«قوس النصر»... عن الفن الشمولي في الدول المستبدة

«قوس النصر»... عن الفن الشمولي في الدول المستبدة
TT

«قوس النصر»... عن الفن الشمولي في الدول المستبدة

«قوس النصر»... عن الفن الشمولي في الدول المستبدة

العراقيون حاصرتهم رموز سطوة القائد المريعة حيث صور وملصقات صدام في كل المتاجر والمطاعم والمباني وكل وسائل الإعلام

كتاب كنعان مكية، هو الطبعة الثانية المعدلة والموسعة من كتاب «النصب التذكارية: الفن، الابتذال والمسؤولية في العراق»، الذي صدر عام 1990 باللغة الإنجليزية، وصدرت ترجمته العربية باسم مستعار (سمير الخليل) عام 1991، ومع التغيرات الجديدة والإضافات الكثيرة، أصبح كتاباً جديداً يحمل عنوان «قوس النصر... الفن الشمولي في عراق صدام حسين»، الصادر عن «دار الجمل»، الذي لم يتناول بالتحليل كل النصب الموجودة في بغداد، بل نصباً واحداً، هو ذلك الذي صممه صدام حسين، وأعطاه اسم قوس النصر.
بعد كل ما حدث في العراق «الجديد» منذ عام 2003، ما معنى «مواجهة» نصب قوس النصر اليوم؟ يقول مكية: «مواجهة النصب» عملية استذكار تقابلها عملية نسيان. ولكن النسيان لا يحدث بتدمير رموز أنظمة الماضي، لأننا في اللحظة التي نختار كشعب أن يتحول هذا النصب إلى رمز لاستذكار قسوة النظام السابق، ينقلب معناه الأصل الذي أراده صدام إلى عكسه تماماً. لن يعود رمزاً يمجد الاستبداد، بل شاهد على ذلك الاستبداد نفسه.
وقد يسقط نظام حكم ليحل مكانه نظام حكم جديد، ولكن القبح والابتذال المقترن بالأول يتفاقمان في الثاني. هذا هو الدرس الحقيقي لما شيد في ساحات النجف والكوفة، وما يماثلها في سائر مدن العراق. ليس هناك شك في أن العلاقة وثيقة بين قبح قوس النصر الذي ترجع فكرته إلى خطاب ألقاه صدام حسين في 22 أبريل (نيسان) 1985، وسيوف النجف والكوفة المبتكرة في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. لقد تسربت القيم الجمالية التي أرساها الطاغية عبر الأجيال، لتضرب اللاوعي العراقي في الصميم، حد أنها شوهت إنسانية العراقي. بدأنا بقبح الشكل والرمز والمادة التي جاءتنا في الدولة الشمولية في العراق (1986 - 2003)، ولكننا انتهينا إلى ما هو أهم من ذلك بكثير؛ هبوط أخلاقي شامل يمثل خطراً على مستقبل كل عراقي.
في كتابه هذا يحيلنا كنعان مكية إلى كتاب المفكر الروسي إيغور غولومستوك الموسوعي حول الفن الشمولي في عهد أربعة من أكثر الأنظمة شمولية في القرن العشرين، وهي: الاتحاد السوفياتي، والرايخ الثالث، والفاشية الإيطالية، وجمهورية الصين الشعبية، حيث يبين هذا المؤرخ الروسي أنه لا يكتب عن «الفن المنتج في عهد الأنظمة الشمولية»، وإنما يعالج طبيعة «الفن الشمولي»، أي أنه يعد هذا الفن صنفاً من أصناف الفنون التشكيلية وظاهرة في ذاتها، تمتلك آيديولوجيتها ونظرتها الجمالية وأسلوبها الفني الخاص.
وكان المؤلف قد تعامل مع قوس النصر في كتابه الصادر عام 1991، بوصفه مثالاً بارزاً على الفن الهابط أو المبتذل، وقارن صدام حسين بهتلر من وجهة نظر اهتمامهما الشخصي بالفن وبـ«أقواس النصر» في الدول التي كانا يحكمانها، لكنه لم يشر إلى «الفن الشمولي» كظاهرة عالمية. ويشير المؤلف هنا إلى أن غولو مستوك ذهب في الطبعة الثانية من كتابه التي صدرت عام 2011، إلى أبعد من الأمثلة الأربعة السابقة، ليضيف العراق إلى قائمة الدول التي أنتجت «الفن الشمولي»، واختار نصب صدام حسين نموذجاً للدراسة.
وعن النصب الذي شهد العراق افتتاحه في قلب بغداد في 8 أغسطس (آب) 1989، الذي وصف في بطاقة الدعوة التي وجهت إلى نخبة منتقاة من الضيوف بأنه «من أضخم الأعمال الفنية حجماً في العالم»، يشير المؤلف إلى أن صدام أعلن فكرته قبل انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية في خطاب له أبريل 1985، ومن ثم نشر رسمه الأولي لفكرة النصب مع مقطع من تلك الخطبة، في بطاقة الدعوة الرسمية... وصنع النموذج التمهيدي المصغر لقوس النصر في قوالب جبس لذراعي «الرئيس»، وقد أمسكت كل قبضة بسيف.
وفي فصل لافت، يضع المؤلف عنواناً لأحد فصول الكتاب وهو «آندي وارهول وصدام حسين»، وأوجه المقاربة بين الفنان الأميركي التي زينت لوحاته أرقى متاحف نيويورك وأشهر صالاتها الفنية، وصدام حسين، هو أنه بقدر ما يتعرض الأميركيون، لألوان ثقافة الدعاية والاستهلاك وتحيطهم الإعلانات من كل جانب في حياتهم اليومية، فإن العراقيين حاصرتهم بالمثل رموز سطوة القائد المريعة، حيث صور وملصقات صدام في كل المتاجر والمطاعم والمباني... والحضور اليومي في كل وسائل الأعلام، فيوم طبع وارهول علبة حساء كامبل بتقنية الشاشة الحريرية، كان ذلك بمثابة إعلان عن نظرة معينة إلى الفن والثقافة الشعبية، وفكرة «علبة الحساء» تقول: إنكم لم تروا العلبة على حقيقتها أبداً... والأمر نفسه مع الحضور الإعلامي، والإعلاني لصدام الذي من شأنه خلق ثقافة تؤثر لا شعورياً، أو من وراء الستار.



«فتنة الأطياف»... عن أفلام ومهرجانات ومجانين السينما

«فتنة الأطياف»... عن أفلام ومهرجانات ومجانين السينما
TT

«فتنة الأطياف»... عن أفلام ومهرجانات ومجانين السينما

«فتنة الأطياف»... عن أفلام ومهرجانات ومجانين السينما

عن «دار صفصافة» بالقاهرة (2025)، صدر حديثاً كتاب «فتنة الأطياف... أفلام ومهرجانات» للكاتب والروائي المصري سعد القرش، الذي جاء في تقديمه: وضعت البشرية ملامح الفنون: العمارة، والموسيقى، والرسم، والنحت، والشعر، والرقص. وبدلاً من الاستقرار والاطمئنان، هبّت عاصفة السينما، عصا موسى، فنّاً «يلقف» ثمار الفنون السابقة، ويضيف إليها. ويحتفظ الفن السابع لنفسه باسم يستعصي على الترجمة إلى اللغات. ظلَّت السينما «سينما»، كلمة واحدة دخلت اللغات كلها تقريباً، واستقرّت باعتبارها «سينما».

فتحت السينما لي، منذ الصبا، أبواباً على عوالم بلا ضفاف، وأضافت إلى عمري أعماراً، وأطلعتني على بعض السرّ، ورأيتُ اسمي ونسبي في شجرة عائلة يزيد أفرادها كلما صُنع فيلم يستحق المشاهدة، وظلت تثري روحي... متاهة تنافس «ألف ليلة وليلة» خيالاً ومتعة، منذ شاهدت عام 1980 فيلم «امرأة بلا قيد». كان يلائم أشواقي وفضولي لمعرفة هذا السحر. ثم قرأت رواية «الطريق» لنجيب محفوظ، وشاهدت معالجَتَيْن سينمائيتين واقعيتين دون المستوى الفلسفي للرواية. نجيب محفوظ هزم كلاً من حسام الدين مصطفى مخرج «الطريق»، وأشرف فهمي مخرج «وصمة عار». وبعد أن قرأت شابّاً رواية «ساعي البريد يدق الباب مرتين» نزّهتُ نجيب محفوظ عن اقتباس روح رواية جيمس كين. لكن صديقي الفلسطيني أحمد عمر شاهين، مترجم الرواية، عزّز الشك.

الفتى، الذي استجاب لنداهة السينما، رأى العالم بعيون المخرجين، واكتشف أن كل إبداع يؤدي إلى السينما، وأن لكل مبدع في السينما نصيباً أيّاً كان الفن الذي يجيده. وانجذب إلى أرباب الخيال. سوف يقابل يحيى حقي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش والطيب صالح والهادي آدم، وكمال الشيخ وصلاح أبوسيف ويوسف شاهين، ويحضر لقاء حاشداً لمارتن سكورسيزي في مكتبة الإسكندرية. سيكتشف شيئاً غريباً: كيف فاته أن تجمعه صورة مع أي منهم؟ باستثناء نجيب محفوظ؛ فالأضواء تربكه، وهو مصاب بفوبيا الميكروفون، ويحسد جسورين يُفنون أعمارهم في إدمان الكاميرا.

الفتى الذي سحرته الأفلام أقرّ بهذا الأَسْر المختار، ولا يودّ الشفاء. وإذا اضطرّ إلى المشاهدة عبر شاشة أليفة، لا شاشة السينما، استعد بما يليق بجهد صناع هذه الأفلام؛ فلا يمتهنها، وإنما يجهز ما يشبه الخلوة، ويبدأ المشاهدة عادة بعد منتصف الليل، ولا يهمه متى ينتهي. حدث أن شاهد، أيام أشرطة الفيديو، فيلم «جسور ماديسون»، ولم يشبع من طيف ميريل ستريب؛ فأدار فيلماً يشاهده للمرة الأولى، عنوانه «الوقوع في الحب». اختار الفيلم الثاني على شرف السيدة ميريل، وكافأه الفيلم بوجود روبرت دي نيرو. وكانت الشمس قد أشرقت، ولا يستطيع النوم بعد جرعة مكثّفة، فبدأ يوماً جديداً بكامل نشاطه. في كل ليلة خلوة، أو صحبة، مع فيلم.

الفتى، الذي تسلل إلى السينما، وحيداً في صيف 1980. لم يخرج. غادر عتمة القاعة إلى شمس العيد، ومن الرصيف المقابل تأمّل واجهة دار العرض، وجموع الداخلين إلى الحفلة التالية، وتمنى الرجوع، وإعادة المشاهدة، لكن الفلوس لا تكفي. لم يعد هو نفسه قبل المغامرة، وقد استقر الطيف في لاوعيه، واستجاب إلى «الندّاهة».

خرجتُ من العتمة إلى نور العيد، وقد انتزعت حقي في التجربة. لم أفكر أن هذا السحر سيكون بساطاً يحملني، وأنتقل وراءه، إلى بلاد بعيدة، من الهند إلى هولندا.

في السينما، أجد نفسي، ويتأكد لي أنها هي أجمل «حقيقة» اهتدى إليها الإنسان في نهاية القرن التاسع عشر، ولا أتخيل القرن العشرين وما بعده من دون السينما، أروع خيال خلقه الإنسان وصدقناه. بين المشاهد وصناع الفيلم عقد غير مكتوب. ما نشاهده محض خيال، سحر أسهم في صنعه كاتب ومخرج وممثلون ومونتير ومهندس ديكور وموسيقي، وإتقان الخيال حتى درجة التلقائية يجعله أكثر واقعية وصدقاً وجمالاً من أي حقيقة يعبر عنها. الفيلم يوحي أنه حقيقة، هو «الحقيقة».