من التاريخ: الانقسام الكبير

من التاريخ: الانقسام الكبير
TT

من التاريخ: الانقسام الكبير

من التاريخ: الانقسام الكبير

لقد كان الوضع في القارة الأوروبية في مطلع الألفية الميلادية الثانية غريبا للغاية، فلقد كانت هناك إمبراطوريتان؛ الأولى هي الإمبراطورية الألمانية التي ورثت الإمبراطورية الرومانية المقدسة والتي قلد البابا ليو التاسع أول إمبراطور لها وهو شارلمان التاج قبل ذلك بقرنين من الزمان، مكونا تحالفا جديدا بين كنيسة روما التي كانت تتمتع بنفوذ كبير في وسط وغرب القارة الأوروبية، وأكبر قوة سياسية موازية ممثلة في إمبراطورية «الفرانكس»، ومن ناحية أخرى كانت هناك الدولة البيزنطية في الشرق ومركزها الديني ممثلا في كنيسة القسطنطينية، وعلى حين كانت كنيسة روما أيسر حالا وأكثر شمولا وقوة بسبب ظروفها السياسية البعيدة عن أحضان السلطة السياسية المركزية، فإن كنيسة بيزنطة ظلت تابعا ضعيفا للسلطة المركزية للدولة البيزنطية.
وعلى الرغم من التعاون الذي دار بين الكنيستين على فترات متباعدة، خاصة في أغلبية من المجامع الدينية الأساسية بعد مجمع نيقية في 325 ميلاديا، فإن التوتر كان السمة الأساسية الغالبة على العلاقة، خاصة بعدما أصبحت كنيسة روما أكثر قوة واستقلالية مع مرور الوقت، لا سيما أنها تستند إلى مبدأ «التوارث البطرسي» الذي جعل باباوات روما دائما يعتقدون أنهم ورثة بطرس الرسول الذي قال فيه السيد المسيح إنه سيبني كنيسته عليه، وهو ما ميزهم بطبيعة الحال. وقد استمرت العلاقة مشدودة، ولكن بلا خلافات تذكر، حتى جرى تتويج شارلمان إمبراطورا رومانيا مقدسا في روما، وبهذه الخطوة تحول الثقل السياسي/ الديني من إمبراطور بيزنطة إلى غرب أوروبا، فكان هذا أول بوادر للانشقاق بين الكنيستين والإمبراطوريتين على حد سواء، وقد أضعف من وضع الشرق أن الإمبراطورية تعرضت لهزائم منكرة على يد الدولة الإسلامية الجديدة التي ابتلعت أكثر من نصف أراضيها، وذلك في الوقت الذي أصر فيه شارلمان وخلفاؤه على ضرورة الحفاظ على القيمة والقامة الغربية مقابل الشرقية.
لقد استمر التوتر الخفي بين الكنيستين، وزاد منه بوادر الاختلافات العقائدية الخفيفة، وأخذ يتطور بسبب بعض المجامع الكنسية التي لم تقبل روما أجزاء مما أقرته، كذلك فإن الاختلاف الثقافي بدأ يطفو أيضا بقوة منذ القرن الرابع، فلقد كانت الكنيسة الشرقية تعتمد بشكل أساسي على اللغة اليونانية والثقافة الهيلينية، وكانت أكثر مرونة خاصة بالنسبة للمسائل المتعلقة بالتبشير والقواعد الخاصة بالأداء الكنسي، بينما كانت كنيسة روما أكثر حزما وتشددا سواء لطرقها أو لثقافتها، فلقد اقتبست اللغة اللاتينية ولجأت للمفكرين الأوائل للكنيسة لتثبيت عقيدتها خاصة الكتب الخاصة بالقديس أغسطس St. Augustine الذي كان متشددا بشكل كبير، كما أنها كانت أكثر ثروة وقوة من الأخيرة، وأكثر استقلالية أيضا، ولكن بداية التوتر الحقيقي جاءت مع الخلافات المتعلقة بالصور والتماثيل في العبادة والمعروفة بالخلاف الرافض للأيقوناتIconoclastcism، حيث قرر الإمبراطور البيزنطي في القرن الثامن بعد تأثره بالأعراف الإسلامية رفضه أية صور أو تماثيل تجسد السيد المسيح أو السيدة العذراء، وذلك في الوقت الذي رفضت فيه كنيسة روما هذا القرار، مؤكدة أن تمثيل السيد المسيح إنما جاء تقريبا لِنَسُوته لدى غالبية المسيحيين، خاصة أن طبيعة السيد المسيح بالنسبة لهم بشرية وإلهية، بالتالي يمكن تجسيده، وقد جرى رأب الصدع بين الطرفين في مرحلة لاحقة ولكن ليس قبل أن يخلق من التوتر الكثير.
لقد جاءت اللحظة الحاسمة في تاريخ كنيستي روما والقسطنطينية في عام 1054 ميلاديا بعدما اعتلى البابا ليو التاسع البابوية وقبلها بسنوات قليلة، وقد كان هذا البابا ابن خالة الإمبراطور الألماني، وكان مصمما على إركاع كنيسة القسطنطينية لاعتقاده الكامل بسيادة روما من ناحية، ولأنه رأى في الكنيسة والدولة البيزنطية ضعفا سياسيا وكنسيا يحتاج معه لعدم تأجيل نقل مركز الثقل المسيحي من بيزنطة (اليونان) إلى روما والغرب، وقد لجأ في البداية لتكتيكات سياسية لكسر العلاقة بين الإمبراطورية البيزنطية وكنيسة القسطنطينية، ولكن ما كان لهذا التحرك أن يلقى الصدى المناسب في البلاط الإمبراطوري حتى وإن كانت علاقة الإمبراطور مشدودة مع مايكل بطريرك الكنيسة، فلجأت روما لتغيير التكتيك من خلال الهجوم المباشر على البطريركية ذاتها وتصغيرها، فأرسل البابا في روما للبطريرك مايكل رسالة شديدة اللهجة تضمنت: «.. إن كنيسة روما هي الأم والرب زوجها، أما القسطنطينية فهي ابنة شقية وفاسدة، وأن أي كنيسة تخرج عن روما فهي تعد تجمعا للهراطقة.. ومجمعا للشياطين». وقد بدأت قناعة البابا ليو التاسع تقوى بأن أي محاولة لرأب الصدع بين الطرفين لن يكتب لها النجاح إلا إذا توحدت الكنيسة تحت راية بابا روما.
في إطار مسلسل الشد والجذب الدائر أصدر البطريرك مايكل مرسوما بمنع الكنائس التابعة لروما في أراضيه من إقامة القداس لأسباب ترجع إلى أن القربان الذي تقدمه في عمليات التناول ليس مخمرا وفقا للتقاليد المتبعة في الشرق، وذلك ردا على قيام بابا روما بالضغط على الكنائس الشرقية في شبه الجزيرة الإيطالية لفرض عدم تخمير القرابين، وقد طلب البطريرك مايكل من البابا ليو التاسع إرسال ممثلين له للتفاوض في القسطنطينية، وهو ما جرى بالفعل فتعامل المبعوثان معه بعدم لياقة معتمدين على دعم الإمبراطور لهما، وقد تصدوا بمزيج من العجرفة والإهانة لكل الحجج التي تقدمت بها قيادات الكنيسة البيزنطية، وعندما حاول المبعوثان لقاء البطريرك مايكل مرة أخرى أصر الرجل على عدم اللقاء بهما لما بدر منهما في حقه، فما كان منهما إلا أن اقتحما عليه قداسه في كنيسة آيا صوفيا الكبيرة (التي تحولت إلى أكبر مسجد بعد الفتح العثماني)، وقاما بتعليق عريضة كبيرة بها مرسوم من بابا روما بعزل البطريرك مايكل لخروجه عن الدين هو وتابعيه في الكنيسة، وجاء المرسوم ليعلن عن عشر مخالفات لكنيسة القسطنطينية منها القضية التي طالما كانت مصدرا للخلاف الخفي بين الطرفين وهي قضية مرتبطة بالإقنيم الابن في عقدية التثليث أو الـ«Filioque»، فقد رأت الكنيسة الكاثوليكية أن إقنيم الروح القدس في إطار التثليث مشتق من إقنيم الأب والابن على حد سواء، بينما رأت كنيسة القسطنطينية أنها مشتقة من الأب وحده، ووسط ذهول الحضور خرج الرجلان يرددان بصوت عال: «هكذا رأى الرب وهكذا حكم الرب» في تعبير واضح أن السلطة تكمن في أيدي بابا روما وليس بطريركية القسطنطينية.
لقد أخذ المبعوثان البطريرك مايكل على غرة فلم يفعل شيئا وسط ذهول جميع الحاضرين، ولكن الذهول لم يدم طويلا؛ إذ سرعان ما جمع مجمعا لبعض الكنائس الشرقية التي ردت على بابا روما بالشيء نفسه، وهو الحرمان الكنسي وإعلان خروج كل أتباع الكاثوليكية عن الدين المسيحي، ومن هنا ظهر الخلاف المذهبي للأرثوذكس مقابل الكاثوليك، وهو الخلاف الذي يظل عالقا إلى اليوم في الوجدان الأوروبي، فلم يتم رأب الصدع على الرغم من المحاولات الممتدة لذلك، وهكذا فصل البابا ليو التاسع الكنيستين فصلا تاما، وعلى أثره ظهرت آثار انقسام أوروبا إلى مشرق سياسي أوروبي ضعيف ينتظر دماره على أيدي المسلمين والقبائل البربرية، مقابل مغرب أوروبي قوي ينتظره مستقبل سياسي كبير، بينما لم تتعاف المسيحية من صدمة هذا الانفصال الكبير الذي لحق بها حتى اليوم.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.