فوكوياما لم يفقد إيمانه بالليبرالية... لكن أية ليبرالية؟

مرافعته في كتابه الجديد تعاني من ثغرات كثيرة

فرنسيس فوكوياما
فرنسيس فوكوياما
TT

فوكوياما لم يفقد إيمانه بالليبرالية... لكن أية ليبرالية؟

فرنسيس فوكوياما
فرنسيس فوكوياما

منذ الأزمة الماليّة العالميّة نهاية العقد الماضي والحديث عن إخفاقات الليبراليّة لا يكاد يتوقف، وتقاطر كتّاب من كل الاتجاهات يميناً ويساراً لتأبين المشروع الليبرالي ووصف توحّش تطبيقاته وخواء الديمقراطيّات والتحاق الطبقات المتلبرلة بمشاريع تحركها من وراء ستر آيديولوجيّات محافظة متطرفة. وكان الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين قد أعلن في وقت ما «أن الديمقراطية الليبرالية عفا عليها الزمن». فرنسيس فوكوياما، الذي صنع لذاته سمعة عالميّة عندما نشر مقالاً صحافيّاً عام 1989 بعنوان «نهاية التاريخ؟» – نشر لاحقاً (1992) في كتاب معروف أزيلت من عنوانه علامة السؤال بعد نهاية التاريخ وأضيفت إليه عبارة (والإنسان الأخير) - ذهب فيه إلى الادعاء بأن انهيار الشيوعيّة السوفياتيّة وتفكك حلف وارسو أظهرا الديمقراطية الليبرالية باعتبارها «منتهى التطوّر الآيديولوجي للبشرية» وتصبح عالميّة ونهائيّة باطراد، كان شاهداً على سلسلة من الأحداث مثل هجوم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والحروب على أفغانستان والعراق، ولاحقاً الأزمة المالية لعام 2008 التي أثرت سلباً على ثقة الليبرالية بنفسها، وحقق الشعبويون اليمينيون والتقدميون اليساريون نجاحات كبيرة في السياسة الغربية على حساب المركز الليبرالي بما في ذلك الولايات المتحدة بعدما تولى دونالد ترمب السلطة هناك، ورفض بريطانيا لليبرالية على النّمط الأوروبي لمصلحة ليبراليّة انعزاليّة محافظة سياسياً، وحتى مع استمرار تمسّك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بالإطار الشكليّ على الأقلّ للديمقراطية الليبرالية، فإن المستفيدين منه كنظام سياسيّ اقتصادي يشعرون بالحرج الشديد بعدما لم يعد ممكناً المجادلة بشأن حقيقة توسع الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون، وفشله في التعاطي مع الكساد الكبير الذي رافق جائحة «كوفيد - 19» سوى عبر طبع مزيد من العملة. وقد أقدم مثقفون عديدون على التنديد بفكرة «نهاية التاريخ» المهلهلة باعتبارها ذروة الغطرسة الهيغلية (نسبة إلى هيغل) المنحى في النظر إلى العالم، ورأوا في صاحبها مؤمناً ساذجاً بحتمية فكرة التقدم الآتي من الغرب، ومصاباً بعمى اختياريّ عن جرائم الديمقراطيات الليبرالية. لكن كتابه الجديد «الليبراليّة والساخطون عليها»* يظهر أن الرّجل وإن أظهر بعض التواضع معترفاً بـ«أن الليبرالية من الجليّ كانت في تراجع خلال السنوات الأخيرة»، فإنّه لم يفقد إيمانه بعد، إذ يتصدى فيه للناقدين، مدعياً بأن الليبرالية لا تزال سليمة وجذابة حتى بمواجهة أنظمة منافسة قد تلوح في الأفق، ومؤكداً على كون أزمة الديمقراطيات الليبرالية متأتية أساساً من تحديّات داخليّة، وبشكل رئيسيّ من المعارضين داخل النّظام الدّيمقراطي.

لكن مرافعة فوكوياما في هذا الكتاب القصير (173 صفحة) للدّفاع عن الليبراليّة تعاني من صعوبات موضوعيّة تتعلق بواقع الديمقراطيّات الليبرالية الغربيّة اليوم، وفكريّة أيضاً عبر التعسّف في ابتداع المبررات لإخفاقاتها البارزة. ولعل الصعوبة الأولى ترتبط بنقطة الانطلاق حيث لا يسهل إطلاقاً تعريف الليبراليّة بشكل محدد، وأصبحت الكلمة تعني أشياء مختلفة للتيارات السياسيّة والفكريّة المختلفة. ويقرر فوكوياما بأنها مفهوم أقرب ما يكون إلى الليبراليّة الكلاسيكيّة كنظام اجتماعيّ يقوم على أساس مبدأ المساواة في الحقوق الفردية وحكم القانون وحريّات الأفراد وإدارة الاختلاف سلمياً في المجتمعات التعددية، وإن لم ينكر أن هنالك إمكانيّة داخل ذلك النظام لتطوّر أوجه من عدم المساواة الواضحة إلى مستوى ما في كل من تلك المجالات. ويقدّم فوكوياما تطبيقات تلك المبادئ في سياسة تقوم على التسامح المتجذر في احترام الاستقلال الذاتي الفردي الذي تكفله حكومة محدودة وقانونية. ومن العناصر الأخرى للنظام العتيد الملكية الخاصة والأسواق الحرة، التي - عند فوكوياما دائماً - تضمن ازدهاراً واسعاً، لكنّه لا يشير فيما إذا كان يتعيّن لهذه العناصر أن تتراصف معاً أم أن المسألة انتقائيّة، كما لا يوضّح كيف تَضْمَنُ السّوق الحرّة ازدهارا واسعاً وكل ما شهده العالم إلى الآن خلال القرن الأخير كان سلسلة من الأزمات الرأسماليّة المتعاقبة من كساد نهاية عشرينات القرن الماضي إلى الحلقة الحاليّة بداية من 2008. وبدلاً من الإجابة عن هذه التساؤلات المحوريّة يسوق للقراء شريعة مختلطة لا داعي لها من أفكار هوبز ولوك وروسو وجيفرسون وكانط، كما واضعي الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان (1789)، ليذكرنا بأن الليبرالية والديمقراطية قد لا تجتمعان دائماً، فهناك ديمقراطيات غير ليبرالية (الهند مثلاً) وليبراليات غير ديمقراطيّة (سنغافورة مثلاً)، وهو أمر لا يخدم قضيّة الليبراليّة بأي شكل، ويجعل منها رداء فضفاضاً يرتديه حلفاء الغرب على أمزجتهم الخاصّة.
وبعد متاهة من التعريفات والتجريدات، ينتقل فوكوياما إلى هدفه الأساسي: مواجهة الساخطين على الليبرالية الكلاسيكية: اقتصاديو السوق الحرة المتطرفة على اليمين والأخطر منهم النقاد الاجتماعيون والثقافيون على اليسار، محاولاً التصدي للإخفاق الذي ألصق بالليبراليّة حول التفاوتات الاقتصادية التي نمت في الغرب، خصوصاً في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على مدى السنوات الـ40 الماضية. ويعزو فوكوياما ذلك إلى النظريّة «النيوليبرالية» في الاقتصاد، التي يراها تشويهاً لليبرالية الكلاسيكيّة وتجديفاً عليها، وهي التي عنده تتمتع بوظيفة اجتماعيّة أكبر كثيراً من مجرد تعظيم الكفاءة الاقتصادية لرأس المال الحر. وسخر بعض النقاد من تنصّل فوكوياما من فظائع النيوليبراليّة، وهو الآتي من قلب المحافظين الجدد والمستشار لإدارة ريغان، حتى لكأنه بدا لوهلة في بعض مقاطع الكتاب كمنظّر ديمقراطي اجتماعي من الدّول الإسكندنافيّة.
ومع ذلك، احتفظ فوكوياما بمعظم دفاعه للتصدي ليسار ما بعد الحداثة، لا سيّما أولئك الذين شقوا سياسات التسامح مع التعدد إلى تخندقات جندريّة وجنسيّة وعرقيّة ودينيّة تسببت في شق المجتمع، بل من توسيعه أفقياً. ويلقي باللوم تحديداً على اثنين من (المخربين) الفرنسيين المشهورين، ميشال فوكو وجاك دريدا، اللذين تسببا فوق ذلك بـ«أزمة معرفية» من عدم الثقة في السلطات العلمية والواقع الموثق، الأمر الذي وفّر المادة الخام لتشييد ما يسميه فوكوياما أوهام «اليمين القومي الشعبوي» المناهضة للسلطات الليبراليّة.
تنتهي المرافعة الفوكوياميّة إلى تقديم قائمة قصيرة من المهام الحميدة لدعم الوسط الليبرالي: حكومة فعالة غير شخصية، تفويض ديمقراطيّ بالسلطة، مكافحة الاحتكار، خصوصاً بالنسبة لوسائل الإعلام الجماهيري الكبيرة ووطنية ضد المخطئ، لا الآخر. ورسالة الكتاب الأساسية هي أن الديمقراطية الليبرالية تظل أفضل طريقة لترتيب أوضاع المجتمع، ربما مع إيلاء مزيد من الاهتمام لتحسين بعض الجوانب السلبية للسياسات الاقتصادية الليبرالية وتبنّي مزيد من الاحترام للآراء وأشكال الحياة التقليدية. وفوكوياما في ذلك لا يختلف عن المثقفين الليبراليين المصابين عامّة بعقدة التفوق، والذين يصرّون على أن التاريخ اختارهم ليسير إلى جانبهم وحدهم، مبشراً بالحريات الفردية المتسعة ومذيباً للقيود الخانقة للاعتقادات الدينية والفخر القوميّ والولاء القبلي وحتى الالتزام الأسري. فوكويوما، ليس في النهاية إلا نتاج عصر الغطرسة الليبراليّة لحظة انقضاء الحرب الباردة، ويبدو في كتابه الأخير هذا أنّه لن يبرأ من نوستالجيا لحظة الانتصار تلك.
إن متاعب الليبرالية اجتماعية وبنيوية، وأكثر بكثير من أن تكون مجرّد مناورات فكرية وتلاعباً بالتسميات والمصطلحات. ولا شكّ أنّ تصحيح إخفاقاتها، ناهيك بتطويرها كمشروع سياسيّ تقدميّ ملهم، سوف يتطلب أكثر من مجرد التحليلات الذاتية التي يمكن لفوكويوما وغيره من نجوم الأكاديميا امتلاك رفاهيّة كتابتها، فيما يدفع الملايين من الناس العاديين - الساخطين الحقيقيّين على الليبرالية - ثمن أخطائهم الفادحة وسوء تأويلهم لمالآت الأمور وتقلبات الأزمنة.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.