حسب الشيخ جعفر... أخذ من آبائه الشعريين ثم اختطّ مساره الخاص

رحيله اقترن بصدور أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء

حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
TT

حسب الشيخ جعفر... أخذ من آبائه الشعريين ثم اختطّ مساره الخاص

حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة

من المفارقة أن يقترن رحيل الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر بصدور أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء في بغداد، وهذا الرحيل المفاجئ سيفتح الأبواب واسعة أمام النقاد لإعادة قراءة وتقييم تجربة هذا الشاعر، التجربة الغنية بعطائها وتنوعها وألقها، ووضعها في مسارها الحقيقي في سِفر الشعر العربي الحديث.
ويمكن اختزال تجربة الشاعر في أنها ثمرة سلسلة من الإخفاقات والإحباطات والفقدانات التي وشمت حياته، منذ أن غادر مدينته القروية الوادعة: ميسان، بأهوارها وبراءتها، واقتحم عالم المدينة المعاصرة، متمثلة ببغداد أولاً، وموسكو ثانياً، فكان مثل بدوي الروائي الليبي إبراهيم الكوني الذي فزع هو وناقته عند دخول المدينة الحديثة، وربما بمثال أقرب مثل الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، وهو يواجه مدينة القاهرة العملاقة التي صدمته وعدها «مدينة بلا قلب» بعد أن كان قانعاً بما تقدمه له قريته الوادعة في «المنوفية».

ولكي يستعيد الشاعر تماسكه في وجه رياح التغيير التي حاولت أن تجرفه بقوة، راح يتوسل بالرموز والتمائم البدائية مثل الكوز والحندقوق ونخلة الله، ورموز الطفولة والأمومة وغيرها. ولذا لم يكن غريباً أو مفاجئاً أن يستهل الشاعر ديوانه الأول «نخلة الله» بقصيدة عن الكوز، كتبها عام 1964 متوسلاً به أن يستعيد من خلاله لمحاً من الماضي وحرارة خبز أمه: «وأمدُّ حبلاً من رماد يدي يا مطر النسيم إلى يديك لأحس وهجاً في يديك، لمحاً من الماضي، حرارة خبز أمي، وهج بسمتها الحنون». وفي قصيدة «نخلة الله» المكتوبة عام 1964 أيضاً يقيم الشاعر صلاته البدائية، وهو يتوحد ويتماهى مع نخلة الله، تميمته الأليفة: «يا نخلة الله الوحيدة في الرياح في كل ليل تملئين عليَّ غربتي الطويلة بالنواح فأهبّ: جئتكِ... غير أني لا أضمّ يدي وحبي إلا على الظل الطويل، ولا أمسّ سوى التراب وأنا وحيدٌ مثل جذعك، ظل يلفحني الغياب».
وحسب الشيخ جعفر ليس اسماً طارئاً في سِفر الشعر العراقي الحديث. إنه بالأحرى علامة مائزة وفارقة في مسيرة الشعر العراقي الحديث، منذ أن نشر عام 1962 قصيدته الأولى في مجلة «الآداب» البيروتية والتي لفتت إليه الانتباه بوصفه شاعراً ستينياً متميزاً ومجدداً. إلا أن البداية الشعرية الحقيقية الممتلئة للشاعر كانت مع ديوانه الأول «نخلة الله» عام 1969، ثم ديوانه الثاني «الطائر الخشبي» عام 1972، ولاحقاً بثلاثيته الشعرية عبر ديوانه «زيارة السيدة السومرية» عام 1974، ثم برباعية «عبر الحائط في المرآة» عام 1977 والتي توّجته شاعراً متميزاً عن أقرانه. شعراء الستينات، بشكل خاص شعراء «البيان الشعري» فاضل العزاوي وفوزي كريم وسامي مهدي وخالد علي مصطفى، والذين انشغلوا بمشروعهم الحداثي الجديد الذي أعلن عن القطيعة مع حداثة جيل الخمسينات الذي مثّلته تجارب نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، كما انشغلوا بالحفر في تضاريس اللغة الشعرية في ملامسةٍ لخصوصيات وتخوم قصيدة النثر وعرّابيها أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط، وها هو الشاعر حسب الشيخ جعفر اليوم يقف شامخاً بأعماله الشعرية الكاملة وقد أنجز عبر سبعة عقود هذا الطود الشعري الباذخ الذي يحق لنا أن نتباهى به اليوم. ولم يقتصر إبداع حسب الشيخ جعفر على الشعر فقط بل أغنى المكتبة العربية بترجمات مهمة لشعراء روس بارزين أمثال ألكسندر بلوك، وسيرغي يسفين، ومايكوفسكي وآنا أخماتوف وغيرهم، كما كتب الرواية والمذكرات والدراسات الأدبية المختلفة.
أن أهم ما يميز الشاعر عن أقرانه شعراء الستينات، أنه لم يتنكر لآبائه الشعريين، شعراء الخمسينات، بل عمد إلى تطوير أنموذجهم الشعري الجديد، فأخذ من نازك الملائكة وهجها الرومانسي، ومن البياتي أقنعته وبساطته والتزامه بقضايا الإنسان، ومن السياب لغته وبنيته المدروسة للقصيدة الحديثة، وهو لم يقتنع بذلك فقط، بل سار بهذا المنجز نحو آفاق جديدة تتمثل في تطويره قصيدة التدوير التي كانت لها بدايات متواضعة لدى شعراء الحداثة آنذاك، جعلت الشاعرة نازك الملائكة تقف منها موقفاً متحفظاً في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» الصادر عام 1962. في قضية التدوير استطاع حسب الشيخ جعفر إيجاد صيغة بنيوية شعرية جديدة تتجاوز البنية التقليدية لقصيدة الشعر الحر القائمة على وحدة البيت ومحدودية عدد التفعيلات، نحو بنية مفتوحة تتلاحق فيها التفعيلات وتتجمع على هيئة كتلة شبيهة بكتلة الفقرة paragraph في النثر، والتي ستجد لاحقاً حضوراً في تجارب شعراء قصيدة النثر. في القصيدة المدورة عند حسب الشيخ جعفر نجد هذا التلاحق في الأنفاس. والتراسل المتدفق لخيوط التجربة الشعرية التي لا تريد أن تتوقف عن التدفق، ما لم تصل إلى نهايتها الطبيعية، السيكولوجية والفنية والحياتية معاً، وفي توحد للمكان والزمان معاً.
ويمكن القول إن متن الشاعر الشعري هو بصورة أو بأخرى تجسيد لتجربة روحية ونفسية وفكرية وفنية وعاطفية عاشها الشاعر طيلة حياته. فهو ابن مدينة العمارة بعمقها الريفي وبأهوارها وطقوسها شبه البدائية، وهو أيضاً ابن الحركة الوطنية الديمقراطية العراقية وشاهد على العصر الذهبي من تجربة الاتحاد السوفياتي في أثناء دراسته في موسكو في الستينات، كما هو وريث أمين لتقاليد الحداثة الشعرية الخمسينية ولكل التراث العربي الكلاسيكي والإنساني.
وتظل عقدة الشاعر الأساسية متمثلة في الاصطدام بالمظاهر القيمية السلوكية للمدينة الحديثة، التي هزّته بعمق وصدمته وأخرجته عن توازنه فراح يتوسل بالماضي وتمائمه لكي يحافظ على تماسكه. وأشرت في دراسة نقدية لي عن تجربته المبكرة نشرتُها في «مجلة الآداب اللبنانية» عام1977 ونشرتُها في كتابي «معالم جديدة في أدبنا المعاصر» الصادر عام 1975، إلى أن الشاعر يبدو مثل النحات «فيدياس» الذي يصنع عبر النحت تمثالاً لامرأة جميلة اشتهاها ويتوسل بالآلهة أن تحيل تمثاله الحجري إلى امرأة حقيقية، وفعلاً يتحقق له ما يشاء فيتحول التمثال إلى امرأة جميلة، لكنها سرعان ما تجد لها حبيباً آخر، فتتركه للوعة الفراغ والخيبة. ويبدو أن الشاعر قد اكتشف عبث استرجاع حبيبته الخيالية، والتي حلم بها قبله الشاعر سيرغي يسينين أيضاً وجسدها الشاعر ألكسندر بلوك في البحث عن «السيدة الجميلة»، فكتب قصيدته الوداعية «مرثاة في مقهى» والتي نشرها في ديوانه «نخلة الله» والتي ودّع فيها أحلامه الرومانسية المستحيلة، واختار أن يرمي بجسده، ربما مثل فاوست غوته، إلى الشيطان حيث الفالس والنساء والموسيقى والرقص والشراب.
يمكن القول إن الشاعر حسب الشيخ جعفر قد وصل إلى ذروته الشعرية عبر دواوينه الثلاثة أو الأربعة الأولى، حيث ترك بصماته الواضحة على مسار التجربة الشعرية العربية الحديثة. أما تجاربه اللاحقة فقد مثّلت استثماراً للأرض التي فتحها سابقاً، وقدم فيها نماذج وكشوفات جديدة تُحسب له، وعليه، مرة واحدة.
فديوان «في مثل حنوّ الزوبعة» الصادر عام يكاد يكون حواراً داخلياً مع عشرات الأقنعة والرموز والتمائم البدائية لمدن وشعراء أمثال بوشكين وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وحسين مروان وأمل دنقل، وغير ذلك كثير.
أما في «أعمدة سمرقند» فيكاد يكون معظم قصائد هذا الديوان قصائد تعليمية وتربوية، فهو يعترف بأن هذه القصائد تعتمد في معظمها، فكرةً وحدثاً، على أقاصيص «كليلة ودمنة» وحكايات أيسوب الإغريقي، وعلى الحكايات الشائعة في الآداب الشرقية القديمة، ولذا لم يكن غريباً أن يُهدي هذا الديوان إلى ذكرى الشاعر أحمد شوقي، الذي سبق له أن فعل شيئاً مماثلاً. إذ نجد إعادة صياغة شعرية لحكايات مشهورة مثل «ليلى والذئب» و«مالك الحزين» و«السمكة الذهبية» و«وضاح اليمن» و«أبي العلاء المعري» و«الإخوة كارامازوف» و«دون كيخوت» و«أخوان الصفا» و«أوفيليا» و«السندباد» وغيرها كثير. وهذه القصائد يغلب عليها الجانب التعليمي وتعتمد أساساً على الوصف وعلى بنية الحكاية، وفي تقديري أنها لا تنطوي على شعرية عالية. وربما يذكّر القراء أن نشرها في بعض الصحف العراقية منذ الستينات لرغبته في تجنب كتابة الشعر التعبوي المكرّس لتلميع صورة النظام الديكتاتوري ورمزه آنذاك صدام حسين. وحريٌّ بالنقد أن يحتفي بشكل خاص بفحص تجربة شعرية فريدة ومتميزة للشاعر تتمثل في قصيدته الطويلة أو المطولة «أنا أقرأ البرق احتطاباً» والتي تنساب كقصة ذات وحدة عضوية، دونما عنوانات فرعية أو أي شكل عنقودي لبناء القصيدة.
فهذه القصيدة التي تضم أكثر من ثلاثمائة صفحة، هي بمثابة سيرة ذاتية للشاعر، يستعرض فيها مراحل حياته الشخصية والشعرية، وتنطوي على موقف فلسفي من قضية الحياة والموت، كأنه يذكّرنا بصنيع الشاعر الفرنسي رامبو في «فصل في الجحيم». فحسب الشيخ جعفر يبدأ بكتابة سيرته، منذ بواكير حياته، ويكتب مرثاة لحياته وموته معاً: «ستعود ملتفاً كأي جثة ويضيق بالطفل الحقير ولعل، تحت النخلتين، ثرى يلوذ به الحصير».
ويعلن الشاعر انتماءه إلى أجواء مدينته ميسان وإلى نهري دجلة والفرات: «أنا كنت سفاناً ودجلة والفرات يتفضفضان، ويزجران فَلِمَ اصطناعي القارب الورقي أصفر كالفتات؟»، وهو في ختام قصيدته يذكّرنا بكبرياء أبي العلاء، إذ يقول: «لا ريب أني قائل ما لم يقله أحد سواي تمحو يدي، وتخط مدمنة عصاي». تجربة حسب الشيخ جعفر، التي نحتفي بها اليوم هي رمز لعطاء جيل واعد وشجاع استطاع أن يفرض حضوره الإبداعي والشعري في الحياة الثقافية، وهذا الاحتفاء، هو أيضاً احتفاء بالثقافة العراقية ورموزها المبدعة، والمنتجة.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!