أوروبا في عين عاصفة أزمة اللجوء الأوكراني

دولها تستعد لـ«حالة طوارئ مستدامة» لمواجهة تداعيات الحرب... وتحذير من «سيناريو أفغانستان»

لاجئون فارون من أوكرانيا عقب وصولهم إلى معبر ميديكا الحدودي في بولندا في 12 أبريل الجاري (رويترز)
لاجئون فارون من أوكرانيا عقب وصولهم إلى معبر ميديكا الحدودي في بولندا في 12 أبريل الجاري (رويترز)
TT

أوروبا في عين عاصفة أزمة اللجوء الأوكراني

لاجئون فارون من أوكرانيا عقب وصولهم إلى معبر ميديكا الحدودي في بولندا في 12 أبريل الجاري (رويترز)
لاجئون فارون من أوكرانيا عقب وصولهم إلى معبر ميديكا الحدودي في بولندا في 12 أبريل الجاري (رويترز)

منذ العقد الأخير من القرن الماضي كان قاموس الهجرة في الاتحاد الأوروبي مقصوراً على الموجات المتعاقبة من المهاجرين الذين يتدفقون عبر الحدود الجنوبية، البحرية والبرية، ومشاهد الغرقى الذين تنتشلهم زوارق الإنقاذ في البحر المتوسط، والجدال المحتدم الذي كان يثيره استيعابهم في العديد من البلدان الأعضاء، خصوصاً من لدن الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة التي ساهمت معارضتها الشديدة لظاهرة الهجرة في ارتفاع شعبيتها بعد أن أصبحت العنوان الرئيسي الدائم لحملاتها الانتخابية.
وبعد مرور أكثر من شهر على اندلاع الحرب في أوكرانيا وما تسببت به من تدفقات للنازحين واللاجئين لم تشهد لها أوروبا مثيلاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد مظاهر التضامن غير المسبوق الذي استقبلت به البلدان الأوروبية مئات الآلاف من المدنيين الأوكرانيين الفارين من أهوال الحرب، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه اليوم في عين العاصفة، في ظل مشهد يتجاوز كل التوقعات التي وضعها خبراؤه، ما يفرض إعادة نظر جذرية في سياسة اللجوء والهجرة التي يواجه صعوبة كبيرة في التوافق عليها منذ سنوات. وتشاء المفارقات أن بلدان الاتحاد الشرقية التي شكلت معارضتها الشديدة لتسهيل وتنظيم تدفق اللاجئين وتوزيعهم حصصاً على الدول الأعضاء، هي التي تجد نفسها اليوم على الخط الأول من تدفقات النازحين على امتداد الحدود الأوروبية مع أوكرانيا، وبدأت تستنجد بالشركاء ومؤسسات الاتحاد لاستيعاب هذه الأعداد التي تجاوزت خمسة ملايين حسب البيانات الأخيرة، والتي قد تصل إلى عشرة ملايين إذا اشتدت المعارك وطالت، أو إذا اتسعت دائرتها.
تشهد المؤسسات الأوروبية منذ أيام حالة غير مسبوقة من التعبئة لمواجهة تداعيات طويلة الأمد للغزو الروسي لأوكرانيا في ضوء التقارير التي أعدتها مؤخراً أجهزة الاتحاد الاستراتيجية والأمنية، والتي تتوقع أن تمتد هذه الحرب لأشهر أو لسنوات في «سيناريو يماثل أفغانستان أو قبرص»، كما جاء في الدراسة التي وضعها جهاز العلاقات الخارجية أمام الاجتماع الأخير لمجلس وزراء العدل والداخلية، والتي تعمل دوائر المفوضية بموجب توصياتها التي تدعو إلى الاستعداد لحالة طوارئ مستدامة في بلدان الاتحاد.
وكان المجلس الأوروبي لوزراء العدل والداخلية أقر وضع قائمة بالبلدان الأعضاء حسب قدراتها على استيعاب اللاجئين وتوفير الخدمات الأساسية لهم، بهدف تشجيعهم على التوجه إليها، كما وضع خطة مشتركة لمكافحة أعمال المنظمات الإجرامية للاتجار بالأشخاص التي كانت أصلاً ناشطة في تهريب الأوكرانيين إلى بلدان الاتحاد الأوروبي. وكانت منظمات غير حكومية رصدت في الفترة الأخيرة نشاطاً كثيفاً وواسعاً لهذه الشبكات في عدد من عواصم البلدان المتاخمة لأوكرانيا مثل وارسو وبودابست وبوخارست وبعض المدن الأخرى. ويذكر أن نسبة الفتيات والنساء بين النازحين الأوكرانيين تقارب 80 في المائة وفقاً لبيانات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وبرغم تراجع العدد اليومي لتدفق النازحين الأوكرانيين في الفترة الأخيرة، حيث انخفض من مائتي ألف إلى أربعين الفاً، حسب بيانات المفوضية الأوروبية، إلا أن عواصم البلدان المتاخمة لأوكرانيا تخشى أن يتجاوز الضغط قريباً قدراتها على توفير المسكن والخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية للنازحين. وكانت وزارة التربية البولندية أفادت بأن عدد الطلاب في بعض المدارس الابتدائية والثانوية في العاصمة والمدن الكبرى ازداد بنسبة 40 في المائة في الفترة الأخيرة، وأنها بدأت بتوجيه الطلاب الأوكرانيين إلى مدارس المناطق الريفية، وأن ثمة حاجة متزايدة لمعلمين ومتخصصين في مواكبة الحالات النفسية الصعبة التي يعاني منها النازحون.
وتعترف المفوضية الأوروبية بأن اللاجئين لم يتوزعوا طوعاً على بلدان الاتحاد المجاورة لأوكرانيا كما كان متوقعاً، إذ لا يخضع المواطنون الأوكرانيون إلى أي قيود للتنقل داخل منطقة شنغن بموجب اتفاق سابق بين الاتحاد وأوكرانيا، وأن معظمهم اختار البقاء في البلدان التي وصلوا إليها أملاً بالعودة قريباً إلى ديارهم أو بانتظار أقرباء يتوافدون تباعاً.
وكانت المفوضية الأوروبية رصدت 17 مليار يورو لمواجهة حالة الطوارئ الإنسانية التي تسببت بها الحرب في أوكرانيا، اقتطع معظمها من الموارد المخصصة لتنشيط الاقتصاد وتعزيز الخدمات العمومية في الدول الأعضاء بعد جائحة «كوفيد - 19». لكن ناطقاً بلسان المفوضية صرح بأن هذا المبلغ ليس كافياً لتغطية نفقات خطة الطوارئ أكثر من ثلاثة أشهر، وأنه لا بد من إيجاد مصادر تمويل إضافية إذا استمرت الحرب وارتفع عدد اللاجئين الذي تتوقع مصادر الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر أن يصل إلى عشرة ملايين في الأشهر المقبلة.
وكانت القمة الأوروبية الأخيرة كلفت المفوضية تحديد مصادر إضافية لتمويل الخطط والمقترحات التي وضعتها لدعم الدول الأعضاء ومساعدتها على توفير الخدمات الأساسية اللازمة إلى اللاجئين الذين تؤويهم. وكانت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فايزر صرحت في ختام أعمال المجلس الأوروبي بقولها: «من الواضح أن مواردنا وقدراتنا الاستيعابية لن تكون كافية في مواجهة التدفق المتنامي للنازحين، خصوصاً في الأمدين المتوسط والبعيد». وكانت ألمانيا وبولندا طالبتا بتخصيص مبلغ ألف يورو عن كل لاجئ تستضيفه دول الاتحاد خلال الأشهر الستة الأولى من الحرب، ووضع آلية لتأمين تجديد هذا التمويل في الفترات اللاحقة.
وفيما أعلنت الحكومة البولندية أنها أنفقت حتى الآن 2.2 مليار يورو لاستقبال اللاجئين وإيوائهم، قال ناطق بلسان المفوضية إن الاتحاد لا ينوي في الوقت الراهن تفعيل أي آلية إلزامية لتوزيع اللاجئين وفق نظام الحصص على البلدان الأعضاء، والاكتفاء بتحفيزهم على الانتقال الطوعي عبر تزويدهم بمعلومات عن البلدان التي تتوفر فيها قدرات الاستيعاب وتقديم الخدمات الأساسية. ويذكر أن البلدان التي تستقبل النازحين اليوم على الحدود مع أوكرانيا، مثل بولندا والمجر وسلوفاكيا، هي التي منذ سنوات تعترض على نظام الحصص في توزيع المهاجرين الذي تطالب به الدول الواقعة على الحدود الخارجية الجنوبية للاتحاد مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان ومالطا.
وتجدر الإشارة إلى أن أزمة النازحين من أوكرانيا وضعت الاتحاد الأوروبي أمام حالة غير مسبوقة استدعت اللجوء للمرة الأولى إلى تفعيل مبدأ «توجيه الحماية الدولية المؤقتة» الذي يسمح بدخول الهاربين من الكوارث إلى بلدان الاتحاد بأعداد غير محدودة. ورغم أن الاتفاقات الموقعة بين الاتحاد وأوكرانيا تمنح المواطنين الأوكرانيين حق الإقامة في بلدان الاتحاد ثلاثة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة، فإن التوجه المذكور يمدد هذه الفترة إلى سنة كاملة قابلة للتجديد التلقائي مرتين، ويسمح بالحصول على خدمات السكن والصحة والتعليم وفرص العمل أسوة بالمواطنين الأوروبيين. وكانت المفوضية أفادت بأن 800 ألف لاجئ طلبوا حتى الآن الاستفادة من هذا التوجيه.
ويتحسب الاتحاد الأوروبي لموجة جديدة كثيفة من الأرياف الأوكرانية إذا صحت التوقعات بأن روسيا ستتعمد استهداف البنى التحتية الزراعية لإضعاف قدرة الأوكرانيين على الصمود واطالة المواجهة. وكان المفوض الأوروبي للشؤون الزراعية، البولندي جانوز فودجيشوفسكي، اتهم الاتحاد الروسي باستخدام الأساليب السوفياتية للتوسع والسيطرة على الدول الأخرى بإخضاع شعوبها للمجاعة، وقال في تصريحات إن روسيا تتعمد ضرب البنى التحتية لقطاعي الزراعة والأغذية، على غرار ما فعله النظام السوفياتي على عهد ستالين في ثلاثينات القرن الماضي عندما قضت المجاعة على الملايين من سكان المناطق التي كان يسعى لبسط سيطرته عليها. وقال المفوض الأوروبي: «علينا أن نمنع ذلك مهما كلف الأمر، لأن قطاع الزراعة في أوكرانيا أساسي لتوفير الأمن الغذائي في العالم».
ويقول المسؤولون في أجهزة المفوضية إن القدرات اللوجيستية متوفرة لمواجهة تدفق النازحين من أوكرانيا في الأشهر المقبلة حتى نهاية الصيف، لكن إذا طالت الحرب أو اشتدت المعارك فإن الدول المتاخمة لن تكون قادرة على استيعاب اللاجئين، ولا بد من وضع آلية لتوزيعهم على الدول الأخرى، وخطط لتنظيم بقائهم وتوفير الخدمات الأساسية لهم. وفيما تنكب هذه الأجهزة منذ أسابيع على وضع خطة شاملة لاستيعاب النازحين الأوكرانيين في الأمدين المتوسط والطويل لعرضها على القمة الأوروبية الأخيرة التي ستعقد تحت الرئاسة الدورية الفرنسية أواخر يونيو (حزيران) المقبل، تطالب دول الجنوب الأوروبي بأن تتواكب هذه الخطوة مع إقرار ميثاق الهجرة الأوروبي الذي تتعثر المفاوضات حوله منذ سنوات بسبب الانقسامات السياسية الحادة التي يثيرها بين الدول الأعضاء.
واللافت اليوم أن بولندا التي تقود كتلة الدول المتشددة في المفاوضات حول ميثاق الهجرة واللجوء في الاتحاد، وترفض بشكل قاطع مبدأ توزيع الأعباء بين الدول الأعضاء بعد أن امتنعت، إلى جانب المجر، عن استقبال اللاجئين السوريين الفارين من الحرب، هي التي تطالب اليوم الشركاء الأوروبيين بالدعم المالي واللوجيستي وقبول توزيع النازحين الأوكرانيين الذين زاد عدد الذين دخلوا منهم إلى أراضيها على 2.4 مليون شخص، أي ما يعادل 62 في المائة من مجموع الذين دخلوا إلى بلدان الاتحاد الأوروبي. وكانت بولندا، مدعومة بقوة من ألمانيا والمجر ورومانيا، فاجأت شركاءها عند افتتاح أعمال المجلس الأوروبي الاستثنائي لوزراء العدل والداخلية نهاية الأسبوع الماضي عندما تقدمت باقتراح يعيد النظر بصورة جذرية في المقاربة التي اعتمدها الاتحاد حتى الآن حول سياسات اللجوء والهجرة، وأبدت استعدادها لتذليل العقبات التي تحول، منذ فترة طويلة، دون التوصل إلى اتفاق لاعتماد الميثاق المشترك. وكانت الحكومة البولندية طلبت، إضافة إلى تخصيص مساعدات مالية عن كل لاجئ تستقبله البلدان المجاورة لأوكرانيا، بتغطية نفقات سفر النازحين لمغادرة البلد الذين يصلون إليه بعد عبورهم الحدود، وتنقلهم داخل الدول الأعضاء.
وفيما أبدت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تجاوباً من مطالب الدول المتاخمة لأوكرانيا، والمدعومة من ألمانيا التي تعرف أن نسبة كبيرة من النازحين سوف تتوجه إليها في نهاية المطاف، خاصة إذا طالت الحرب، تتركز الجهود حالياً على وضع آلية مشتركة لتوزيع اللاجئين على الدول الأعضاء في الاتحاد، خاصة أن تطبيق مثل هذه الآلية معقد جداً من الناحية القانونية إذ لا يمكن، حسب التشريعات الأوروبية واتفاقات الهجرة الدولية، إجبار اللاجئ على تغيير المكان الذي يختاره لإقامته. وتتجه المفوضية حالياً إلى إنشاء منصة موحدة لإدارة وتنظيم وصول النازحين إلى بلدان الاتحاد، وتزويدهم بالمعلومات والإرشادات اللازمة، وأيضاً بالمحفزات، لإعادة توزيعهم على الدول الأعضاء وفقاً لقدراتها الاستيعابية.
وتقود إيطاليا كتلة الدول الأعضاء التي تسعى إلى ربط حزمة التدابير والمساعدات التي تطالب بها الدول المجاورة لأوكرانيا لاستيعاب تدفق النازحين باتفاق نهائي وشامل حول ميثاق الهجرة المجمد في أدراج المفوضية منذ سنوات. ولا يغيب عن هذه الكتلة، التي تدعمها الرئاسة الفرنسية الدورية بقوة، أن الاتفاق حول ميثاق أوروبي مشترك للهجرة واللجوء يوزع الأعباء بصورة منصفة على الأعضاء، من شأنه أن يسحب من التداول السياسي الموضوع الذي يشكل مصدراً أساسيا لصعود الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة، خاصة أن الغزو الروسي لأوكرانيا شكل ضربة قاسية لهذه الأحزاب وقياداتها التي تربطها علاقات وثيقة وتحالفات منذ سنوات بنظام فلاديمير بوتين. وكانت وزيرة الداخلية الإيطالية أوضحت موقف الكتلة بقولها: «نتبنى الاقتراح البولندي بكامل تفاصيله وإبعاده، خاصة ما جاء في مقطعه الأخير بأن الوقت قد أزف لإبداء الدعم الأوروبي الملموس، ليس فقط للدول الأعضاء الشريكة في الاتحاد، بل أيضاً لأوكرانيا ومواطنيها».
وإذ تعتبر المفوضية أن تطبيق خطة المساعدات إلى دول الجوار الأوكراني لا بد أن يمول في المرحلة الراهنة من موارد صندوق الإنعاش الذي أقره الاتحاد الأوروبي للنهوض من تداعيات جائحة «كوفيد»، تدرك أن ذلك سيطرح معضلة المساعدات الأوروبية المجمدة من هذا الصندوق لبولندا والمجر، بقرار من المجلس، بسبب عدم احترام هذين البلدين لسيادة القانون وفصل السلطات والمبادئ والقيم الأساسية في ميثاق الاتحاد. وكان مصدر مسؤول في المفوضية صرح بأن هذا الموضوع الحساس سياسيا والشائك قانونياً ستجري مناقشته في ضوء الآلية التي ستعتمد لتمويل الخطة، لكن القرار النهائي بشأنه سيترك إلى مرحلة لاحقة على مستوى القمة. ويذكر في هذا الصدد أن القمة الأوروبية الأخيرة وافقت على إنشاء صندوق ائتمان للتضامن مع أوكرانيا، لكن من غير تحديد آلية لتمويله. وكانت الرئاسة الفرنسية اقترحت فتح باب تمويل هذا الصندوق للبلدان والجهات الدولية المانحة خارج الاتحاد لدعم جهود الإعمار في أوكرانيا.
إلى جانب ذلك، وافق المجلس الأوروبي الاستثنائي لوزراء العدل والداخلية على حزمة مساعدات لمولدوفا التي تسجل أعلى نسبة من النازحين الأوكرانيين الوافدين إليها مقارنة بعدد السكان، حيث بلغ عددهم 375 ألفا ينتقل معظمهم إلى الدول الأعضاء في الاتحاد. وكانت المفوضية قررت تفعيل آلية الحماية المدنية مع البلدان المجاورة للمرة الأولى منذ عشرين عاماً، والتي تسمح لأجهزة الأمن وإدارة شؤون الهجرة الأوروبية بتقديم الدعم والمساعدة المباشرة إلى الدول الأخرى لتنظيم تدفق اللاجئين إلى بلدان الاتحاد.
وأمام ضخامة التحدي الذي يطرحه ملف اللاجئين الأوكرانيين على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء، والاحتمالات المتزايدة بتفاقم الأزمة الإنسانية وظهور بؤر جديدة للنزاعات، أبدت الولايات المتحدة استعدادها لاستقبال عدد من النازحين وتسهيل استقرارهم وإقامتهم. وكانت واشنطن أعلنت خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي جو بايدن الأسبوع الماضي إلى أوروبا حيث شارك في القمم الثلاث التي عقدها الحلف الأطلسي ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي وقام بزيارة بولندا، أنها مستعدة لاستقبال مائة ألف لاجئ أوكراني كحد أقصى، مع إعطاء الأولوية لمن لديهم أنسباء يقيمون بصورة شرعية في الولايات المتحدة. كما أعلنت الإدارة الأميركية عن تخصيص مساعدة إضافية قدرها مليار دولار لدعم جهود استقبال النازحين من الحرب في أوكرانيا.
وكانت مفوضية الأمم المتحدة لغوث اللاجئين نبهت إلى أن ثمة أزمة نزوح أخرى بعيدة عن الأضواء، هي أزمة النازحين داخل الأراضي الأوكرانية الذين لأسباب متعددة يتعذر عليهم الوصول إلى حدود أوكرانيا الخارجية، والذين تقدر المنظمات الإنسانية عددهم حالياً بحوالي 6.5 مليون نازح، يعاني معظمهم من نقص في الغذاء والمسكن والخدمات الصحية الأساسية.

لاجئون فارون من أوكرانيا عقب وصولهم إلى معبر ميديكا الحدودي في بولندا في 7 مارس الماضي (أ.ب)

- خريطة توزع اللاجئين الأوكرانيين على دول الجوار
> فرّ أكثر من 4.24 مليون لاجئ أوكراني من بلادهم منذ الغزو الروسي في 24 فبراير (شباط)، وفق تعداد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. ولم تشهد أوروبا مثل هذا التدفق للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية.
وأشارت وكالة الصحافة الفرنسية إلى أن نحو 90 في المائة من الذين فروا من أوكرانيا هم من النساء والأطفال، في حين لا تسمح السلطات الأوكرانية بمغادرة الرجال في سن القتال.
وتتحدث المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة عن فرار نحو 205.500 شخص غير أوكراني من البلاد ويواجهون أحياناً صعوبات في العودة إلى بلدانهم الأم. وتقدر الأمم المتحدة عدد النازحين في أوكرانيا بنحو 7.1 مليون. واضطر أكثر من 11 مليون شخص، أي أكثر من ربع السكان، إلى مغادرة منازلهم إما عن طريق عبور الحدود بحثاً عن ملجأ في البلدان المجاورة وإما عن ملاذ آمن آخر في أوكرانيا.
قبل هذا النزاع، كان عدد سكان أوكرانيا أكثر من 37 مليوناً في الأراضي التي تسيطر عليها كييف - ولا تشمل شبه جزيرة القرم (جنوب) التي ضمتها روسيا في عام 2014 ولا المناطق الشرقية الخاضعة لسيطرة الانفصاليين الموالين لروسيا منذ العام نفسه.
وتستقبل بولندا وحدها أكثر من نصف عدد اللاجئين الذين فروا من أوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي، أي نحو 6 من كل عشرة لاجئين. ومنذ 24 فبراير دخل 2469657 لاجئاً إلى بولندا وفقاً لإحصاءات المفوضية. وأكدت «اليونيسف» أن نحو النصف، أطفال. وأكد نائب وزير الداخلية أن 1.5 مليون منهم بقوا في بولندا. وحصل 600 ألف منهم على رقم التعريف الوطني (PESEL). ويستخدم هذا الرقم على نطاق واسع في العلاقات مع المؤسسات العامة البولندية، والخدمات الصحية، للحصول على رقم هاتف، والوصول إلى بعض الخدمات المصرفية، وغيرها.
وأشارت مفوضية الأمم المتحدة للاجئين إلى أن 648410 أشخاص لجأوا إلى رومانيا، بحلول 4 أبريل (نيسان). أما مولدافيا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، فتشجع المفوضية الأوروبية اللاجئين الأوكرانيين الذين يصلون إليها على مواصلة رحلتهم للاستقرار في إحدى دول الاتحاد الأوروبي الأكثر قدرة على تحمل العبء المالي. واستقبلت مولدافيا 396448 لاجئاً، وفق إحصاءات مفوضية اللاجئين.
واستقبلت المجر 394728 أوكرانياً، فيما دخل إلى سلوفاكيا 301405 أوكرانيين، بحسب ما نقلت الوكالة الفرنسية عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وبلغ عدد مَن لجأوا إلى روسيا نحو 350632 شخصاً حتى 29 مارس (آذار) الماضي، وفق الأرقام المتوافرة. أما بيلاروسيا فقد استقبلت 16274 شخصاً بحلول 3 أبريل.


مقالات ذات صلة

شولتس: اللاجئون السوريون «المندمجون» مرحَّب بهم في ألمانيا

أوروبا المستشار الألماني أولاف شولتس (رويترز)

شولتس: اللاجئون السوريون «المندمجون» مرحَّب بهم في ألمانيا

أكّد المستشار الألماني، الجمعة، أن اللاجئين السوريين «المندمجين» في ألمانيا «مرحَّب بهم»، في حين يطالب المحافظون واليمين المتطرف بإعادتهم إلى بلدهم.

«الشرق الأوسط» (برلين)
المشرق العربي مدخل مخيم اليرموك الشمالي من شارع اليرموك الرئيسي (الشرق الأوسط)

فلسطينيو «اليرموك» يشاركون السوريين فرحة «إسقاط الديكتاتورية»

انتصار الثورة السورية والإطاحة بنظام بشار الأسد أعادا لمخيم اليرموك رمزيته وخصوصيته

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي سوريون مقيمون في تركيا ينتظرون لدخول سوريا عند بوابة معبر جيلفي غوزو الحدودي في الريحانية في 12 ديسمبر 2024 بعد الإطاحة بنظام الأسد (أ.ف.ب)

أطفال عائدون إلى سوريا الجديدة بعد سنوات لجوء في تركيا

تعود كثير من العائلات السورية اللاجئة في تركيا إلى الديار بعد سقوط الأسد، ويعود أطفال إلى وطنهم، منهم من سيدخل سوريا للمرة الأولى.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
أوروبا المستشار الألماني أولاف شولتس (د.ب.أ)

المستشار الألماني لا يرغب في إعادة اللاجئين السوريين المندمجين جيداً

حتى عقب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، أعرب المستشار الألماني أولاف شولتس عن عدم رغبته في إعادة أي لاجئ سوري مندمج بشكل جيد في ألمانيا.

«الشرق الأوسط» (برلين)
أوروبا لاجئون سوريون في تركيا يسيرون نحو المعبر الحدودي بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد (د.ب.أ)

ألمانيا تطالب باتباع نهج أوروبي مشترك في عودة اللاجئين السوريين

طالبت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر باتخاذ نهج أوروبي مشترك بشأن العودة المحتملة للاجئين السوريين.

«الشرق الأوسط» (برلين)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.