المبخوت لـ(«الشرق الأوسط»): روايتي توثيق للأحلام الإنسانية وعذاباتها

بمناسبة فوزه بالجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»

الروائي التونسي شكري المبخوت و غلاف «الطلياني»
الروائي التونسي شكري المبخوت و غلاف «الطلياني»
TT

المبخوت لـ(«الشرق الأوسط»): روايتي توثيق للأحلام الإنسانية وعذاباتها

الروائي التونسي شكري المبخوت و غلاف «الطلياني»
الروائي التونسي شكري المبخوت و غلاف «الطلياني»

لم يكن فوز الأكاديمي والروائي التونسي شكري المبخوت، بجائزة «بوكر» العالمية للرواية العربية عن روايته «الطلياني»، الصادرة عن «دار التنوير» في بيروت، مفاجئا، فروايته كانت من بين الروايات الست التي تم اختيارها. والرواية تتمتع بروح ملحمية، وشخصيات مركبة، وإشكالية، لا تصارع من أجل بقائها بل من أجل المحافظة على القيم والمبادئ التي آمنت بها. فكان طريقها طويلاً ومعقدًا ومليئًا بالعذابات الإنسانية العميقة، كما يؤكد الروائي. والرواية على أي حال، تسجل التحولات الكبرى من عهد بورقيبة وبداية عهد بن علي، حتى صراع الإسلاميين مع اليساريين وانهيار نظام سياسي بكامله، ولكن ليس بطريقة تاريخية خالية من الخيال والفكر والمتعة والعاطفة، فالروائي لم يكن مؤرخًا في «الطلياني»، بل رائيًا يبصر المستقبل بعين الروائي الثاقبة، والمليئة بالعواطف والهواجس والآمال.
بعد فوزه بالجائزة أجرينا معه هذا الحوار:

* هل تعتقد أن روايتك سياسية بالدرجة الأولى، في وقت لا نرى أي تجسيد لهذا الاتجاه إلا فيما ندر، لأن الرواية العربية الحديثة تتجه نحو الذاتية وتبتعد عن تجسيد التحولات الكبرى في العالم العربي، فما رأيك، أيهما سيغلب التاريخي أم الشخصي؟
- لا يُزعجني أن تُعتبر روايتي «الطلياني» سياسية. وفي الوقت ذاته، أعتقد أن اختزالها في الجانب السياسي لا يحيط بتنوّع الحوامل الموجودة في طياتها وأحشائها، لأن هذه الرواية تتقدم في مسارين، اجتماعي ثقافي عام، وشخصي حميمي في الوقت نفسه. بل هناك على الأصح، تشابك بين هذين المسارين بصورة جدلية. لنقل إذن إن الرواية لا تتناول المسألة السياسية في معناها الضيق، بل هناك تحدٍ للرقابة في الإعلام، من خلال تجربة بطل الرواية عبد الناصر في صحيفة حكومية إنما يعبّر عن الهاجس السياسي المتأصل في أعماقه.
* هل يمكن القول إن تجربة عبد الناصر هي تجسيد لآمال وهموم جيلك بالذات أو الجيل الذي عاصرته وعرفت عوالمه الخفيّة؟
- أعتقد أنها سياسية في تذكير جيلي وموقع هذا الجيل من مسار تطور تونس بشيء من الموضوعية المشوبة بشيء من النرجسية. هذا الجيل في رأسي، هو من أهم الأجيال التي عرفتها تونس في تاريخها. شخصيًا أعرف جيل العشرينات الذي غيّر الكثير من المفاهيم، جيل أبو القاسم الشابي والطاهر حداد ومحمد علي الحامدي وغيرهم. والجيل الذي عاش في الثمانينات باعتباره ابنا شرعيا لدولة الاستقلال، وخصوصا لجيل ولمدرسة الجمهورية، بدليل أن أهم الفاعلين السياسيين الموجودين الآن في تونس يمينًا ويسارًا وما بينهما، هم من أبناء هذا الجيل الذي كان يعمّر ساحات الجامعات أفكارا وخطبًا وأحلامًا وعنفًا أيضًا. لا فائدة من ذكر الأسماء. هذا يعرفه كل تونسي متابع للشأن العام. إنه جيل رأى ملجأ مليئا بالحياة والأحلام، ولكنه أيضا جيل الانكسارات والخيبات، وبهذا كانت شخصية عبد الناصر في الرواية تركيبًا وتأليفًا بهذه الخيبات المبهّجة.
* كيف اختمرت فكرة روايتك، هل جاءت من هذه الأتون التي ذكرتها، ما هو اكتشاف الرواية بالنسبة لك؟
- كُتبت هذه الرواية في فترة لم تتجاوز الخمسة أشهر، وكانت في مخطوطها الأصلي ضعف ما هو منشور. خرجت هذه الرواية كالطلقة، مثلما قال يحيى حقي عن روايته، ولم يكن لها من راد إلا الوصول بها إلى الجملة الأخيرة. كتبتها دون تقسيم مسترسلة بلا عناوين. ولك أن تحذف العناوين وتقرأها، فتراها متماسكة. والواقع لم أختر الرواية بل هي التي اختارت أو انتدبت نفسها لتكون مجالاً للقول في الهواجس التي سكنتني، والمخاوف والآمال والخيبات التي انتشرت في كياني وفي نفسي وفي ذهني. كتبت أحلامًا مجهضة وأوضاعا لأفراد وهم يتشوقون لحريتهم ولكن طريقهم إلى الحرية كان مليئًا بالعقبات.
* عندما كتبت روايتك، هل كان في ذهنك بعض النماذج من الروايات العربية أو العالمية أردت أن تحذو حذوها أو تكتب رواية مشابهة لها؟
- صدقًا لم يكن أمامي أي أنموذج ولكن قد تكون النماذج كلها انصهرت من دون أن أكون واعيًا بذلك. ما أعرفه وما أنا متأكد منه أنني كنت حريصًا على أن أكتب رواية بنكهة تونسية صرفة لا يستطيع أي كاتب عربي أن يكتبها. وأظن أن هذا قد تحقق في عملي، وليس ذلك من باب كذبة المحلية، ولا من باب القول الشائع إننا لا نصل إلى العالمية إلا من خلال المحلية، بل بدافع أبسط من ذلك وهو أن التاريخ التونسي والفسيفساء الثقافية التي تنسجها، جديرة بأن تحكي سرديتها خارج عقدة نقص بإزاء المغرب أو المشرق وخارجه، عقدة أننا الأفضل، وما الإنسان التونسي أي إنسان في مكان له خصائصه وسماته وهشاشته وعبقريته وهذا أيضا لا تقوله المفاهيم إلا بصفة محدودة بل تقوله بالخصوص وأساسًا تجليات الإنسان في محيطه وسياقاته ووضعيته المخصوصتين.
* ما قراءاتك في الرواية، عربية كانت أم أجنبية؟
- لست متابعًا جيدًا للرواية. أحب الشعر أكثر، ولكنني لم أنقطع عن قراءة الرواية في نماذج كثيرة أغلبها ما يشتهر على ألسنة الأصدقاء لأنني كنت متفرغًا أن أنتقي. ما يشير به علي أصدقائي أو ما تكشفه الجوائز المحترمة كالبوكر العربية أو الغونكور الفرنسية أو نوبل العالمية. ولكن لا أخفي عليك أنني من النوع البطئ في القراءة، وكل رواية مهما كان اسم كاتبها إذا لم تشعرني بعد قراءة خمس عشرة أو عشرين صفحة، أطرحها بظاهر اليد وأتركها من القراءة. أنا كالطفل الذي ينبغي أن تشده الحكايات، ولكن لست على هذا القدر من السذاجة أن يهمني كثيرًا أن أستكشف الأسئلة الفلسفية التي من أجلها سبقت الرواية. وهذا ما أجده لدى الروائيين الكبار. لا فائدة من ذكر الأسماء لكنني أحب أن أذكر نجيب محفوظ لأنه يجسد في ذهني هذا الصنف من الحكايات الجميلة القائمة على أساس فلسفي، يتسرب في ثنايا الحكاية ليقدم نصوصًا ذات مستويات متعددة يفهم لها القارئ العادي الحبكة السردية، وتفتح لك المجال لتكتشف ما وراء منطق السرد من قضايا إنسانية جوهرية. لست ممن يميل كثيرًا إلى الجماليات الخالصة، أو التجريب الجذري الذي يُسائل إلى حد تهشيم قواعد الجنس الروائي، مع احترامي لبعض الكتابات التجريبية في الرواية، لأنني أعتبر هذه الجماليات صنوًا للالتزام الفكري والأخلاقي بما سميتّه من قبل عذابات الإنسانية. فالكتابة فعل خطير وعلينا أن نأخذه بجدية وإلا أصبح لغوًا وثرثرة تضيف إلى الألم الإنساني ألمًا آخر.
* هل تعتقد أن الرواية التونسية استطاعت أن تعبّر عن تحولات المجتمع التونسي أم أنها نكصّت عنه؟
- أولاً توجد أعمال روائية مهمة في تونس تصدّت إلى تناقضات المجتمع والصراعات والتحولات فنيًا، تتوفر على قدر كبير من النجاح، لكنها للأسف الشديد، لم تنتشر عربيًا بحكم ضعف التوزيع وغيره ذلك من الأسباب المتعلقة بتسويق الكتاب. غير أن السبب الأعمق هو أن قلة قليلة من الكتّاب متفرغة لمشروع أدبي مسترسل متواصل يُراكم الكتابات. والسبب الآخر، هو أن الرواية تتطلب بعدًا تأمليًا لا تنفع معه أن تحكي حكاية جميلة، بل يحتاج إلى معالجة الأحداث والوقائع سرديًا بما يكشف عن المعنى الكامل وراءها، والمغزى الذي يُستخلص منها. ويوجد سبب ثالث بعد هذا، هو أن الرواية التونسية في الثمانينات ولمرحلة قريبة، خاضت مغامرة التجريب الروائي متأثرة بالتيارات الأدبية من الشرق والغرب، راغبة باسم التجديد عما تعتبره بناء كلاسيكيًا في الرواية، وهذه التهمة وُجهت إلى «الطلياني» وكأن الرواية التي تحكي حكاية لها بداية وتحولات تفضي بها إلى منتهاها أو إلى نهايتها توسم بالكلاسيكية. وأعتقد أن هذه الحكاية هي الهيكل العظمي الضروري لصياغة رواية تستطيع أن تعبّر عن الزخم الذي جاء في سؤالك.
* لماذا نجحت «الطلياني» في نظرك، هل لأنها رواية التحولات أم لأنها جمعت بين متعة السرد والتخييل والتسجيل الوثائقي لمرحلة من مراحل تونس الملتهبة؟
- نجاح «الطلياني» في نظري يبرر ليس في الجائزة، فقد حصلت على جائزتين محليتين «الكومار» وجائزة «معرض الكتاب» في تونس، بل يكمن في الحظوة التي وجدتها لدى القراء داخل تونس وخارجها، خصوصًا لدى فئتين لم يخطر ببالي أنهما تهتمان بالرواية، أقصد فئة الشباب أي من عمر الـ18 إلى 25 أو 30 عامًا. كنت أتوهم أنهم لا يعرفون سوى المواقع الاجتماعية و«فيسبوك»، وإذا بهم قراء نبهاء. والفئة الثانية كانت هي فئة القراء الفرانكفونيين في تونس، الذين يَندُر أن تشدهم رواية بالعربية، فوجدوا لغة «الطلياني» يسيرة التناول تسمح لهم بأن ينفذوا إلى عوالمهم. لكن أهم سبب في تقديري وراء هذا النجاح، هو شخصية عبد الناصر «الطلياني» وشخصية زينة. يبدو أنهما نسختان فاتنتان مركبتان تكشفان عن تردد الإنسان، بما يجعل القارئ حين يفرغ من مطالعة الرواية، يتذكر ما حوله، شخصان لم يعودا مصنوعين من الحبر والورق، بل من لحم ودم يتجولان في المجتمع.
* أخيرًا هل هما شخصيتان واقعيتان أم من نسج خيالك الروائي؟
- لا أبدًا شخصيتان من محض الخيال، ولكنهما مصنوعان من ملامح شخصيات كثيرة قد تكون عشتها، ومن حكايات بعضها بلغتني خبرًا وبعضها الآخر أخذت مما عايشته، ولكنني دفعت بنواة تلك الحكايات إلى أبعاد تخييلية قصوى. فليست الأشياء الواقعية صالحة للرواية عكس ما قد نتوهم. وحتى إذا كانت تصلح مادة روائية فلا بد من إدراجها في عالم متناسق متماسك تصنعه بالفكر والخيال. أعتقد أن الرواية تقول الحقيقة ولكنها عاجزة عن قول الواقع، لأن الحقيقة هي الجوهر في هذا الواقع، ويستحيل علينا أن نقول الواقع باللغة الحرفية، نحن نكذب لكي يكون الواقع أصدق وأجمل.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.