة (إشكالية) علمية معينة، ولكي تصبح هذه النظرية حلاً ناجعاً، وجب أن تكون قادرة على جمع شمل شتات القوانين المكتشفة وجعلها تكتسي طابع النظام والمعقولية والتناغم والانسجام. ويكفي لتبسيط الأمر أخذ نظرية التجاذب الكوني لنيوتن مثالاً، فهي استحقت أن تصنف كنظرية علمية لأنها حققت على الأقل الشرطين الأساسين المذكورين، وهما: حل مشكلة محددة وخلق التناغم بين المتناقضات. ولقد كانت معضلة نيوتن المؤرقة هي: لماذا هناك سقوط في الأرض ودوران في السماء، بعبارة أخرى: لماذا تسقط التفاحة ولا يسقط القمر؟ فكان الجواب هو نظرية الجاذبية باعتبارها محاولة رياضية مجردة للتوفيق بينهما؛ إذ يكفي مراعاة الكتلة والمسافة ليحدث تارة السقوط وتارة الدوران، وهنا يمكن أن نتذكر ببساطة القمر الصناعي؛ إذ يمكنه الدوران كالقمر ولكن يمكنه السقوط كالتفاحة أيضاً، فيكون نيوتن بذلك قد وحّد السماء والأرض ودمج بين شيئين متناقضين (السقوط والدوران) في توليفة متناغمة وهنا تبدو قوة النظر.
تحديد ملامح النظرية في تجليها الأقصى، هو موضوع «13 نظرية في الطبيعة البشرية»، وهو من إصدار دار أدب بالمملكة العربية السعودية - الرياض - هذا العام، وتأليف أربعة كتاب وهم: ليزلي ستيفنون، وديفيد إل. هابرمان، وبيتر ماثيوز رايت، وشارلوت ويت، وترجمة خليل زيدان.
والكتاب هو عمل موسوعي (أزيد من 500 صفحة) يستحق أن يكون بين يدي القارئ على الدوام؛ إذ يمكّنه من سياحة فكرية عبر التاريخ ويسمح له بالتعرف على رؤى العالم المتعددة، خاصة تلك المتعلقة بالطبيعة البشرية. وقد اختار الكتاب 13 نظرية عالمية بما فيها تلك المتعلقة بالفلسفات الشرقية (الكونفوشوسية، الهندوسية، البوذية،) التي غالباً ما يتم إغفالها، وكذلك وقف الكتاب عند اللحظة اليونانية مع تصورين، هما لأفلاطون وأرسطو، إضافة إلى أنه لم يغض النظر عن الرؤى الدينية للإنسان كما وردت في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، ليضع الكتاب بعد ذلك فاصلاً تاريخاً سريعاً يربط من خلاله بين القرون الوسطى والزمن الحديث، وبعده مباشرة ينخرط في تقديم تصورات متعددة حول الطبيعة البشرية كما وردت عند كل من: كانط، وماركس، وفرويد، وسارتر، وداروين، وأخيراً الفلسفة النسوية.
بالطبع، يعترف الكتاب بأن لا يمكنه أن يقدم تغطية شاملة للتاريخ الفكري؛ فهو يقف فقط عند عينات تسمح بإلقاء نظرة على التعدد في النظر لقضايا الإنسان والتفسيرات المختلفة حول الطبيعة البشرية، ويضعنا أمام مفارقة صعبة متمثلة في كيفية رسم الحدود الرفيعة الموجودة ما بين النظرية والآيديولوجيا؟ ومتى يتم الانتقال بالضبط من هذه لتلك؟ يؤكد الكتاب على أن النظرية حينما تصبح آيديولوجية، فهي تتحول إلى معتقد يتم من خلاله تبرير طريقة حياة جماعة معينة، إلى الحد الذي يصعب معها النظر الموضوعي للأمور، بل يعد التشكيك في الآيديولوجية تهديداً صريحاً للفرد والجماعة؛ لأنهم يفقدون بذلك معنى وهدف وأمل حياتهم مما يسبب لهم الإزعاج والضيق النفسي. وقد يقود الأمر إلى العنف كما قلنا سابقاً. فالتنازل من طرف البعض عن نظريته (آيديولوجيته) التي ألفها عن طريق التنشئة الاجتماعية والتي من خلالها يرى العالم ويبرر سلوكياته يحتاج إلى جرأة كبيرة.
إن العالم يعج برؤى مختلفة تفسر الكون وتفسر طبيعة البشر وكل متشبث بما لديه، وسبب هذا التمسك وأحياناً التصلب الوثوقي بالنظرية أو لنقل الإيديولوجية، لا يكون من أجل الدواعي المنطقية فقط، بل من أجل الدواعي الوجدانية في الغالب، فنحن في كثير من الأحيان نجد عشرات المكذبات المحرجة لنسق رؤيتنا للعالم، ورغم ذلك نتشبث برأينا حد تعنيف الآخر. وهنا بالضبط يقدم الكتاب سببين وجيهين يجعلان الآيديولوجية تتحول إلى «نظام مغلق»، وهما:
* التفسير الإجحافي؛ إذ رغم كل التفنيدات الموجهة للنظرية وإن كانت وجيهة يتم الاستمرار في القناعة الآيديولوجية، بل يتم البحث عن سبل لاحتواء العناصر المحرجة، أو لنقل إنه هناك دوماً حل لكل معضلة تجابه النظرية. وهنا يضرب الكتاب أمثلة: فالنظرية الدينية تواجه الردود على، «مشكلة الشر» بالقول: إن الله لا يمنع الشر دائماً، وأن ما يبدو شراً بالنسبة لنا فهو خير بالمعنى الإجمالي لسير الأمور... والأمر نفسه يقال عن المعاناة الإنسانية التي يعانيها الناس في كل ثورة سياسية؛ إذ يتم تبرير الأمر بكونه مجرد آلام مخاض الانتقال.
* الرد على المشكك بتحليل دوافعه من خلال النظرية (الآيديولوجية) نفسها: فمثلاً حينما يتم توجيه اعتراضات للمعتقد المسيحي يتم الرد بسرعة على الناقد؛ كونه أضلته الخطيئة وأن كبره يحول دون رؤيته النور. والشيء نفسه يقال عن متشبع بالماركسية؛ فهو يرد على كل ناقد بكونه مجرد شخص مخدوع بـ«الوعي الزائف»...
إذن، من السهل الوقوع في براثين النظام الآيديولوجي المغلق؛ لأن النظرية حينما تنغمس وتتجذر في قلب الحياة تعلق بها شوائب (العاطفة، الإيمان، السلطة، الانتماء الاجتماعي، الولاء، التحيز...) تحول دون تقييمها العقلاني؛ فالأمر يحتاج إلى حكمة وروية كبيرين، ليتمكن المرء من عزل الآيديولوجية عن واقعها والعودة بها إلى قالبها النظري الخالص، ومن ثم نقدها بموضوعية عالية، والرد على اعتراضاتها في حد ذاتها بصرف النظر عن دوافع الناس، والكشف عن مدى صمود هذه النظرية أمام الفحص الدقيق، ومن تم الاستعداد للتنازل عنها إذا لمسنا هشاشتها المنطقية والتجريبية.
أوضح الكتاب في مقدمته، أنه لن ينحاز ولن يختار أي نظرية (آيديولوجية)، أي أن الكتاب يرفض الاصطفاف إلى رؤية للعالم على حساب أخرى، لكن هذا لم يمنعه من وضع معيار للمفاضلة بين النظريات المتعددة، وهو ذلك الذي قدمه الإبستمولوجي الشهير كارل بوبر، وهو «القابلية للتكذيب». فالكلمة متروكة في النهاية للقارئ لتقييم عقلاني للرؤى...
وما دام أن هذه الطريق العقلانية في تقييم النظريات صعبة جداً وتحتاج إلى دربة نفسية ومران عقلي شديدين، فإن الكتاب يقترح حلاً عملياً، هو عبارة عن دعوة قد تسمح بالحد الأدنى من التسامح، وهو: على الملتزمين بموقف ما عدم فرضه على الآخرين، وفي الوقت نفسه على المشككين استيعاب فكرة ضرورة المعتقد في حياة الناس.



قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.