محمود درويش ورنا قباني: السقف المنخفض للمؤسسة والسقف العالي للأحلام

محمود درويش ورنا قباني
محمود درويش ورنا قباني
TT

محمود درويش ورنا قباني: السقف المنخفض للمؤسسة والسقف العالي للأحلام

محمود درويش ورنا قباني
محمود درويش ورنا قباني

كان درويش أكثر تحفظاً من رنا قباني فهي لم تتردد في الكشف عن المطبات الصعبة التي دفعت الطرفين إلى الانفصال
قل أن ترددت في تناول الحياة العاطفية والزوجية لأحد من الكتاب، كما هو الحال مع محمود درويش. ليس فقط لقلة المصادر المدونة التي تناولت علاقة درويش بالمرأة، بالقدر الكافي من الوثوقية والعمق، بل لأن شاعر «ورد أقل» لم يشأ من جهته أن يسرب إلى الخارج، باستثناء قلة من أصدقائه الأقربين، سوى النزر القليل من مغامراته العاطفية مع نساء حياته «الكثر». ربما بسبب تحفظ سلوكي مرتبط بنشأته الريفية، أو خجل مقيم في أعماقه، كما وصفه صديقه الأثير غانم زريقات، وربما رغبة منه في مواراة شؤونه الحميمة خلف سياج شائك، لكي يوفر لأسطورته الشخصية ما يلزمها من الغموض والكتمان. أما السبب الآخر للتردد، فيتمثل بحاجة الفلسطينيين والعرب، إلى مجموعة من الرموز الأيقونية التي تحتاج إليها الأمة المأزومة للانعتاق من واقعها السوداوي وصورتها «الأرضية» القاتمة. والأرجح أن مثل هذه العملية التحويلية لا تستقيم إلا من خلال إلباس الرموز المعنية لباس المقدس نفسه، وإحاطتها بالتالي بهالة ميتا - جسدية لا يجوز انتهاكها والمس بها. على أن هذه ظاهرة الأيقونة تلك لم تقتصر على درويش وحده، بل هي تطال رموزاً أخرى مماثلة من طراز أسمهان وأم كلثوم وفيروز وغسان كنفاني، وآخرين غيرهم، حيث كانت الأعمال الفنية والأدبية المتصلة بسيرهم الشخصية، محلاً للرفض والتوجس والاستنكار.
والواقع أن محمود درويش كان على امتداد حياته موضع إعجاب الكثير من النساء، لا بسبب شاعريته المرهفة والعالية فحسب، بل لما كان يمتلكه من وسامة وذكاء حاد وكاريزما شخصية لافتة. ومع ذلك فلم يكن محمود من النوع الاستعراضي في علاقته بالنساء، ولم يذكر في قصائده عنهن أي واحدة بالاسم، خلافاً لما هو حال الكثير من شعراء العالم ومبدعيه. ومع أن البعض يعتقدون أن قصائد الحب التي كتبها صاحب «سرير الغريبة» لم تكن تتمحور حول امرأة بعينها، بل هي طريقته المواربة في التعبير عن حبه لفلسطين، فإن الشاعر ينفي ذلك بشكل قاطع، مؤكداً، في حواره مع عبده وازن، أن المرأة ليست مجرد أداة للكناية والترميز الوطني والنضالي، بل يحق لها أن تمتلك كينونتها القائمة بذاتها، ثم يضيف: «كل ما أكتبه في الحب أو سواه، ناجم عن تجارب حية، حتى لو أخذت الكتابة مجرى آخر يخرج عن سياق حادثة الحب».
ومع أن ريتا التي ذكرها محمود بالاسم في غير قصيدة له، كانت استثناء القاعدة، فقد تبين لاحقاً أن هذا الاسم ليس حقيقياً، وأن ملهمة الشاعر في مطالع صباه، لم تكن سوى الفتاة اليهودية تامار بن عامي، التي ربطته بها علاقة عاطفية قصيرة، قبل أن تجبرهما حرب حزيران عام 1967على العودة إلى معسكريهما المتصارعين بشكل لا هوادة فيه. ورغم أن شاعر فلسطين الأبرز لم يكن يرغب في إسقاط القضايا السياسية والوطنية الكبرى على علاقته المرأة، فإن هذه العلاقة قد تجاوزت بُعدها العاطفي الثنائي لتتلمس رمزيتها الدالة في المنطقة الملتبسة بين الأسطورة والتاريخ، ولتصبح مع تبادل الأدوار، نسخة أخرى معاصرة عن العلاقة الصعبة بين شمشون اليهودي ودليلة الفلسطينية. وحتى لو لم تكن ريتا الحقيقية هي تامار، بل الكاتبة اليسارية تانيا ريهارت كما يذهب البعض، أو الشاعرة الإسرائيلية داليا ريبكوفيتش، كما يذهب البعض الآخر، فإن ذلك لا يلغي «الواقعة» العاطفية التي أقر الشاعر نفسه بحدوثها. ولا أستبعد من جهتي أن تكون ريتا - القصيدة مزيجاً من هؤلاء جميعهن، خصوصاً أن درويش قد أشار في غير موضع إلى مثل هذا التداخل، تماماً كما كان شأن بابلو نيرودا، الذي يكن له محمود إعجاباً كبيراً، مع نساء قصائده.
إلا أن نظرة متفحصة إلى علاقات درويش العاطفية، لا بد أن تقودنا إلى الاستنتاج بأن علاقته بالكاتبة والباحثة السورية رنا قباني، هي بينها الأبرز والأعمق والأكثر اتصالاً بقلبه وعقله. أما واقعة لقائهما الغريبة فقد كشفت قباني بنفسها عن تفاصيلها المؤثرة عبر سلسلة من المقالات التي نشرت في إحدى الصحف العربية قبل سنوات. فقد التقى الطرفان عن طريق الصدفة، حين كانت رنا بعد على مقاعد الدراسة في واشنطن، وقررت بعد إلحاح من صديقة لها حضور الأمسية التي دعي الشاعر لإحيائها في جامعة جورج تاون. ورغم إعجاب قباني الفائق بشعر درويش فقد قررت أن تجلس في الصفوف الخلفية للقاعة، لأن الصفوف الأمامية تكون في العادة محط أنظار المشاهير من السياسيين والفنانين والكتاب المخضرمين، فيما الفتاة اليافعة التي تأنف من الرسميات، وتنتعل صندلاً مخملياً بكعب عالٍ وتطلي أصابع قدميها بالأسود، كانت تجد في المقاعد الخلفية ضالتها المناسبة. ولم يكن يدور في خلد ابنة السفير المثقف صباح قباني، شقيق الشاعر نزار، أن المفكر السياسي كلوفيس مقصود حين جرها من يدها إلى الصف الأول من القاعة وقدمها لدرويش، بدا وكأنه يقود حياتها نحو مصير آخر ووجهة مختلفة.
«هل تتزوجينني؟»، قال الشاعر الثلاثيني للفتاة الدمشقية الياسمينية ذات التسعة عشر ربيعاً، متخطياً فارق السن والظروف الاجتماعية من جهة، وخوفه المرَضي من قيود المؤسسة الزوجية من جهة أخرى. وبقدر ما كان السؤال صادماً لرنا، كان الجواب بالموافقة مفاجئاً لمحمود، الذي أقدر أنه كان في أعماقه يرغب في أن تكون الصبية الحسناء منجم إلهامه الشعري، لا امرأة الواقع «المسفوح» على مذبح الرتابة والتفاصيل اليومية النثرية. وقبل أن يتاح لكل من الطرفين أن يعود إلى عقله، وإلى تحليله المنطقي لمجريات الأمور، راحت الأحداث تجري بسرعة قياسية، بدءاً من التشريع العاجل للزواج، مروراً بالمحطة الباريسية واللقاء بعز الدين القلق، ووصولاً إلى المنزل الزوجي الواقع في الطابق الثامن من أحد مباني بيروت، الذي كان عليها أن تحمل حقيبتها الثقيلة، وتصعد إليه بسبب انقطاع الكهرباء سيراً على القدمين. وفي ظل انقطاع المياه وغياب التدفئة وتحول العاصمة اللبنانية إلى مدينة للأشباح، كان الجانب الرومانسي من العلاقة يخلي مكانه لمشاعر أخرى أكثر تعقيداً وأقل وردية من ذي قبل.
ومع أن العلاقة بين الزوجين الطافحين بالأحلام، بدت على مستوى السطوح الظاهرة مثالية ومتناغمة ومترعة بالأمل، وسط شقاء بيروت الرازحة تحت وطأة حربها الأهلية المدمرة، إلا أن الأعماق كانت تستبطن مآلات للأمور مغايرة تماماً. لا لأن نيران الافتتان تحتاج لكي تظل قيد الاشتعال إلى حطب المسافة ووقود الشغف فحسب، بل لأن المسرح الضيق للعلاقة، أتاح للفروق الشخصية الواسعة التي حجبها وهج المغامرة الجريئة، أن تكشف عن نفسها دون مواربة أو تمويه. وإذا كان محمود أكثر تحفظاً من رنا قباني في الكتابة عن تلك التجربة، فهي لم تتردد في الكشف عن المطبات الصعبة التي دفعت الطرفين إلى الانفصال بعد تسعة أشهر من الزواج، قبل أن يعطيا نفسيهما فرصة ثانية استمرت لسنتين اثنتين، ثم آلت بعد ذلك إلى انفصال بائن.
تقر رنا قباني في غير مناسبة، أن ظروف نشأتها المدينية والعائلية التي وفرت لها أسباب اليسر المادي والتحصيل الثقافي والمعرفي المتنوع والتحرر النسبي من التقاليد، تختلف اختلافاً بيناً عن نشأة درويش الفقيرة والشائكة التي أتاحت له أن يتكيف، بخلافها، مع كل أنماط الحياة وأكثرها شظفاً وقسوة. ومع أنها كانت تتشاطر مع محمود شغفه بالقراءة والاطلاع، مع ولع خاص بالرواية والشعر والدراسات التاريخية والدينية والفكرية، فهي لم تخفِ عجزها عن التأقلم مع واقعها الجديد المكتنه بالقلق والخوف والتواضع المادي، الذي يفتقر إلى الخصوصية والأمان وهدوء النفس.
أما العامل الآخر الذي أسهم في تقويض العلاقة ومنعها من الاستمرار فيتمثل على الأرجح في إقبال رنا على الزواج في عمر صغير، وقبل أن تمتلك النضج والخبرة الحياتية الكافية للوصول بهذه المغامرة نحو خواتيمها السعيدة. ومن يتابع مسيرة قباني اللاحقة لا بد أن يلاحظ مدى النضج والخبرة الحياتية، اللذين لم يكونا ليتوفرا لها في مقتبل العمر. لكن درويش من جهته، لم يبذل الجهد الكافي لاستيعاب وضع زوجته الصعب والإشكالي، بل كان هو الآخر مسكوناً بمخاوف من نوع آخر تتعلق ببساط الحرية الذي بدأت تسحبه من تحت رجليه الموجبات الباهظة للمؤسسة الزوجية. وقد نقل عنه أحد أصدقائه الأقربين أنه لدى شروع زوجته في تعليق ملابسها في خزانة ثيابه، انتبه فجأة إلى تناقص الهواء من حوله، وإلى انكماش المساحة المخصصة لمزاولة طقوسه اليومية الصغيرة، فلم يجد ما يعبر به عن خوفه من المجهول، سوى الذهاب إلى مكان خلفي والاستغراق في نشيج مكتوم.
«كانت علاقتي بمحمود بركانية وعاصفة»، تقول رنا في أحد حواراتها المتلفزة. إلا أنها إذ تقر من ناحيتها بأن للعلاقة وجوهها الإيجابية المتمثلة بالمتعة الفائقة التي وفرتها لها الأسفار العديدة مع زوجها الشاعر، وإسهام محمود في تعميق وعيها السياسي والنضالي، تعترف في الوقت نفسه بحصتها من المآل المأزقي لعلاقتهما المتداعية، فتقول «الكاتب إنسان مريض ومضطرب، وهو ما أنا عليه أيضاً. وقد اخترت من اخترت لأنه يشبهني، إذ يصعب زواجي من صيرفي على سبيل المثال». وإذ تؤكد قباني أن محمود قد خصها بغير نص شعري من نصوص تلك الفترة، ومن بينها «قصيدة الرمل»، تنوه في الوقت بأناقة زوجها الباذخة وسخائه الاستثنائي، وبأنها اعتادت بشكل يومي على تلقي وروده وهداياه. إلا أن كل ذلك لم يمنعها من الاعتراف بأن درويش لم يخلص في قرارته إلا لقصيدته، وبأنه «لم يُخلق ليكون أباً وزوجاً ورب أسرة. إنه شاعر رائع ولكنه زوج فاشل».
إلا أن وضْع ما قالته رنا عن محمود في موضع التجني على الشاعر، هو افتئات على الحقيقة التي يعرفها الجميع، والتي كان درويش يجاهر بها أمام أصدقائه الأقربين دون أي شعور بالتحفظ أو الحرج. لا بل إن درويش لم يتردد، أثناء لقاء جمعني به وبممدوح عدوان في القاهرة، في التحدث عن الزواج بوصفه المحاولة المثلى لاغتيال الإبداع. على أن ما لفتنا يومها كان موقفه الأكثر سلبية من الإنجاب، الذي اعتبره محمود أخطر على الكاتب من الزواج نفسه، لأن بوسع الرجل أن يطلق امرأته متى شاء، ولكن ليس بوسعه التخلص من أطفاله. وحيث تحدث مستطرداً عن إكراه زوجته الحامل رنا قباني على التخلص من الجنين، كان يلح على التوضيح بأنه لم يفعل ذلك بتأثير من أنانيته العالية أو بسبب كرهه للأطفال، بل لأنه أوهن من أن يتعايش، ولو في الخيال، مع ما يمكن أن يواجهه طفله المرتقب من احتمالات الألم أو المرض أو الموت المبكر.
لم يكن بالأمر المفاجئ تبعاً لذلك أن يجد الزوجان المتشابهان في التكوين المزاجي، والمختلفان في طريقة العيش وأنماط السلوك والرؤية إلى الأشياء أمام خيار الانفصال، الذي لم يتأخرا عن تنفيذه قبل أن ينهيا العام الأول من حياتهما المشتركة. كما لم تفلح الفرصة الثانية التي منحاها لنفسيهما، والتي استمرت لسنتين إضافيتين، في تضييق ما بينهما من فروق وتباينات. ولهذا كان انفصالهما نهائياً هذه المرة، حيث اختارت رنا أن تكمل دراستها في أوكسفورد، لترتبط بعد سنوات بالصحافي البريطاني المعروف باتريك سيل، الذي ما لبثت أن انفصلت عنه بفعل قراءتهما المتغايرة للثورة السورية. ولم يكن نصيب محمود من زواجه الثاني بالكاتبة والمترجمة المصرية حياة الهيني، بأفضل من نصيبه من زواجه الأول، رغم أنه سقط في الحالتين بسرعة قياسية، وبما يمكن أن نسميه «ضربة الجمال المفرط». وإذا لم نكن قادرين على التأكيد أو النفي أن درويش قد خص زوجته الثانية بقصيدته الشهيرة «يطير الحمام»، ما دام يجانب على عادته ذكر نسائه بأسمائهن، فإن المؤكد بالقطع هو عجز الشاعر الملول عن الركون لفترة طويلة إلى قيود المؤسسات وتبعاتها، سواء كانت هذه الأخيرة سياسية أو اجتماعية أو زوجية. وهو ما يؤكده قول الشاعر بعد انفصاله السريع وبلا ضجيج عن زوجته المصرية: «انفصلنا بسلام. لم أتزوج مرة ثالثة ولن أتزوج. إنني مدمن على الوحدة، ولم أشأ أبداً أن يكون لي أولاد. قد أكون خائفاً من المسؤولية، والشعر هو محور حياتي، فما يساعد شعري أفعله، وما يضره أتجنبه».



جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).